هل تعرف معنى “القلب”؟بالتأكيد سيذهب تفكيرك إلى تلك المضخة المعجزة داخل صدر الإنسان، التي تغذي الجسم بالدم ورحيق الحياة. لكني هنا أقصد التعبير الذي ورد في القرءان الكريم أكثر من عشرين مرة عن القلب. هل يقصد القرءان القلب اللحم والدم الذي نعرفه نحن؟
الإجابة لا.
“القلب” في القرءان مجاز يرمز لمجموعة أحاسيس ودوافع ونزوات تشكل القوام المعرفي لدى الإنسان، وفي علوم الكمبيوتر نحن نسمى ذلك “نظام التشغيل” Operating System.
نظام التشغيل في الكمبيوتر هو البرنامج الأساسي الذي يتحكم في الحركة والسكون و يبدأ تشغيل الكمبيوتر ثم يتولى إدارة عمل التطبيقات والتواصل عبر الشبكات، يمثل المنصة الأساسية التي تحكم نشاط الكمبيوتر الداخلي و تواصله مع العالم الخارجي.
ويتحكم “نظام التشغيل” في قدرة الجهاز على أداء وظائفه، فمهما كانت البرامج والتطبيقات التي تضاف إلى الكمبيوتر فهي لا تستطيع أداء مهامها بأوسع مما يتيحه لها نظام التشغيل.
القلب السليم.
الله سبحانه وتعالى يقول في سورة الشعراء (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)، ما معنى (القلب السليم) هنا؟
بالتأكيد ليس له علاقة بتشريح جسم الإنسان.
القلب في القرءان غير محسوس أو ملموس.. لكنه “الموجه الأخلاقي” للفرد.. يتحكم في الأفعال و”النوايا” التي وصفها الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم بـ(إنما الأعمال بالنيات.. وانما لكل أمرئ ما نوى).
يقول الله تعالى:
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) الحج 46.
عقل الشيء أي أخضعه لسلطان العقل، أي القصد، الذي يرتبط بالإرادة الذاتية للإنسان، وكلما اتسعت دائرة معارفه، مستجمعات الحواس التي تكون مفاهيم الإنسان، اتسعت قدرته في عقل انفعاله وأفعاله، ترجمة نواياه وغرائزه إلى سلوك.
(أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المجادلة (22)
الإيمان محله القلب، فكتبه الله في قلوبهم، في مكمن السيطرة على الفعل والقول منبع الإرادة، وكتبه في قلوبهم يعني هيأ لهم ما يجعل مجمع الحواس و المعارف قادراً على الاستيعاب والاستدراك، فالكتابة في القلب هي نتاج ذلك.
(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) الحج (32).
كل الشعائر والعبادات التي يمارسها الإنسان مبتغاها ترفيع مجامع حواسه ومعارفه التي تشكل المتحكم في الحركة والسكون لتكون قادرة على ترفيع أدائه لوظائفه في الحياة.
(فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الحج 46
عندما لا يستطيع الإنسان تحري القرار أو الموقف الصحيح فهو لقصور حقيقي في معارفه وقدراته الذاتية على التمييز في الحركة والسكون.
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) محمد 24
إقفال القلوب ليس فعلاً إجرائياً بذاته في يد الإنسان، بل ناتج تلقائي من قصور إدراكي ومعرفي.
وكثير من الآيات والأحاديث الشريفة تمنح القلب صفة المسيطر الأخلاقي والموجه للسلوك العام للإنسان.
الفرق بين “القلب” و “الفؤاد” .
هناك فرق كبير بين “القلب” و “الفؤاد”.. رغم أن كثيراً من كتب التفسير القديمة والحديثة إما حاولت جاهدة أن تفترض أن الكلمتين مترادفتين لمعنى واحد، أو تقع في الخطأ ذاته الذي وقع فيه كثيرون بتأويل المعني لصالح أعضاء جسم الإنسان كما في كلمة القلب، فيقول بعض المفسرين أن الفؤاد هو منطقة داخل عقل الإنسان و آخرون يقولون أنها داخل قلب الإنسان.
