كريو: خليفة كشيب
عند التاسعة والنصف تماماً، كان موعدنا الذهاب إلى معسكر “كريو” للأجئين (٤٠) ك، جنوب الضعين في محلية بحر العرب، كانت العربة التي تقلنا برفقة موظفي معتمدية اللاجئين تسير بخطوات بطيئة، حيث قطعت (٤٥) دقيقة، حتى وصلنا إلى الموقع.
هنا “كريو” حالة من الفقر والبؤس تخيِّم على وجوه الجميع، أجسام هزيلة، أطفال لا يستطيعون الابتسامة رغم براءتهم، الذباب يستقبلك برفقتهم، العراء، مرافق مائية سيئة التخطيط، انعدام لكل مظاهر صحة البيئة، صفوف من البشر في مكاتب التسجيل لأفراد جاءوا من مناطق ” قوك ريال، جماليل، واريات، أويل، قوك مشار، مريال باي مرول قنق، جاج، نجوك ومين ويليم “.
القادمون يومياً يعيشون أوضاعاً إنسانية صعبة، لا محل يأويهم سوى الصبر قليلاً على أشعة الشمس، حيث الوصول إلى هنا بمثابة نجاة من الموت لهم، نظراتهم تقول: (لنا ربنا يحمينا) نفوسهم تتطلع إلى تناول شيء يشفي قليل من الجوع والعطش.
الدخول للمعسكر
الدخول للمعسكر منذ الوهلة الأولى قد يصيب إنسانيتك في مقتل، إذا لم تكن من أصحاب الإيمان القوي، بالطبع الصور يهتز لها الضمير الإنساني، خاصة من القادمين الجدد، وتحرِّك كل ساكن في دواخلك بعكس الذين مكثوا فترات أطول في المعسكر، مباني من المواد المحلية المتمثلة في حطب القنا وجوالات البلاستيك والمشمعات التي لا تقوى مطلقاً لمواجهة ظروف الطبيعة في فصل الشتاء، ومع اقتراب دخول الصيف، حيث حرارة الشمس الحارقة، مما يضاعف من المعاناة مع الجوع والمرض وسوء التغذية، أفراد من معتمدية اللاجئين والهلال الأحمر والمفوضية السامية يعملون على تقديم الخدمات للاجئين، ولكن جهودهم لاتكفي للعدد الهائل من الجنوبيين، حتى وأن صاروا أقل من ذلك..(٢٤٣٠١) شخص.
الجدد منهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. الأطفال والنساء يمثلون أغلبية الفارين من مناطق بحر الغزال بسبب الجوع والحرب وغلاء المعيشة، جميعهم من قبائل الدينكا، وتحديداً “دينكا ملوال”، قطعوا مسافات طويلة بين ظلال الأشجار وعلى متن عربات من منطقة (كلمة) الشمالية على تخوم بحر العرب.
مجلس السلاطين
تحت راكوبة من القش البلدي (الحظير) اتخذها سلاطين الدينكا مقراً لهم لمناقشة قضياهم ومعرفة ما يدور داخل المعسكر.
مجلس السلطان (إبراهيم ويل) ونائبه السلطان (ماركو اجاو) ملئ بالشخوص وكبار السن الذين تبدوا على وجوههم الحيرة والوهن .. استقبلونا بكلمة “تفضَّل قدام” رغم ضيق اليد.
يقول السلطان (إبراهيم ويل)، سلطان عموم الدينكا، بشرق دارفور: إن المعسكر تم تأسيسه منذ أغسطس ٢٠١٦م، ولكنه ظل يستقبل باستمرار أعداد كبيرة، وأن اللاجئين السابقين وجدوا استقبالاً جيداً وأماكن للسكن، ولكن الأعداد الكبيرة التي تتدفق تسببت في عدم اتزان، خاصة في المواد الغذائية، ويرجع (ويل) أن سبب اللجوء يعود إلى الجوع، لأن في الجنوب، الحكومة ما شغالة بالناس ولا تقدم لهم خدمات، وكل زول بيحب نفسه، بالإضافة إلى أن القروش ما عندها قيمة، ويضرب مثلاً بأن (المائة)ج جنوبي، تساوي (مليون)ج بالسوداني.
