ما هو الملك العام؟ وما هو المال العام؟
هما في كلمة: الوطن
وهما لدى التحليل النهائي شيء واحد..
فالملك العام هو مال عام، والمال العام هو ملك عام
لهما قدسية وحرمة الوطن..
الحفاظ عليهما هو حفاظ على الوطن..
والاعتداء عليهما هو فقدان للوطن..
من لا يدافع عن الملك العام ولا المال العام فإنه على التحقيق لا يحب الوطن.. ومن لا يحب الوطن يحرم أخلاقياً من شرف التمتع بحق المواطنة.. وقد وصفتها في أعلاه بكلمة ثقافة.. لأنها ليست عملا هو من مهام المسئولين فقط، وإنما هي من صميم عمل كل المواطنين، دون استثناء لأحد.. ولكن يبقى دور المسئولين في هذا الشأن أكبر لأن بيدهم سلطة التغيير في إصدار القوانين واللوائح وهم أصحاب النهي والأمر والردع..
ومن هنا أستطيع أن أقول وبالفم المليان أن كل المسئولين في الدولة لا يبذلون أي جهد في الدفاع عن الملك العام أو المال العام.. وهم يرون بأعينهم كل صبح ومساء إنتهاك الملك العام والإعتداء على المال العام في كثير من وجوهه فلا يحركون ساكناً ولا يتمعر لهم وجه..
وهذا الإعتداء يبدأ من الصور الغليظة في منطقة الحلال البين والحرام البين ثم تدق صوره حتى يدخل في منطقة لا يعلمهن كثير من الناس..
ويمكن ان ننقل نموذج صغير من الصور الغليظة لهذين الأمرين:
أوقف سوداني سيارته، وكان في زيارة لأسرة سودانية، أمام منزل أحد ضباط القوات النظامية بالمملكة العربية السعودية وهو لا يعلم انه نظامي.. طالبه الضابط بتحريك سيارته فوراً من أمام منزله.. وبعد تهديد وإساءة بالغة من الضابط وإصرار من السوداني ألا يحرك سيارته تمّ فتح بلاغ ضد السوداني واقتيد إلى الشرطة ثم تحول إلى القاضي.. فما كان من القاضي إلا أن أصدر قراره بصحة موقف السوداني وأنه لا حق للضابط في مطالبة السوداني بتحريك سيارته من أمام منزله، لأن سيارة السوداني تقف في الشارع العام، وهو ملك عام لكل الناس.. وليس من ملكية صاحب المنزل الذي تنتهي ملكيته لقطعة الأرض الخاصة به، بالباب الخارجي لمنزله.. وأن المساحة التي تمتد من الباب خارجه هي جزء من الشارع العام .. وانتصر السوداني وكان سبباً في صدور سابقة قضائية متفردة للمقيمين وللمواطنين..
و ليس هذا قانون خاصاً بالمملكة السعودية وإنما هو قانون فن العمارة حيث وجدت العمارة والمعمول به عالمياً..
حسناً، فلنقم بتطبيق هذا القانون على مدن عاصمة سوداننا الحبيب.. ولنتجول في شوارع أرقى الأحياء تخطيطاً وعمرانا.. فماذا نلاحظ من الوهلة الأولى؟؟
إعتداء كبير من أصحاب العمارات على الشارع العام.. حظيرة خارج المنزل للمولد.. وحظيرة أخرى لمظلة السيارة أو السيارات.. وحديقة للزهور …إلخ
ورغم رؤيتك للعمارة الفارهة التي تسع لمجموعة من الأسر لسعتها، إلا أنك تجدهم يطمعون أيضاً في الشارع العام الذي هو حق المواطن البسيط المغلوب على أمره.. ويمكن لصاحب العمارة بجرأة أن يمنع كذلك، صاحب مولانا اعتدال، من إيقاف حماره في ظلها قبل أن يمضي ويتركها كلها، كما تقول هي في الرواية..
هذا بالإضافة إلى أكوام الرمال والتراب والطوب المردومة على طرفي الشارع لزوم تشطيب الطابق الرابع!!.. ومش مهم الشارع يمرر بعدها عربة واحدة أو يقفل جزئياً.. أو يتسبب في إحداث ضرر يصيب المارة الراجلين من خطر العربات العابرة وحفر المياه الراكدة والكلاب الضالة..
وقد شاهدت روضة أطفال تتمدد على الشارع العام بمساحة 7×12 متراً لعمل حديقة يلعب عليها الأطفال..
ويكاد لا يخلو منزل إلا وهو يتمدد على الشارع العام..
فإني ما وقفت في صف رغيف إلا ونبهت المواطنين إلى هذه المخالفات والتعدي على الملك العام، وغالباً ما تكون الأمثلة مجسدة أمام أعين الجميع بكميات كبيرة تدلل على نفسها.. ولكن المواطنين يستنكرون في صمت وعلى استحياء..
علق أحد الأجانب فقال أن السوداني يحرص على نظافة منزله ولكنه لا يبالي بكمية الأوساخ المكومة في الشارع أمام منزله، لأنه يحب منزله ولا يحب مدينته.. فهو لا يحمل ثقافة أن الشوارع ملك عام وأن الحرص على نظافتها هو من حبه وحرصه على نظافة وسمعة وطنه..