“الفؤاد” هو مجمع حواس الإنسان، مركز جمع المعلومات من الأطراف “السمع والبصر والشم والتذوق واللمس “.
في الآية (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) القصص 10، أم موسى لما ألقت برضيعها في البحر أصابها خوف و حزن وجزع كبير شل تفكيرها تماماً، فصوَّر ذلك القرءان بقوله (و أصبح فؤاد أم موسى فارغاً) تعطل مركز تجميع معلومات الحواس، فالحواس تظل عاملة، العين تبصر والأذن تسمع، والأنف تشم، والأطراف تلمس لكن بلا فائدة لأن “مركز تجميع معلومات الحواس” أصابه الشلل من عظم الجلل.
هذا الشلل يؤدي لقطع دائرة صنع القرار، ولو مؤقتا، مثل الذي يتفاجأ بموقف أو مشهد مهول فيتسبب في صدمة تكبل قدرته على الاإدراك وينتج عنها حركة أو سكون لا إرادي.
في القانون الجنائي السوداني المادة “131” يعتبر الاستفزاز الشديد المفاجيء سبباً في تحويل جريمة القتل العمد إلى قتل شبه عمد، بالتحديد النص (إذا قتل الجاني في أثناء فقدانه السيطرة على نفسه لاستفزاز شديد مفاجيء الشخص الذي استفزه..) لأنه دخل في حالة “فراغ الفؤاد” أي عجز في مركز تجميع الحواس.
أو شخص يحاول عبور الطريق فيتفاجأ بسيارة مسرعة تقترب منه فيفقد القدرة على الحركة ويتجمد في مكانه مما قد يؤدي لاصطدام السيارة به.
وتكمل الصورة بقية الآية (لو لا أن ربطنا على قلبها) التثبيت في عمق “نظام التشغيل” مركز الإرادة الذي يتحكم في الفعل والقول فالقلب هو مركز السيطرة المعرفي على الحركة والسكون.
الصدر
كيف يستطيع الإنسان ترفيع قدرته على الإدراك ليحقق معنى “القلب السليم”؟ هنا يكتمل الفهم بشرح معنى “الصدر”.
ما الذي يرمي إليه القرءان بكلمة “الصدر”؟ هل هو ذلك الجزء الذي يقع بين الحنجرة والبطن؟ ويتوسطه القلب، كما ذهبت إلى ذلك غالبية التفاسير؟
من الحكمة النظر إلى بعد عميق في تفسير معنى “الصدر”.
أولاً: المعاني المرسومة في كل الآيات التي وردت في القرءان الكريم عن “الصدر” تمنحه صفة “المخزن”. ليس بالمعنى الحرفي الذي قد يخامر الذهن في المبنى المادي للموقع الذي تُخزن فيه الأشياء، وإنما بالمعنى الافتراضي الذي يحدد المستودع القِيَمي للإنسان.
أقرب إلى قاعدة المعلومات Database.
منذ ميلاد الإنسان ينشأ بذاكرة بيضاء وصفها الشاعر إسحق الحلنقي (صافي زي قلب الرضيع)، و ينمو مبنى ومعنى، يكبر جسمه وتكبر ذاكرته بحصائله من المعلومات التي تتراكم في “قاعدة المعلومات”.
إذا كان ممكناً تجميد حركة الطفل بإغلاقه في غرفة واحدة لعشر سنوات فإن عقله ينمو بمقدار محيطه الذي لازمه في الغرفة فلا يفكر إلا بحدود ما رآه وسمعه ولمسه وأحس به خلال هذه السنوات الطويلة، فيكون عقله قاصراً لا عن سبب عضوي بل قصور حقيقي في “قاعدة المعلومات” Database التي يستند إليها في تكوين قدرته وإرادته.
وهنا يجدر التمييز بين الذاكرة والصدر، فالمعلومات في الذاكرة هي تسجيل لوقائع و أحداث و أفعال و أقوال، رصد حقيقي أقرب إلى التسجيل الصوتي أو الفيديو جرد من أية إضافات أو حذف.
لكن الصدر “قاعدة المعلومات” هو معالجة ذلك السجل في الذاكرة واستخلاص المعلومات منه بالطريقة التي يحددها القلب “نظام التشغيل”.
