عوض إبراهيم عوض
بقية الرحلة في ربوع كردفان
تواصلت رحلتنا التي حكيت عنها في عمود سابق بربوع كردفان مع السيد الحاكم الفاتح بشارة وأعضاء حكومته فشملت سبعة عشر مدينة هي: (السِميْحْ، أبو جبيهة، رَشاد، الكُرْقُلْ، كَلُوقِيْ، كادُوقْلِي، الدَّلَنْجْ، تَبَسَةْ، تَلُودِي، كُنْجَارَةْ، النُهود، الأُضَيَّة، أُمْ قَرناً جاك، رِجْل الفُولَة، أَبُو يَيْ، المُجْلَدْ، وبابَنُوسَة). وكانت نهاية المطاف في مدينة بابنوسة التي حدث فيها موقفٌ أثارَ الكثير من الحرج، حيث ما أن وصل ركب الحاكم إلى المدينة حتى ثارت ثورته واستشاط غضباً، والسبب هو أنَّ المحافظ لم يكن دقيقاً في رسم مسار الرحلة. حيث خرجت جماهير المستقبلين الغفيرة إلى ساحة خارج المدينة وجاء ركب الحاكم من طريق آخر مغاير تماماً لذلك الطريق، ولذلك لم نجد رجلاً واحداً في الاستقبال رغم أنَّ المدينة كلها قد خرجت لتحية الحاكم من الجهة الأخرى. ووقفنا تحت ظل شجرة كبيرة حتى جاء المحافظ يلهث من التعب ويقول: (يا سيادة الحاكم الناس ينتظرون وصولكم من الطريق الثاني). واشتعل الغضب في وجه الحاكم الذي صرخ في وجهه: (أنت لا تعرف النظام، أما كان من الممكن أن تُنسق هذا الأمر مع قائد القافلة كما فعل كل مساعدي المحافظين في المدن التي زرناها؟) ولم تشفع للمحافظ اعتذاراته التي صاغها لتبرير موقفه، حيث انفرط عقد نظام الموكب، وحدث هرجٌ شديد بين المستقبلين عندما علموا أن وفد الحاكم قد دخل المدينة من اتجاه آخر مما أثار كثيراً من الشائعات والتكهنات التي يحلوا للسودانيين أن يرسموها من نسج خيالهم مهما كانت مخالفتها أو مطابقتها للحقيقة. وكان صعباً بعد ذلك أن تُنظم عملية الاستقبال وإبقاء الناس في أماكنهم ليخاطبهم الحاكم. هذا الأمر قد يبدو عادياً للإنسان العادي ولكنه ليس كذلك في إقليم مثل كردفان حيث الناس يهتمون بأمر الضيوف ويحرصون على لقائهم خارج المدينة حتى ولو لم يكونوا حكاماً. ثم إنَّ التنافس كان على أشده بين المدن التي تتباهى بمثل هذه الأمور في كردفان وهذه هي فطرة إنسان الريف البسيط. لذلك كان لغضب الحاكم ما يبرره، خصوصاً وأنَّ بابنوسة من أهم مدن الإقليم بحكم توسطها لأكبر تجمع لأبناء البقارة ببطونهم المختلفة من مسيرية ورزيقات وبحكم أنها ملتقىً لخطوط السكة الحديد التي تربط الجنوب بالشمال والغرب بالشرق. ووسط ذلك الجو المتوتر قرر الحاكم إعفاء المحافظ من منصبه وعين بدلاً عنه السيد (حسن كندة كربوس) محافظاً لمديرية جنوب كردفان. كنت أتابع كل تلك المشاهد وأرقب قسمات الحاكم الذي كان في أشد الغضب وهو يوجه حديثه لذلك المحافظ. في تلك اللحظة تذكرت عبارةً قالها لي الصديق الراحل سعادة اللواء أ.ح (أبو قرون عبد الله أبو قرون) عندما كان قائداً لحامية واو ببحر الغزال في أوج عمليات التمرد العسكرية ضد القوات النظامية حيث قال لي يومها: (هل تعلم مَنْ هُمْ أذكى ثلاثة ضباط مروا على الجيش السوداني منذ تأسيسه؟) قلت له: (كلا). فقال لي: (هم عبد الماجد حامد خليل والفاتح بشارة و..) وقاطعته قائلاً: (وأبو قرون عبد الله أبو قرون)، فضحك ولم يكمل لي الإسم الثالث إلى أن توفاه الله وسألنا له الرحمة والمغفرة. كانت رحلة بابنوسة ناجحةً رغم التوتر الذي شابها، حيث استقبلت المدينة ضيوفها بكرمها المعهود وسماحة أهلها الطيبين وأريحيتهم في كل شيء. وكانت تلك آخر محطة في جولة الحاكم في ربوع جنوب وغرب كردفان. ولكن آثار تلك الجولة لم تنته بعد، فإلى الحلقة القادمة لنرى ما الذي حدث. ونواصل
المصدر من هنا