مررت على حي المهندسين بأم درمان وأبهرتني المباني الفخمة الشاهقة وهي تتشابى إلى معانقة السماء.. ولكني دهشت للشوارع داخل هذا الحي.. فإنها مليئة بالحفر والحجارة والمياه الراكدة الآسنة وكميات من مخلفات المباني.. فتساءلت هل يصعب على الذين بنوا هذه المباني الشاهقة أن يتبرع كل صاحب عمارة بلوري واحد من الطوب يردم به الشارع أمام منزله وهو بالضرورة لا يكلفه شيئاً بإزاء المبلغ الذي دفعه لتشييد منزله.. ولو أستجيب لهذا الطلب المتواضع جداً، لعبّدت كل شوارع هذا الحي الراقي وأصبحت شوارعه تليق وتتناسب مع العمارات حولها.. ولكننا نحب قصورنا ولا نحب الشوارع خارجها.. في كلمة لا نحب الوطن!!..
فإن تفريطنا في نظافة الشوارع العامة والسكوت على الإعتداء عليها هو تفريط في الوطن.. وكما يقول المثل (النيران من مستصغر الشرر).. فرطنا في الشوارع.. وبعدها نفرط في المدن، فضاعت منا حلايب وشلاتين وأبو رماد.. ثم فرطنا في الولايات ففقدنا الجنوب بكامله.. وغداً قد نفرط كذلك في …و….و…الخ ثم نرجع نبحث عن عماراتنا التي حرصنا عليها واحببناها فلا نجدها محفوظة لنا، فنلهث نبحث عنها في الضفة وفي القطاع.. إذا تأكد لدينا أن الشوارع ملك عام فهي، بالضرورة، قبل مسئولية الحكومة هي مسئولية الشعب، المتمثل في الرأي العام المستنير.. لانه هو المنتفع الأول والأخير منها..والرأي العام المستنير هو الذي يرفض صور السلوك الناقصة والشائهة والمخالفة للأخلاق وللقيم الراسخة.. وله قوة رادعة في ذلك أقوى من القانون.. ويمكن أن يصدر أحكامه بصورة فورية على الأشخاص المخالفين والمعتدين على الملك العام وعلى المال العام أولاً بتقديم النصح المباشر لهم وبالتوعية والإرشاد ثم بالزجر والمصارحة وعدم المجاملة أو المداهنة وأخيراً بالمقاطعة والعزل لأفراده المخالفين من المجتمع..
ولكن هذا الرأي المستنير لم يتكون بعد في المجتمع السوداني لأن الشعب لا يزال يتحرك بعفوية وعدم مبالاة.. ولا توجد في داخله قيم مثلى وانضباط في السلوك وفي حب للوطن يحتل مكانة سامية ومقدسة في قلبه وفي وجدانه، يدافع عنها بالغالي والنفيس ولا يساوم فيها أبداً.. ثم أنه يحزنه أشد الحزن ويؤلمه أشد الألم أن يشاهد حرمات الوطن تنتهك وتدنس ثم يسكت على ذلك.. ويقول مع الشاعر محمد عبد الحي:
فيا سودان إذ ما النفس هانت…. أقدم للفدا روحي بنفسي
ومع الغياب التام للراي العام المستنير يحق لنا أن نتساءل: أين هي المحليات؟؟ وأين مصلحة الأراضي؟؟ وحكومة الولايات؟؟.. ولمن تتبع حماية هذه الشوارع؟؟ وما هي الجهة الحكومية التي تدافع عنها من التغول عليها من المعتدين من أصحاب المنازل الفارهة والبسيطة؟؟..
ألا توجد قوانين ولوائح تدافع عن مقدسات هذا الوطن؟؟
أننا قد نختلف ولكن دائماً ما يقودنا الإختلاف إلى أن نتقاتل ونحرق كل شيء حولنا، لأننا لا نحب الوطن..
وفي سبيل أن نصل إلى الحكم والسلطة نسعى بكل جهد لخلق الأزمات ونقضي على الأخضر واليابس ونقف سداً منيعاً لأي تطور ونماء، لأننا نحب أنفسنا ولا نحب الوطن..
نقدم مصالحنا وأحزابنا وعنصرياتنا وتكون لها الأولوية ولا يهمنا أن أدى ذلك إلى تدمير الوطن أو تمزيقه..
إن الأزمة الحاضرة ناشئة من قصور في أخلاق الأفراد، وضمور في حسهم الوطني.. إن أزمتنا هي في كلمتين: أزمة أخلاق.. وإننا لعلى يقين بأنه لن يستقيم لنا أمر من أمورنا السياسية، ولا الإقتصادية، ما لم نجد العلاج الشافي لهذه الأزمة الأخلاقية.. ولا منجاة للسودانيين منها الاّ بثورة فى الفكر، وثورة فى الأخلاق..
نحتاج إلى ثورة فكرية لديها القدرة على خلع الفساد ثم إنها تملك المعرفة والمنهجية لإقامة الصلاح مكان الفساد.. وألا تقف كما ما فعلت ثورتنا العملاقة هذه عند خلع الفساد فقط، ولكن واجب عليها أن يتسلح الثوار بالمعرفة والعلم وحمل المذهبية الرشيدة القادرة على أن تسوق البلاد بالحكمة والخلق القويم، على ثبات وتروٍ، نحو المدنية والحضارة والرقي وفق خطط علمية مدروسة..
هذه هي الثورة الفكرية الثقافية والتي بها وحدها يمكن أن تنجح ثورتنا هذه لتدفع بالبلاد إلى باحات الحرية وإلى ساحات العزة والمجد والرفاهية..
وفق الله الجميع لطريق الهداية والرشد..
المصدر من هنا