السودان الان

الزيارة المفاجئة!!

مصدر الخبر / جريدة التيار

هذه سلسلة حلقات هي حصيلة (الزيارة المفاجئة) التي ينجزها فريق من “التيار” لمختلف المؤسسات العامة لاستكشاف الحال والخدمات العامة..
• دخلت المستشفى من أجل هذا التحقيق الصحفي.. فاعتقلوني!!
• (نموذجي) هذه مجرد (نكتة) يرويها واقع الحال الذي شاهدته بأم عيني وصورته بالكاميرا..!!

هل صحيح سيأتي يوم يستضيف فيه السودان مرضى من دولة ألمانيا، أعجز الطب عن دوائهم في بلدهم فالتمسوه هنا في السودان؟ السيد رئيس الجمهورية المشير عمر البشير في حفل افتتاح مستشفى الراجحي بمحلية أم بدة أطلق هذه الأمنية الحميدة. فهل نحن في المسار الصحيح لتحقيقها؟.. هذا ما حولت أن أستقصيه من خلال زيارتي لهذا المستشفى ومستشفى آخر في أم بدة.
(قبضوني ليه.. ليه..)
حملت الكاميرا وقلمي وأوراقي وذهبت إلى مستشفى (الراجحي) في أم بدة.. مستشفى جميل شامخ كأحدث ما يكون.. دخلت عبر البوابة الرئيسية ولم يعترضني أحد.. بدأت أحصل على إفادات من الكوادر الطبية والأخرى.. وبين الفينة والأخرى ألتقط ما تيسر من الصور .. فجأة برز أمامي شاب وخلفه شرطي.. طلبوا مني الذهاب معهم إلى رئيسهم.. في مكتب آخر وجدت رتبة أعلى.. سألني عن سبب زيارتي للمستشفى.. قلت له ببساطة أنني صحفي أعمل تحت خدمة الشعب السوداني صاحب هذه الأرض والمباني بل والمرضى.. أريد أن أنقل لهم حقيقة الوضع في هذا المستشفى الذي لم يجف حبر افتتاحه بعد.. لم يناقشني طلب تحويلي لآخر.. و في (غمضة عين) وجدت نفسي معتقلاً في أحد المقار الرسمية.. يبدو أنني ارتكبت جريمة كبرى.. محاولة كشف (أسرار رسمية).. أسرار المستشفى الجديد “لنج”..
استمر احتجازي بعض الوقت ثم أطلق سراحي..!!ما علينا فلنعد الآن للمستشفى لأروي لكم ما كنت شاهد عيان عليه بنفسي..
المرضى على الأرض!!
في صالة انتظار واسعة كان عدد المقاعد أقل كثيراً من جمهور كبير من المرضى ينتظرون دورهم لمقابلة الطبيب..كثير منهم أعياه الوقوف فجلس على الأرض.. والذي لم يقدروا على الجلوس استقلوا على البلاط تماماً كما يحدث في أي مستشفى ريفي في أحد أصقاع السودان البعيدة.
أين الأطباء؟؟
بدأت أسأل المرضى..”عوضية الشيخ” مريضة كانت في ذروة غضبها قالت لي (ﺟئت اﻠﻤﺴﺘﺸﻔﻰﻣنذ ﺍﻟﺴﺎﻋﺔﺍﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ﺻﺒﺎﺣﺎً، ﺃﻋﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﺍلسكري والحمى ، ﻭطفتﻋﻠﻰ ﻛﻞ أرجاء ﺍﻟﻤﺴﺘﺸﻔﻰ ﻭلم ﺃجد ﻣﻦ ﻳﺴﺘﻘﺒﻠﻨﻲ، ﻭانتهى اليوم ولم أجد العلاج)..
أما عائشة أحمد مريضة أخرى فقالت لي (لم أفهم كيف يحتفل بافتتاح مستشفى قبل اكتمال ضروريات تشغيله!)..
ﻭﺗﺘﺎﺑﻊ(كان الراجحي يكمل جميلو ويجيب لينا من يدير المستشفى ولو من الخارج..)
