شهدت الأسابيع الأولى من أكتوبر الحالي تصعيداً ملحوظاً في النشاطات العسكرية، بعد فترة هدوء استمرت لأكثر من شهرين. عادت المعارك البرية لتتصاعد بين الجانبين، حيث قام الجيش بإطلاق عمليات عسكرية على ثلاث جبهات رئيسية.
ثلاث جبهات رئيسية للمعارك البرية
في السادس والعشرين من سبتمبر 2024، تمكنت القوات المسلحة من عبور جسر الحلفايا من جهة أمدرمان، وتحقيق السيطرة على مدخل الجسر من جهة الخرطوم بحري. تم تأمين هذا التقدم من خلال السيطرة على عدد من الأحياء مثل الحلفايا والكدرو والسامراب، ما شكل خطوة استراتيجية في هذه المعركة.
وأشار خبير عسكري، وهو ضابط متقاعد من الجيش السوداني، إلى أن هذه العملية أتاحت تزويد الجيش بالإمدادات لقواته في معسكر حطاب، الذي كان محاصراً من قبل عناصر المليشيا. ومع ذلك، لم تتمكن القوات البرية من إجبار قوات الدعم السريع المتواجدة في مصفاة الجيلي على الانسحاب، كما أنها لم تنجح في التقدم جنوباً نحو الأحياء القديمة في بحري لفك الحصار عن معسكر سلاح الإشارة.
نجحت القوات المسلحة في عبور كبري النيل الأبيض من منطقة امدرمان، حيث تمكنت من التمركز عند مدخله من جهة الخرطوم. ورغم نجاحها في الحفاظ على السيطرة على المدخل، إلا أن القوات لم تتمكن من التقدم عبر شارع النيل شرقًا نحو القصر الجمهوري، كما لم تستطع السيطرة بشكل كامل على الأبراج الرئيسية في تلك المنطقة.
في الوقت نفسه، حاولت القوات المسلحة عبور جسر الفتيحاب، لكنها واجهت صعوبة كبيرة واضطرت للتراجع بسبب كثافة نيران قوات الدعم السريع المتواجدة في منطقة غابة السنط والأبراج في المقرن. هذه التحديات تعكس الوضع المعقد الذي تواجهه القوات المسلحة في سعيها للتقدم في تلك المناطق.
من جهته، أشار خبير عسكري متقاعد إلى أن الانتشار الكثيف لقناصة قوات الدعم السريع في المباني العالية في المقرن يعد من العوامل الرئيسية التي تعيق تقدم القوات المسلحة. كما أن استخدام الطيران في هذه المنطقة الضيقة قد يؤدي إلى خسائر كبيرة في صفوف الجيش، مما يزيد من تعقيد الوضع العسكري. وفقًا لمقاطع الفيديو التي نشرها مؤيدو الجيش، فقد تمكنت القوات من السيطرة على بعض المواقع المهمة، بينما لا تزال قوات الدعم السريع متمركزة في مواقع استراتيجية مثل بنك السودان وبرج الساحل والصحراء.
وأعلن سلاح المدرعات التابع للجيش السوداني الخميس عن نجاحه في السيطرة الكاملة على منطقة “اللاماب بحر أبيض”، الواقعة بالقرب من مقراته. وأكدت القوات أنها تواصل تقدمها بثبات نحو الأهداف والمواقع الأخرى، مشيرة إلى استعدادها لخوض معارك حاسمة ضد العدو في منطقة الخرطوم.
في الوقت نفسه، نشر مؤيدو الجيش مقاطع فيديو تظهر سيطرتهم على مجمع الرواد، إلا أن هناك مصادر أخرى أثارت الشكوك حول صحة هذه المعلومات. حيث أكدت تلك المصادر أن وجود قوات الدعم السريع في المجمع قد أعاق تقدم الجيش نحو منطقة الرميلة، مما أثر على خططهم للوصول إلى وسط الخرطوم.
الجبهة الثالثة تقع على محور سنار-كوستي، حيث تمكنت القوات المسلحة في 5 أكتوبر 2024 من استعادة السيطرة على منطقة جبل موية، التي تُعتبر منطقة استراتيجية وفقًا لما قاله الخبير العسكري والضابط المتقاعد. وذلك لأنها سهلت فتح طريق سنار-ربك وتمكين إيصال الإمدادات للقوات المتواجدة في قاعدة كنانة الجوية، بالإضافة إلى الفرقة 18 مشاة في كوستي ومتحرك الصياد في تندلتي.
