الخرطوم – الزين عثمان
“ركضت كثيراً فلا تسألوني إن ما زلت حية ولا تسألوني إذا كنت ميتة، لا تسألونني فلست بخير”.. كانت التفاصيل التي تبدو على جوليا مارتن القادمة من مدينة الناصر بدولة جنوب السودان في رحلة الهرب من الموت المحمول على فوهات البنادق أو الموت المسبب بالجوع بعد إعلانه في الدولة الجديدة، تقف جوليا عند معبر خور الورل بولاية النيل الأبيض وهي تحمل طفلها على ظهرها وتسحب بما تبقى لها من قدرة طفلين آخرين، بعد أن تركت والدهم في أحد المعسكرات التابعة للأمم المتحدة في دولة جنوب السودان مثل الآخرين.. تقول إنه لم يكن بإمكانه الخروج؛ فمن سبقوه قد تمت تصفيتهم في الطريق، وهو الأمر الذي يفسر أن معظم الواصلين إلى المعسكرات في الحدود السودانية من النساء والأطفال.
لقد نجحت جوليا وآخرون في الهروب من الموت الذي يحلق فوق رؤوسهم بالجنوب، لكن هل بوصولهم إلى الحدود السودانية هربوا إلى الحياة؟
عند معبر جودة الحدودي في ولاية النيل الأبيض، كل شيء أقرب إلى الموت منه إلى الحياة! الواقفون خلف المعبر يجرون معهم آلاماً.. تطاردهم الحرب؛ وحين يخفت صوتها تطاردهم ذاكرتها.. لا صوت يمكن سماعه هناك غير صوت البطون الخاوية، وعبارة تخرج على استحياء “نريد أن نلحق بما تبقى من الحياة أو نلحق بمن سبقونا”.
في ولاية النيل الأبيض تتراص أعداد من المعسكرات التي يقطنها مواطنو جنوب السودان، الذين فروا حين اندلع القتال في عام 2013، النقاط التي أطلق عليها نقاط الانتظار، لكن وبحسب آخر إفادة من مسؤول اللجنة التنسيقية لشؤون اللاجئين بولاية النيل الأبيض، فإن ثمة حاجة ملحة لإقامة نقاط أخرى من أجل استيعاب التدفقات الكبيرة للقادمين من الجنوب، في ظل النقص الحاد للغذاء والارتفاع في مستويات سوء التغذية، بحسب ما ذكرت منظمات دولية متخصصة، أكدت أن الأوضاع في جنوب السودان قد قاربت من الوصول إلى محطة (الكارثة).
الكارثة هي أبلغ وصف لما يجري هناك في ظل التدفقات الهائلة للاجئين الجنوبيين على الحدود السودانية، وهي تدفقات تبدو حتى الآن أكبر من القدرة الاستيعابية للمعسكرات الموجودة أصلاً والتي تشرف عليها منظمة الهلال الأحمر بمعية منظمات عالمية أخرى.. يقول هاشم محمد وهو مسؤول عن أحد المعسكرات (العلقاية)، إن المعسكر امتلأ عن آخره، وهو امتلاء لا يمنع وصول الآخرين إليه.. نعم لا توجد أماكن أخرى لكن الهاربين من الجحيم يصلون إلى أقاربهم الموجودين هنا منذ فترة؛ ربما لم يتوقف الأمر عند نقاط الانتظار التي لم تعد تستوعب مجموعة القادمين، وإنما تجاوزها إلى نقاط الدخول نفسها، فقد تم إنشاء معبر جديد عند (خور الورل)، حيث يصل إليه القادمون قبل أن تتولى (دفارات) كبيرة عمليات نقلهم إلى منطقة المقينص، من أجل تسجيلهم وتقديم الخدمات لهم، هذا في حال توفرها.
في ظروف إنسانية بالغة السوء يصل اللاجئون إلى نقاط العبور السودانية.. ثمة امرأة تقف وقد أصابتها حالة حزن هيسترية وتشنجات؛ خرجت من وسط منطقتها تقود طفليها الاثنين، إلا أن أحدهم فارق الحياة في الطريق بعد أن أصابته حمى.. لم تكن الحمى وحدها هي ما تسبب في وفاته، وإنما عجز الكبار الذين رافقوه في توفير لقمة له في مشوار مسير على الأقدام قد يصل إلى ثلاثة أيام متواصلة.. لم تكن حكاية الصغير هي الوحيدة في حكايات يسردها العائدون بدموع حسرتهم، وبعضها يعجزون حتى عن إكمالها. في لحظة أخرى كان عدد منهم يحملون رجلاً في الثمانين من عمره، بعد أن أرهقه المشي فسقط وكسر حوضه أثناء رحلة البحث عن حياة بعيداً عن مرمى الموت.
