تقرير ـ ايمان الحسين
ربما تبدو للوهلة الأولى أن طبيعة الخلاف بين قائدي الحركة الشعبية ـ شمال، مالك عقار، وياسر عرمان، كانت وليدة اللحظة، لكن المتتبع لمواقف الرجلين خاصة حيال القضايا السياسية، خاصة بعد انقلاب العسكريين على السلطة في 25 أكتوبر، يجد فراق القائدين جاء نتيجة حتمية لكثير من التراكمات، التي أدت لتفضيل العمل منفصلين، كل يعبر عن مواقفه الخاصة ويؤمن بها، فعقار تمسك بموقفه تجاه دعمه للانقلابيين، واختار عرمان الانحياز للثورة والبقاء في الشارع مع الثوار.
وبالطبع هذا الانقسام ليس الأول داخل صفوف الحركة، فقبلها انقسمت لأكثر من مرة، حيث يؤكد المحلل السياسي، الدكتور محمد علي تورشين أن الحركة الشعبية ومنذ تأسيسها مرت على مدار تاريخها في مطلع الثمانينيات وحتى الانشقاق الأخير بموجة من الانقسامات والتشظي سواء أكان في الحركة الأم بخروج لام أكول أو خروج رياك مشار وغيرها من القيادات المؤثرة على مسيرة الحركة الشعبية.
ويرى تورشين أن الانشقاقات ليست محصورة على الحركة الشعبية لتحرير السودان انما الانشقاقات تميزت بها السياسة السودانية بشكل معلوم للجميع ،فلانجد قوة عسكرية أو مدنية إلا وقد عانت من هذه الانقسامات ،إننا كسودانيين غير قادرين على ادارة الخلافات السياسية بشكل حكيم أو موضوعي اضافة الى تأكيده على شيئ معين وهو معاناة الحركات داخل مؤسساتها بأعتبار ان هنالك العديد من القرارات المصيرية المرتبطة بمصير الحركة الشعبية ومؤسساتها السياسية حيث لاتوجد مؤسسات تناقشها بقراراتها المصيرية حيث ظلت كل القرارات المصيرية مرتبطة بقرارات بعض القيادات أو بيد مجموعة، بالتالي تجد مجموعة أخرى ترفض تلك القرارات بشكل مطلق مما يقود الى انقسامات.
ويقول تورشين إن الذي يحدث الآن من الانقسام الذي حدث بالشعبية شمال ليس هو الانقسام الأول ،انما في التاريخ الحديث وبعد انفصال جنوب السودان حدث بها انقسامان، الأول حدث بخروج مالك عقار وياسر عرمان وآخرون بمْن فيهم خميس جلاب .لكنه لم يستمر طويلا حتى خرج جلاب ايضا وأسس فصيلاً آخر ،والآن هنالك انشقاق بقيادة ياسر عرمان وآخرين ،في تقديري السبب يعود لعدة اشكاليات ابرزها القيادة المؤسسية التي من المفترض أن تتخذ قرارات مصيرية ،باعتبار أن تداعيات وارهاصات الانفصال مرتبطة بقرارات ٢٥ اكتوبر الانقلابية ، إذ أن الانقلاب عمد على أن يضغط على العناصر الموقعة على اتفاقية سلام جوبا حيث إذا رفضت الانقلاب ربما تدخل في اشكاليات عظيمة.
ويتفق المحلل السياسي، محمد ادريس، مع هذه الفرضية، إذ أنه يرى أن الانشقاق داخل قطاع الشمال انشقاق مُرحّل وقديم بين التيار السياسي اليساري (عرمان/بثينة دينار) والتيار العسكري المناطقي(عقار/جوزيف توكا /جلاب).
ويبين إدريس أن التيار السياسي اليساري داخل قطاع الشمال يحاول ان يعوض نفوذه الذي يفقده في العملية السلمية بالتنسيق مع قوى الحرية والتغيير وكليهما يستخدم الآخر.. فإن التيار الاقوى هو تيار مالك عقار الذي يتحالف مع أي حكومة قائمة تنفذ له ترتيباته الأمنية ومايلي النازحين واللاجئين.
وأما فيما يتصل بإجراءات الانفصال، اعتبر القيادي بالحرية والتغيير، أحمد حضرة، أن الطريقة التي تم بها الاتفاق على الانفصال بين ياسر عرمان ومالك عقار هي طريقة حضارية وهي طريقة مثلى لأدب الخلاف إن تم الالتزام من الطرفين بذلك ولم يتفرغ أي منهما لمحاربة الآخر و للقضاء عليه، ويقول إن الانشقاقات التي حدثت في الحركة الشعبية منذ تشكلها هي كثيرة جدا إذا احصيناها وتفرعاتها ولا أظن أن هذا الانشقاق سيكون سببا في تفكك الحركة الشعبية فقط تم فرز للصفوف داخل الحركة بين داعمين للانقلاب بقيادة عقار وبين أغلبية تدعم خط الثورة والشارع المعارض بقيادة ياسر عرمان.