ويضيف: إن هنالك أمراض كثيرة في المعسكر، مثل: (البايل، الإسهال والاستفراغ)، وكلها بسبب الذباب وسوء التغذية، مما جعل كثير من النساء الحمل يمتن بجنينهن.
وعن دور حكومة شرق دارفور يقول (ويل): إن الحكومة عملت لهم المعسكر ووقفت معاهم واستقبلتهم، وهناك ثلاثة معسكرات أخرى بالضعين وأبو جابرة والفردوس.
وكذلك المنظمات العاملة في المعسكر وهي: اليونسيف في المياه، والمفوضية السامية في البيوت وبرنامج الغذاء العالمي في الأكل والهلال الأحمر توزيع الغذاء ومنظمة كير العالمية بنت لهم مدرستان لتعليم الأطفال.
وعن كيفية الوصول إلى شرق دارفور يقول السلطان إبراهيم ويل: إن المسافة تستغرق (٥) أيام، من مناطق الجنوب، مما يتسبب في الإرهاق والتعب.
أما عن إمكانية العمل في المدن يضيف: إن مدينة الضعين بعيدة أربعين كيلو، ما في لاجيء يقدر يمشي يشتغل.
“أنا جيعان”
تجلس في رصيف المبنى في العقد الثالث من عمرها، نظرت إليها وعينيها محمرتان ورقرقة لا تشير إلى شيء سوى البكاء. سألتها بإلحاح وهي لا تستطيع الحديث، اسمك منو؟ بعد أن صمت قليلاً قالت لي: أنا (انجلو ادوت بول) جيت إلى هنا، أي المعسكر اليوم. من (قوك مشار)، وقبل أن أبادلها الحديث قالت، بعد أن رفعت عيناها إلى السماء وهزت رأسها وبشيء من الحسرة والألم: (أنا جيعان)… سألتها عن الوضع هناك كيف؟، فقالت: الجنوب ما في شيء، هناك جوع، هنا أحسن..وعن السبب الجوع، أضافت أن ملوة الذرة بـ(٣٠٠)ج، ما يعادل بالجنيه السوداني، وطحنها بـ( ٥٠) ج، والبصلة الواحدة بـ(٣٥) ج، وكيلو اللحمة بـ(١٥٠) ج، وكباية الزيت بـ(٢٠) ج. ووقية الشاي بـ(٣٠)ج.
وتضيف “انجلو ” التي تبدو أنها حامل في أول شهورها، والحزن يكسو ملامح وجهها، أنها فقدت أمها وأبوها، ولا تدري أين هم، قتلهم الجوع أم الرصاص، حيث جاءت إلى (كريو) ومعها أختها عمرها (١٢) عاماً. وصلت من الجنوب بأرجلها بالبر إلى منطقة (كلمة)، ومنها عن متن اللواري إلى المعسكر.
رحلة عذاب وذاكرة مؤلمة
(قوت قوت) عمره (٣٥) عاماً، جاء قبل يوم واحد إلى المعسكر من أويل عاصمة بحر الغزال، بعد مشوار استمر خمسة أيام، أرجله متورِّمة، وتكاد تتفطر من الدرن بسبب مئات الكيلو مترات التي قطعها في الطريق، يعاني من الجوع وعدم تناول الطعام لعدة أيام. يقول (قوت): إن المشاكل بين رياك مشار وسلفاكير، عمل مجاعة، وخلى الناس ما تقدر تشتغل، تمشي الزراعة ممكن تضرب وتموت ما تعرف ديل منو، تمشي السوق حاجات غالية، مافي أي زول بيساعدك عشان تلقى عمل. وأثنى (قوت) على كلام “انجلو ” حيث الغلاء الطاحن وارتفاع أسعار السلع الضرورية في الحياة، مما جعلهم يهربون من الجحيم في رحلة البحث عن مكان آمن مع أسرته عسى أن تتوفر لهم لقمة عيش.