بعبارة أخرى أخرى الفرق بين الصدر والذاكرة أن محتوى الصدر هو معالجة لما حوته أو عبر بالذاكرة تنتج عنها معارف تتفق مع القلب.
“قاعدة المعلومات” في الصدر تتعرض للمعالجة وفق مؤثرين :
الأول “الشرح”: أي الاتساع والسعة.
معالجة شاملة ومتسقة ومنسجمة مع الأنموذج Model الذي يمثل القوام الفطري للإنسان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :
(ما من مولود يولد إلا على الفطرة) صحيح البخاري.
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) أو (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) القدرة على معالجة المعلومات بما يفي بالاستخلاص الصحيح، حتى ينبني قوامه المعرفي على الحق.
والثاني “الضيق”: أي الانقباض، ضيق الأفق و البصيرة. عدم القدرة على استخلاص المعاني الصحيحة والسديدة من المعلومات.
ثم التمييز بين الأول و الثاني: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) الأنعام (125)، نفس المعلومات لكن الاستخلاص مختلف، فالله يهدي لاستخلاص الحق، ومن يضلل يتخبط في معالجته وفهمه واستخلاصه.
الصدر في القرءان “وعاء” موسوم بما فيه، (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) العاديات 10.. (بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) العنكبوت 49.
وعاء يحوي “قاعدة بيانات” هي خلاصة استخلاص الإنسان من المعلومات التي تشكل قوامه المعرفي، ما حصله الإنسان في حياته من عمل أو قول أو فكر أو نظر.
الخلل في معالجة المعلومات واستخلاصها ينتج من عوامل كثيرة، تشكل أمراضاً حقيقية في نفس الإنسان، فيروسات تسبب خللاً في نمط تفكيره وإرادته “القلب”.
القرءان حدد بعض هذه “الفيروسات” التي تفسد هذا المخزون المعرفي في الصدر “قاعدة المعلومات” ، مثلاً (الغِل، والكِبر) (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) الحجر (47).. (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) غافر (56).
(الغل) هو الحقد الكامن والعداوة.. و(الكِبر) هو العظمة والتجبر.. الصفتان هما أس البلاء والوباء، أدوات الشر المستحكم في عالم البشر منبعه الغل والكبر.
الآن فلنجمع الثلاثة؛ “القلب” و “الفؤاد” و”الصدر”، سبق لي القول أن :
“الفؤاد” : هو مجمع المعلومات التي تتدفق من الحواس “البصر والسمع وغيرهما”.
أما “القلب” : فهو “نظام التشغيل” Operating System الذي يسيطر على الحركة والسكون، إرادة الإنسان وقراره.. وأخيراً “الصدر” : فهو قاعدة المعلومات Database التي تؤثر على معطيات البرمجيات.
المسلم الذي يتعرض للتهديد فيضطر للتظاهر بالكفر لا إثم عليه.. لأن “قاعدة معلوماته” سليمة معافاة وهو مجرد طلاء ظاهري باللسان. عندما تعرض عمار بن ياسر للتعذيب وجبروه على نكران رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فنطق مكرهاً بذلك ثم جاء معتذرا إلى الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية ( ومن كفر بالله بعد إيمانه ،إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) النحل106 .
لاحظ جيداً للتعبير القرءاني.. في وصف من يحشو “قاعدة المعلومات” بالكفر.. (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ) النحل (106).
المؤمن الحقيقي لا يجعل الشعائر والعبادات الدينية مجرد “طقوس” يجمع بها الحسنات مثل ما يفعل الطفل عندما يضع النقود في الحصالة.. أو العميل الذي يودع أمواله في البنك.. فليس ذلك مقصد الدين الإسلامي.. أن يحول البشر إلى صائدي وجامعي “حسنات” رقمية حسابية.. بل الهدف الأسمى للدين ترقية وتطهير مسلك الإنسان وعلاقاته بالآخر، من حيث هو آخر إنسان أو حيوان أو نبات أو حتى جماد.
ما شاء الله ! رائع !!