الطيب إبراهيم، أحد ﺍﻟﻤﺮﺿﻰ كان غاضباً وهو يقول لي (قالوا لينا ﺍﻟﻤﺴﺘﺸﻔﻰ ﺟﺎﻫﺰ ﻭﺣﻴﺮﻳﺤﻜﻢ ﻧﻬﺎﺋياً، ﻭﻟﻜﻦ ﺃﻧﺘﻈﺮﺕ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺒﺎﺡ ﻭﺳﺠﻠﺖ ﺍﺳﻤﻲ ﻓﻲ ﻛﺸﻒ ﻭﻟﻜﻦ إﻟﻰ ﺍآﻥ – ﻣﻨﺘﺼﻒ ﺍﻟﻨﻬﺎﺭ – ﻟﻢ ﺃﺗﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ ﺍﻟﻄﺒﻴﺐ، ﻭﻣﺎﻋﺎﺭﻓﻴﻦ ﻧﻌﻤﻞ ﺷﻨﻮ؟).. ثم ﺃﺿﺎف (ﺣﺘﻰ ﺍﻟﻤﺮﺿﻰ القابلو الأطباء.. معظﻢ ﺍﻟﻔﺤﻮﺻﺎﺕ ﻏﻴﺮ ﻣﺘﻮﻓﺮﺓ ﺑﺎﻟﻤستشفى، ﻭكذلك ﺍأﺩﻭﻳﺔ، ﻓﺎﻟﺠﻤﻴﻊ ﺃﺭﺍﻫﻢ ﻳﺤﻤﻠﻮﻥ ﺭﻭﺷﺘﺎﺕ ﻭﻳﺬﻫﺒﻮﻥ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﻰ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ)..
أين المشكلة؟
كنت في حاجة لإجابة (رسمية!!) تشرح لي أين المشكلة بالضبط؟ بصعوبة وبعد محاولات إقناع مضنية وافق مصدر –رسمي- مطلع على التحدث معي.. بدأ حديثه بأن (الارتجال سيد الموقف) ..قال لي (المتوفر بالمستشفى حالياً أربعة أطباء اختصاصيين من جملة ثمانية كان يفترض توفرهم.. المرضى الذين توافدوا اليوم فقط على المستشفى أكثر من 500.. أكبر كثيراً من قدرة الأطباء على الكشف والعلاج.. فكشفوا على 150 مريضاً فقط.. وهذا في حد ذاته كثير جداً على الأطباء..)
سألت المصدر.. هل تتوفر المعدات؟ رد بالنفي..
الوزير مأمون حميدة!!
نقلت كل هذه الصورة المحزنة إلى وزير الصحة بولاية الخرطوم البروفيسور مأمون حميدة.. بصراحة لفت نظري أن أسئلتي لم توتره.. أجابني بكل هدوء (المستشفى بعد حفل التدشين يحتاج ما بين أسبوع إلى أسبوعين قبل أن يعمل بطاقته العادية)..
سألته عن السبب الذي يستوجب كل هذه المدة.. قال لي (مراسم الافتتاح تتسبب في دخول زوار كثر إلى حجرات العمليات والولادة مما يستوجب إعادة تعقيمها وتجهيزها قبل السماح بإجراء عمليات جراحية فيها… وهو أمر قد يستغرق أسبوعين كاملين..)
سألته وماهو تفسيركم لجلوس المرضى على الأرض؟ انزلق السؤال بلا إجابة..
قال البروف حميدة مستطرداً ( من يظن أن هناك مستشفى يفتتح اليوم ليعمل غداً.. فهو لا يعرف طرق إدارة المستشفيات..المستشفى يعمل الآن بعيادة خارجية فقط..
هذه المنطقة لم يكن فيها مستشفى لأكثر من 50 عاماً.. فماهو وجه العجلة الآن.. لماذا لا تطلبوا من الناس الانتظار لمدة أسبوعين).
وقال الوزير حميدة (الكوادر كلها متوفرة .. الأطباء العموميون ولدينا (14) اخصائياً من جامعة الأحفاد يداومون يومياً لكن ربما لا يلحظهم أحد).
وفي ركلة حرة مباشرة قال لي حميدة (إذا حدثت عدوى والتهابات بكتيرية يضج الإعلام .. وعندما نبذل جهدنا لتجنب ذلك نلام على إجراءاتنا التحوطية!! أعتقد أن واجبكم كصحافة أن تفهموا الناس الأمر ليتفهموه).
على كل حال.. مر من الأسبوعين أسبوع كامل.. سنصبر أسبوعاً آخر ونزور المستشفى لنرى الحال..
أضحك مع (النموذجي)..!!