في معسكر (خور الورل) الذي تم تشييده قبل أربعة أشهر لا يبدو الموت بعيداً، أو أن أسبابه قد انتفت تماماً.. أمس الأول كان عدد المقيمين في المعسكر ستة عشر ألف لاجئ، ارتفعوا أمس إلى تسعة عشر ألف ومائتين وخمسين شخصاً، وهو ما يؤكد تزائد حالات الفرار باتجاه السودان، وكشف مسؤول اللجنة التنسيقية لشؤون اللاجئين عن وصول ألفين وأربعمائة لاجئ للولاية، وهو الرقم الذي يهزمه الرقم الجديد في معسكر (خور الورل) الذي تجاوزت زياداته الثلاثة آلاف شخص، لكن الأمر يبدو منطقياً في حال تمت قراءته وفقاً للأرقام المسجلة عند المسؤولين بشكل رسمي. في المقابل، فإن بعض القادمين لم يتم حصرهم بعد، مع التأكيد على أن تقديم الخدمات لهم يرتبط بشكل رئيس بعملية التسجيل لدى مسؤولي المعسكرات في الولاية.
وعرضت تقارير إعلامية صورة قاتمة للأوضاع هناك، بل إنها تتجاوز مسألة حصرها عبر الحروف والكاميرا، وتوضح التقارير بجلاء حقيقة الأوضاع هناك في معسكرات الانتظار وهي أوضاع ربما تقود للانفجار في حال لم يتم تلافيها وعبر خطوات سريعة من قبل القائمين على الأمر. وتشير التقارير إلى أن هناك عدداً من العربات التابعة للهلال الأحمر تمشط المنطقة وتقوم بحمل الفارين والذين يصلون إلى هناك في ظروف نفسية وصحية بالغة الصعوبة.
في معسكر (خور الورل) هناك (19) ألف شخص يقوم على خدمتهم عشرون عاملاً فقط، يتوزعون بين مجالات الصحة والحصر وتقديم الطعام، مبدئياً لا توجد هناك أزمة في ما يتعلق بتوفر الغذاء عبر منظمة الصحة العالمية، لكن تبدو المشكلة في أن عملية توزيعه ترتبط بشكل كبير بتسجيل الأسماء في القائمة؛ فالطعام الموجود الآن يتم توزيعه على السكان الأصليين في المعسكر، وهو ما يجعل القادمين ينتظرون بين ثلاثة إلى أربعة أيام حتى يتم إدخالهم في النظام المتبع لنيل نصيبهم من الغذاء.. القادمون الآن يعالجون إشكالاتهم من خلال تقاسم الطعام المقدم لمن سبقوهم إلى ذات المعسكر، ربما لا تبدو أزمة الغذاء هي الوحيدة التي تمسك بزمام المقيمين هناك، وإنما انفجار الأوضاع الصحية؛ فتوجد حالات كثيرة من الإصابة بالإسهالات، وهي إسهالات بحسب المساعد الطبي، تعود إلى عدم كفاية دورات المياه المصممة لاستيعاب ثلاثمائة شخص، في وقت تخدم فيه عشرون ألف شخص، مما يضطر الكثيرين لقضاء حاجاتهم في العراء، وهو ما يؤدي بدوره لنقل العدوى، ويحذر المساعد الطبي من الانفجار في الوقت القادم، ويعاني المعسكر من عدم توفر (الفلاجيل) ويضطر القائمون على الأمر لطعن المصابين بدربات دون استخدام الفراشة، في أسِرّة لا تتوفر فيها المراتب.
وتقول النساء المقيمات بالمعسكر، إن هنالك ثماني حالات إجهاض خلال ثماني وأربعين ساعة، وهي حالات ترتبط بالمشاوير الطويلة وبحالة الهلع التي انتابت النساء في هروبهن من الموت، وأنهن اضطررن لإيجار عربة (بوكس) من أجل نقلهن لتلقي الإسعافات في مستشفى كوستي التعليمي.
في المقابل، فإن معدل الولادات في المعسكر يبلغ ثماني حالات يومياً، هذه الأوضاع تتطلب، بالضرورة، تدخلاً عاجلاً من القائمين على الأمر ومن المنظمات العاملة في مجال الإغاثة.
بحسب حكومة الولاية، فإن هناك ترقباً لحالات دخول جديدة؛ فالتدفقات تتجاوز القدرة على تقديم الخدمات بمراحل، بينما هناك في الجزء الآخر تزداد الأزمة بمعدلات كبيرة، فلا تزال الحرب تحصد الأرواح وما تبقى منها فإن المجاعة كفيلة به.. الكارثة تتواصل لدرجة دفعت برئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت أن يقف عند مقبرة الراحل جون قرنق دي مابيور في مدينة جوبا، وهو يؤم المصلين في قداس من أجل أن تتجاوز الدولة الوليدة مخاض الحرب، في اللحظة التي كان فيها رئيس دولة الجنوب محاطاً بالحراسة وبرجال الدين من أجل صلاة العاشر من مارس.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة اليوم التالي