وكما ذهب القيادي بالحرية والتغيير، عروة الصادق، في ذات الاتجاه، حيث قال إن العمل السياسي تتوالد فيه تيارات التضاد في الرأي لتصنع العجائب في الأحزاب والكيانات السياسية وهو أمر محمود إذا تم احتواؤه في أطر مؤسسية ولم يتعداه لنزاعات شخصية.
ويضيف: ما حدث في الحركة الشعبية شمال رغم ظاهرية أنه تفريق بإحسان إلا أنه تمزيق لكيان جديد ومشروع السودان الجديد الذي كان يرجى تقويمه ليكون أحد المشاريع الجامعة لشتات تطلعات من يؤمنون بهذا المشروع.
ويكمل عروة: إن التجربة جديرة بالاهتمام والدراسة ومراجعة تيارات احزابنا السياسية لتلافي حدوث أمر ربما لن يكون مماثلاً في طريقته بل سيحدث انفجارات وتشظي الولاءات القومية لصالح فسيفيساء القبيلة والعشيرة والجهة والدين والطريقة والنحلة وهو أمر سيؤدي بالبلاد لدرك سحيق من التراجع.
وأردف: واجب التيارين في الحركة الشعبية مراجعة وتقييم المواقف التقسيمية وكذلك التيارات التي سبقتهما في الانشقاق فلربما تكون المراجعات أجدى من الطلاق البائن، الذي سيخلف تيارات انفصالية كانت متزنة بوجودها في الكتلة القومية .. وواجبنا في الأحزاب السياسية السودانية مواجهة بعضنا البعض داخلياً ومناقشة تباين الآراء بجد ووضوح وموضوعية والزام الجميع بقرار المؤسسات وتفعيل أدوات العقاب الرقابية للأداء المؤسسي للحد من نبرات التمرد والذاتية التي تقسم الكيانات القومية..
وبالرجوع لأسباب الانشقاق في الحركة أرجح أمرين:
أولا: التكوين البنيوي والمرجعية الفكرية للحركة الشعبية ككيان حبيسة لأتوقراطية التنظيم العسكري، ولم تفلح في تجاوز التراتيبية العسكرية والتعليمات التي تحمل النقاشات الساخنة وتبادل الآراء الديمقراطية، وهو داء أصاب كل الكيانات الشبيهة في إفريقيا وسيستمر ما لم تؤسس هذه الكيانات المسلحة لتجربة سياسية قائمة على الديمقراطية وتقبل الرأي برحابة صدر.
أسهم عدم الاستقرار السياسي في البلاد في تنامي هذه الظاهرة بشكل كبير، فغالبا يحول هذا الأمر دون عقد المؤتمرات العامة والأنشطة التداولية، وهو ما يسبب تراكما كبيرا واحتكارا للسلطة والهيمنة في الحزب والحركة، فالاحتقان وسط كوادر الحركة وكذلك وسط أحزابنا السياسية ليس بمعزل عن هذا الأمر.
كما أن عدم التداول الديمقراطي للسلطة عبر الانتخابات الحرة يحفز الجميع للتوجه إلى السلطة عبر التقسيمات الانتهازية وهو الأمر الذي سارت فيه الفترة الانتقالية وعززته خاصة باتفاقية سلام المسارات، وكذلك متلازمة الصراع الداخلي للحزب أو الحركة مقروءة مع الصراع الخارجي والتغييرات التحالفية والسياسية كموقف التيارين من انقلاب 25 أكتوبر ومن تحالف الحرية والتغيير وجماعة القصر.
وقطعا سيستمر مخاض التغييرات السياسية في الأحزاب والحركات السودانية خاصة إذا اتجهنا بقوة للتحول الديمقراطي وسيزداد بعد أول ممارسة ديمقراطية، لأننا سنشهد انقسام أحزاب كبيرة لمطامع مشروعة لقيادات ظلت تتشوق للسلطة وستكون مواعين الأحزاب أضيق من تطلعاتهم، كما سيظهر ائتلاف أحزاب صغيرة في وحدات تحالفية أو اندماجية دائمة للوصول أيضا للسلطة عبر الانتخابات، ولكن لا أتوقع أن نشهد مؤسسة لتحالفات ذات بنية أيديولوجية لأن اليسار واليمين في السودان بين فصائله ما صنع الحداد.
من المؤكد أن بقاء الحركة الشعبية موحدة هو أمر مهم للحركة السياسية السودانية ويقلص نسبة التسرب للولاءات القبلية والمناطقية وحتما سيخرص الأصوات الانفصالية في الحركة التي ستعلو بهذا الانقسام، إلا أن بقاء الحركة كحاضنة للانقلاب العسكري أمر مرفوض وضار بالعملية السياسية، كما أن المؤكد أن هذا الانقسام لن يفيد الحركة السياسية أكثر من كونه سيزيد الشقة التحالفية، فمعلوم أن المجموعات المنشقة تتزمت في الاجتماعات التنسيقية.