من مستشفى الراجحي ذهبت مباشرة إلى مستشفى أم بدة (النموذجي!).. ولابد أن يعلم القارئ أن كلمة (النموذجي) ليست من باب السخرية من عندي.. هو اسمها الرسمي .. أبحث في القاموس عن معنى (نموذجي) ثم تعال لتقرأ بقية هذا التحقيق وتدرك كيف أن (نموذجي) هذه مجرد (نكتة) يرويها واقع الحال الذي شاهدته بأم عيني وصورته بالكاميرا لأني أدرك أن الحقيقة أصعب من أن يصدقها القارئ..
بوتيك.. المستشفى (النموذجي)..!!
قبل مواصلة قراءة هذا التحقيق أنصحك أن تلقي نظرة على الصور المرفقة.. إنتبه هي ليست لمحل في سوق سعد قشرة أو سوق ليبيا.. هي صور عنبر في مستشفى أم بدة (النموذجي!!)..
وحتى لا تظن أن هذه الملابس والأحذية والأواني المنزلية المعروضة داخل عنبر المرضى هي مجرد صدفة عابرة.. صورت لكم البطاقات المكتوبة فوق كل سلعة لتحدد سعر البيع..نعم البيع..
وبدلاً من أن يدخل إلى العنبر مرضى هم في أمس الحاجة للعلاج. يدخل (الزبائن) ليتفرجوا على المعروضات ويختاروا ما يناسبهم ثم يساوموا البائع في السعر .. وفي النهاية يحملوا مشترواتهم كأي سوق وينصرفوا..
الحمد لله أن وزير الصحة بولاية الخرطوم البروفيسور مأمون حميدة لم يحاول مجادلتي كثيراً في حكاية المستشفى (النموذجي!!) كشفت له ما رأيته بعيني فاعترف بالأمر.. يبدو أنه كان على علم أو ربما لأنه قرأ الخبر في صحيفة “التيار” فاتصل بالمستشفى وتأكد.. الوزير بروف حميدة قال لي أن (الأمين العام للمستشفى هو من فعل ذلك..) وأن الوزير حقق ولا يزال يتقصى الأمر..وأنه (لن يترك الأمر يمر دون محاسبة).. ونحن من جانبنا لن نترك (المحاسبة) تمر دون نشرها للقارئ.. فإذا لم ننشر فمعنى ذلك أن المحاسبة (لم تمر)!. سننتظر أيضاً المحاسبة..
لكن لا أكتمتكم أنني لمحت في ثنايا إجابة البروف مأمون حميدة تبريراً استباقياً.. قال لي ( في كل الوزارات مهما تحكم الضبط.. هناك ثغرات ..) لكني للأمانة أنقل عنه إعادة تأكيده أنه سيتحرى في الأمر .. ويتخذ الإجراء المناسب..
كيف الحال.. في الأطراف البعيدة؟
إذا كان هذا هو واقع الحال الطبي في قلب العاصمة السودانية، ألا يجوز أن نتخيل كيف الحال في الأقاصي العصية على النظر الإعلامي أو الرسمي..
يا ترى كيف تعمل المستشفيات في القرى البعيدة في شرق السودان.. وفي الشمالية.. وفي دارفور .. وكردفان.. والنيل الأزرق.. إن كان عنبر المرضى في العاصمة تحول إلى بوتيك تحت سمع وبصر الجميع.. فماهو مصير عنبر المرضى في الأقاصي القصية؟؟
استغفر الله العظيم.. هل قلت (عنبر!!) المرضى؟؟ هل من الأصل هناك (عنابر).. هناك؟؟ بل هل من الأصل هناك مستشفيات؟؟
الله أعلم..!!
موعدي معكم بعد أسبوع .. أعود إلى مستشفى الراجحي لأرى الحال بعد مهلة الأسبوعين التي طلبها الوزير حميدة.. ثم أبحث لكم عن (المحاسبة) في مستشفى أم بدة(النموذجي!!) الذي قال الوزير أن (الأمر لن يمر دون محاسبة).. سأنتظر وأنقل لكم (المحاسبة)..
طبعاً .. (إن مرت من هنا)..

يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة التيار

عن مصدر الخبر

جريدة التيار