تقرير ـ سيف جامع
لا يدري محمد نور ماذا يفعل هنا… أي قرار يجب أن يأخذه. هل ينبغي عليه المغادرة؟ هل سيتمكن من البقاء على قيد الحياة يوما إضافيا إذا بقي؟ كل ساعة جديدة تمر هي تحد خطر. هنا، الظروف المحيطة قد تجعلك تفقد إيمانك ويتسلل إلى داخلك القلق من كل شيء وعلى كل شيء.
منذ أن بلغ شبابه، طور محمد نور، في جسمه، عادة غريبة مستعصية على من مثله من البشر. النوم بأعين شبه مفتوحة وبوعي يقظ. كل حفيف أو صوت بسيط ينبغي أن يستيقظ معه، وإلا سيكون هلاكه. ليست هذه العادة الاستثنائية الوحيدة التي درب نفسه عليها. هناك أخرى: الانزواء في أصغر مساحة. مع سماع صوت قادم من بعيد، يمكنه أن يلصق جسده النحيف في حفرة بالأرض ليصبح شبحا غير مرئي. هنا، على الحدود بين إثيوبيا والسودان، عليك أن تكون استثنائيا لتبقى على قيد الحياة.
يعيش محمد نور مع أسرته المكونة من زوجته وأبنائه الثلاثة في قرية “بركة نورين”، شرقي السودان، والواقعة على الحدود مع إثيوبيا. لا يعكس منزله البسيط المكون من قوائم خشبية وسقف من الأعشاب، وضعه المادي فحسب، ولكن أيضا عدم استقرار البيئة التي يعيش فيها. لا يختلف وضعه عن سكان القرية الآخرين، فهي في الغالب عبارة عن عشش خشبية، متباعدة تفتقر لكل الخدمات الأساسية، وبعيدا عن أي مستوى من الرفاهية. إلى جانب هذا الفقر، تنتشر الأمية بشكل كبير بين الأهالي، التي تترافق مع غياب خدمات الصحة ووجود مياه الشرب أو الطرق.
مشكلة أخرى يواجهها نور وأبناء قريته، هي العصابات والمليشيات الإثيوبية التي تشن هجمات من داخل الأراضي الإثيوبية وتقتل مواطنين وتسلب حيواناتهم. تتصدر عصابات الشفتة، قائمة الرعب، فهي تشن هجمات دورية على المزارعين والرعاة لتسرق الحيوانات وتقتل من يواجهها قبل أن تلوذ بالفرار. تركز هذه العصابات إيضا على استهداف التجار وسائقي الشاحنات والآليات الزراعية ومطالبتهم بفدية مقابل اطلاق سراحهم.
لا يمر شهر من دون حوادث قتل، ففي نهاية يناير الماضي 2023، قتل راعٍ سوداني وأصيب عدد من رفاقه بالرصاص بعد توغل مليشيا إثيوبيا مسلحة داخل العمق السوداني، بحسب صحيفة السوداني. بداية الشهر نفسه، قتل مزارع آخر، برصاص مسلحين إثيوبيين توغلوا داخل العمق السوداني.
لم تسلم قرية بركة نورين من هذه الاعتداءات. ففي عام 2012، لقي جار نور، حسين التوم الماحي، حتفه على أيدي ميلشيات إثيوبية روعت القرية وجعلت أهلها حذرين في تحركاتهم. ورغم ذلك، ظل سكان بركة نورين متمسكين بالبقاء، وفي نفسهم مقطع النشيد الوطني، “هذه الأرض لنا، فليعش سوداننا علما بين الأمم”.
ويشكل انخفاض عدد المواطنين السودانيين في تلك القرى الحدودية ونزوح الأهالي المستمر إلى مدن القضارف ودوكا بحثا عن الخدمات والأمن، فرصة جيدة لتوسع المليشيات الإثيوبية، ومحاولة بسط نفوذها داخل العمق السوداني. بدأت السلطات السودانية تدرك هذه المعضلة خلال الفترة الأخيرة، لاسيما بعد استعادة منطقة الفشقة من النفوذ الإثيوبي. خلال العام الماضي، نفذت السلطات عددا من المشروعات لاسيما الطرق ولكباري لتسهيل وصول المواطنين إلى هذه المناطق الحدودية. بالتوازي، عمل الجيش على تعزيز انتشاره في هذه المناطق الحدودية واسترداد مساحات زراعية واسعة بسط اثيويبون سيطرتهم عليها طوال أكثر من ربع قرن.