الأحياء والأموات في فراش واحد
(لوك قرنق) عمرها (٣١) عاماً، قدمت من منطقة (جاج) وجدتها تحتضن أطفالها الثمانية، وبالقرب منها تاسعهم، الذي فارق الحياة قبل (٢٤) ساعة، ولكنه مازال بينهم مغطى بالثوب، لأن زوجها (فاولينو أكيج) الذي يقرب منها في الفرش لا يستطيع الوقوف أو الحركة، مصاب بالتهاب حاد، ويلفظ في أنفاسه الأخيرة، ولأنهم قدموا قبل اليومين فلا أحد يعرفهم هنا لمساعدتهم على دفن طفلها.
تقول (لوك) عن طفلها المتوفي: عمره شهر ونصف، وقد ظلت تحمله على ظهرها في مشيها من (جاج) إلى (كريو) مما جعله يصاب بسوء التغذية، كما أنها تعاني من إسهال شديد، أفقدها توفير شيء لأطفالها الذين يعاني ثلاثة منهم سوء التغذية.
جاءت بهم إلى المعسكر لكي تجد ما يسد رمقهم، لعلهم يجدوا من المنظمات دواءً وغذاءً لجعل الحياة ممكنة رغم صعوبتها.
نحن مندكورو
مندكورو بلغة الجنوبيين بصورة عامة تعني تجار البضائع من الشماليين الذين يعملون بين الجنوب الشمال.
بعد انفصال الجنوب شملت حتى الجنوبيين الذين كانوا يقيمون بالشمال، وهذا ما أكده لي (ماركو اجاو) نائب سلطان الدينكا بالمعسكر الذي قدم قبل (٧) أشهر، من منطقة (جام ليل) يقول: (ماركو) إنه وجد صعوبة الوجود في منطقته، وذلك بسبب وصفه “بمندكورو” من أهله، لأنه عاش سنيين طويلة الشمال بمنطقة معالي دردوق غرب الضعين، إذا هو تابع للمؤتمر الوطني حسب زعمهم.
ماركو، الذي يبدو عليه فهمه للأشياء بشكل مختلف عن الآخرين يلخص الوضع الذي دفعه إلى المجئ للسودان بالكارثة التي حلت بالجنوب وسببت المجاعة والتعامل الكعب بين الجنوبيين، ويضيف: إن الشماليين قد استقبلوهم وقدموا لهم الأكل ولكن، لأن المعسكر يشهد يومياً أشخاص جدد بقي صعب إيجاد أكل للجميع مما عمل لهم سوء تغذية وأمراض مثل الإسهالات والاستفراغ والإيرقان، وذلك بسبب انتشار الذباب الأخضر.
ويرى (ماركو اجاو) أنه مع الوحدة بين الشمال والجنوب، حتى يعيش الجنوبيين في آمان بدون حرب أو مجاعة.
اليد قصيرة والعين بصيرة
مكتب معتمدية اللاجئين بشرق دارفور لديه مجهودات مقدرة في إيواء اللاجئين في معسكر “كريو”، ورغم أن مهمته تكمن في الحصر ومراقبة الوضع وتقديم بعض الخدمات، إلا أن فريق العمل لم يكن بالعدد الكافي لمواكبة تزايد الأعداد المستمرة، بالإضافة إلى عدم وجود وتفاعل المنظمات الوطنية والأجنبية في تقدم المعونة للاجئين.
الحقل الإنساني بصورة عامة بشرق دارفور، رغم وجود اللافتات الكثيرة، ولكن هناك عدم نشاط ملموس فيما يستوجب وجود وتضامن كلي لإنقاذ الوضع الكارثي المتمثل في مجابهة تدفقات اللاجئين وانتشار الأمراض الوبائية وسطهم .