وجاءت الحرب الأهلية بين إقليم تيغراي والحكومة المركزية في أديس إبابا خلال العامين الماضيين، لتزيد من معاناة نور وسكان القرى الحدودية، التي شهدت تدفق عشرات الآلاف من النازحين الإثيوبيين. جاء هؤلاء النازحون برغبة في إيجاد موضع قدم لهم في منطقة هشة تفتقر كثيرا للخدمات والموارد التي لا تكفي لعدد إضافي. والنتيجة، وقوع اشتباكات بين هؤلاء النازحين وسكان القرى.
وعانت “بركة نورين” – ونور على وجه الخصوص – من هذا النزوح الجماعي بالقرب من القرية، استقر آلاف النازحين أقاموا معسكرا خاصا بهم. يقول سكان القرية إن جزءا من مستوطني المعسكر لم يلتزموا بالبقاء في داخله، وتوغلوا في القرى المحيطة، بهدف سرقة الماشية، الأمر الذي تسبب في اشتباكات متكررة بين الطرفين.
في الصيف الماضي، هاجم نازحون قطعة الأرض الزراعية الخاصة بنور الذي دخل في اشتباكات معهم باستخدام العصى، فتعرضت يده للكسر. يحكي أن هذا الحادث سبب له كثير من المتاعب، إذ أصبح غير قادر على الفلاحة، لتعمل زوجته وصغارها وحدهم في حصاد المحصول ونقله للمنزل. “تواجد الإثيوبيين فرضته ظروف إنسانية نقدرها، ولذلك ينبغي أن تسعى الجهات المختصة الحكومية والدولية على توفيق الأوضاع ومراقبة المنطقة”، يقول متأثرًا.
وتعترف زوجة نور بأنها وجدت نفسها في ظروف عمل قاسية ووحيدة مع أطفالها الصغار، خلال حصاد الذرة، في ظل درجة حرارة شديدة تشهدها المنطقة.
ويقول نور إن عصابات الشفتة تراجعت في الفترة السابقة لكن هناك مشكلة النازحين. فهؤلاء القادمين الجدد لديهم ثقافة وعادات وتقاليد مختلفة، فرغم أن السودانيين بالقرب من الحدود مع إثيوبيا ما تزال الفوارق الثقافية تطفو على السطح.
ويتراوح عدد النازحين الإثيوبيين الذين وصلوا إلى السودان منذ اندلاع الحرب بين 80 و100 ألف شخص، يتوزعون في معسكر “أبو راكوبة” بالقرب من مدينة “دوكا” ومعسكر آخر بالقرب من منطقة “اللكوبي”، وأيضا هناك عدد من النازحين في معسكر “سنيطة” بالقرب من “أم رخم” في محلية “المفازة”.
وتتشارك المفوضية السامية للاجئين والمفوضية الحكومية بالسودان إدارة المعسكرات، بالإضافة لمنظمات أخرى، مثلا تعمل هيئة الإغاثة الدولية “كير” في مجال تنقية المياه الشرب، بالإضافة لوجود مراكز خدمية أقامها عدد من المنظمات، لاسيما لتوفير بعض الرعاية الصحية.
وشكل وجود هذه المنظمات في المنطقة، فرصة جيدة لسكان القرية والقرى الأخرى للاستفادة من بعض الخدمات التي توفرها داخل معسكرات اللاجئين. ذهب بعض أهالي القرى إلى العيادات الداخلية في المعسكرات من أجل تلقي العلاج من بعض الأمراض. ورغم ذلك، تسبب الوجود الكثيف للنازحين في منطقة تفتقر الموارد في انتشار الأمراض، مثل حساسية الجدري، ولكن ليس بشكل واسع، وهو ما تحاول السلطات السودانية السيطرة عليها.
بعد توقيع اتفاقية التهدئة بين الحكومة وقبائل تيغراي، توقفت المعارك، لكن ظلت المعسكرات موجودة. وتضمن الاتفاق العمل على إعادة النازحين إلى دول أخرى، ولاسيما السودان. بينما ينتظر نور وسكان القرية عودة هؤلاء النازحين إلى وطنهم، الأمر سيسمح لهم بالتمتع بمواردهم البسيطة التي تكفيهم بشق الأنفس، في الوقت الذي يظهر تعاطفه معهم في مأساتهم، التي لم يكن لهم يد فيها، بالضبط كمأساته وغيره من أهل قريته الحدودية الصغيرة.