الأستاذ “زاهر موسى أبو نفيسة ” مدير معسكر “كريو” يقول إنهم يعملون وفقاً لما هو متوفر لديهم وفي حدود إمكانيتهم ويشتكي زاهر من الأعداد المهولة، إضافة إلى قلة اليد مما يضاعف من مجهودات العاملين في توفير اللازم. ويناشد مدير المعسكر جميع شركاء الإنسانية بضرورة التحرك لرفع الكارثة الصحية ومحاربة تفشي الأمراض الناتجة عن سوء تخطيط دورات المياه والأمراض المزمنة، ويقدم “أبو نفيسة” انتقاد لسلوك اللاجئين بأنهم لم يساعدوهم في الإصحاح البيئي، حيث يقضون حاجتهم في العراء، ويضيف والحديث لأبي نفيسة، إنه اقترح أن يتم عمل غرفة طوارئ لاستقبال الجنوبيين في مكان بعيد من المعسكر يتم فيه ترتيبهم وحصرهم وتغيير ملابسهم وتطعيمهم وإعطاهم الأكل ومدهم بالدواء ثم يتم إلحاقهم بالمعسكر، لأن ذلك يقلل من انتشار الأمراض ويمكنهم من محاصرة بعض المرضى، ويساعد الفريق العامل من المعتمدية في توفير الأكل لهم بدلاً عن عملية التسجيل التي تأخذ كثيراً من الزمن.
انتشار الأوبئة ومخاوف من تفاقم الأزمة
يعاني عدد كبير من لاجئ معسكر “كريو” من انتشار الأمراض المزمنة التي قدموا بها من الجنوب، أو تلك التي نتجت عن سوء التغذية أو ضعف صحة البيئة أو بسبب الاستخدام الخاطئ لدورات المياه وسلوكيات الأفراد.
وأكد د. إبراهيم بشير إبراهيم، منسق الصحة بالمعسكر عن وجود مرض فيروس التهاب الكبد الوبائي (B) بحالات مزمنة، وكذلك التهاب الجهاز العلوي والرمد والتراكوما، وجميع الأمراض المنقولة جنسياً (Sti) . ويشير “بشير” إلى أن كل ذلك ناتج عن ضعف صحة البيئة وعدم توفر أجهزة نواقل الأمراض للحد من خطورة المرض قبل انتقالة بالمعسكر وسوء التغذية بين الأطفال أقل من خمس سنوات، وسلوكيات اللاجئين غير الحميدة في استخدام المراحيض. وشكا مدير مكتب الصحة من قلة الإمكانيات المتاحة لمجابهة الأمراض وخطورتها، لأن تواجههم مشكلة في الأدوية، وخاصة تلك التي تخص الاعتناء بالحوامل وأجهزة الفحص والتحاليل الدقيقة وعدم وجود المبيدات القاتلة للحشرات مع انتشار الذباب بكثافة .
تدني الوضع الصحي
وحسب متابعة (التيار) فإن مكتب الصحة الموجود لا يكفي مطلقاً لمواجهة حاجة اللاجئين للصحة، وذلك بسبب قلة الكادر البشري فيه وعدم توفر الدواء الكافي والخاص بالأمراض المزمنة، علاوة على مواجهة فصل الصيف واحتمال انتشار أمراض المناخ مثل : (الكوليرا) وغيرها.
كما أن دورات المياه سيئة التخطيط، وهي متاخمة لمحلات التجمع وسكن اللاجئين مما جعل الذباب الأخضر يستوطن المساكن وينتشر بشكل كبير في نقل الأمراض والعدوى .
الوضع الصحي بصورة عامة كارثي في المعسكر، وحتى الحالات الخطيرة التي تم تحويلها إلى مستشفى الضعين لم يتم التعامل معها بمعزل أو التحسب من انتشارها حسب مصادر موثقة داخل مستشفى الضعين، مما يشير إلى إمكانية انتقال تلك الأمراض خارج المعسكر، وإصابة المجتمع المحلي في ظل عدم الاهتمام الكافي والتحوطات للحد من محاصرة الوبائات داخل المعسكر.
رأي المجتمع المحلي
بالقرب من معسكر “كريو” يوجد عدد من البيوت البلدية للمواطنين سودانيين، حيث أكد أحدهم ترحيبهم باستقبال الجنوبيين في منطقتهم.
أما عن الأمراض فإن هنالك رؤية مختلفة لأهل المنطقة عن تشخيص الأطباء، حيث يشير أهل المنطقة، حسب تجربتهم، إلى أن الأمراض الوبائية هي جميعها حالات حمى صفراء، أو ما يعرف عندهم بـ (أبو صفير)، حسب قولهم، ولكن المتابعين للوضع الصحي بالمعسكر يختلفون مع ذلك، ويصنفون المرض من فصيلة فيروس الكبد الوبائي (B) المعدي.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة التيار