الطيران يرجح موازين القوى لصالح الجيش
يرتبط التقدم الذي أحرزته القوات المسلحة على الأرض بتكثيف الطيران الحربي لعملياته الجوية بشكل نوعي وكمّي، لتشمل مناطق واسعة تمتلكها قوات الدعم السريع.
وجاء ذلك في الوقت الذي تم فيه تداول معلومات عن حصول الجيش السوداني على طائرات حربية من مصادر متنوعة، بتمويل من مجموعة من الدول التي تدعم الجيش.
وتأكد الدور الحيوي لسلاح الطيران بعد أن اتهم قائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو، في خطابه بتاريخ 9 أكتوبر، الطيران المصري بالتدخل في النزاع في السودان، وأنه يتحمل المسؤولية عن الخسائر التي لحقت بقواته في معركة جبل مويه.
بعد زيارة الفريق عبد الفتاح البرهان، القائد العام للقوات المسلحة، لقاعدة وادي سيدنا الجوية وتفقده للقوات التي استعادت السيطرة على جبل مويه، أكد أن القوات الجوية كان لها دور أساسي في استعادة السيطرة على عدد من المواقع، أبرزها جبل مويه.
حصيلة 15 يوما من القصف الجوي
في 5 أكتوبر 2024، نفذت الطائرات الحربية هجوماً جوياً قوياً على مدينة “الكومة”، التي تقع على بعد 76 كيلومتراً شرق مدينة الفاشر، وأسفر الهجوم عن مقتل 65 شخصاً، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال.
منذ بداية الحرب، نفّذت الطائرات الحربية أكثر من 30 غارة على المدينة التي فرّ إليها أكثر من 45 ألف شخص هرباً من الاشتباكات في الفاشر والمناطق المجاورة.
في 6 أكتوبر 2024، نفذ سلاح الطيران التابع للجيش غارات جوية على منطقة صليعة، التي تُعتبر عاصمة محلية لجبل مون في ولاية غرب دارفور، ولم يكن بالإمكان تحديد عدد الضحايا بسبب انقطاع الاتصالات في كافة المنطقة.
أعلنت غرفة طوارئ جنوب الحزام في جنوب الخرطوم عن وفاة 23 شخصًا وإصابة 40 آخرين نتيجة القصف الجوي الذي نفذه الطيران الحربي على السوق المركزي في الخرطوم ظهر 12 أكتوبر 2024.
تضمنت المناطق الواقعة جنوب الحزام والمنطقة المحيطة بالمدينة الرياضية والسوق المركزي في جنوب الخرطوم.
أكدت الغرفة في صفحتها على فيسبوك أنه تم نقل الجرحى إلى مستشفيات بشائر والرازي والراقي لتلقي العلاج، حيث أن بعضهم في حالة حرجة.
في ظهر يوم 13 أكتوبر 2024، نفذ الطيران الحربي هجمات جوية على مدينة أبو حجار الواقعة شرق مدينة سنجة في ولاية سنار، مما أسفر عن سقوط العديد من الضحايا والجرحى.
قال مواطن من أبو حجار لراديو دبنقا إن القصف حدث في تمام الساعة الثانية من ظهر يوم الأحد، واستهدف مدينة أبو حجار وعدد من القرى المحيطة بشكل عشوائي. وأشار إلى سقوط أحد القذائف على خيمة عزاء، مما أدى إلى مقتل وإصابة عدد كبير من المواطنين.
نشرت لجان مقاومة أبو حجار مقاطع فيديو توضح أشلاء القتلى والجرحى وسط صرخات وبكاء ذويهم.
أشد الغارات خلال هذه الفترة كانت على مدينة نيالا في 14 أكتوبر 2024، حيث نفذت الطائرات الحربية التابعة للقوات المسلحة السودانية غارة جوية مساء الإثنين، أسقطت خلالها أكثر من عشر قذائف على عدة نقاط في المدينة.
أفاد سكان من حي المطار في شرق المدينة لراديو دبنقا بأن الطائرة الحربية حلقت في سماء المدينة لأكثر من 55 دقيقة، وأسقطت خلالها نحو ثمانية براميل في حي المطار.
أفادوا بأن القذائف الثماني لم تُسبِّب سوى تدمير منزل واحد في الحي، لكنها أدت إلى انتشار حالة من الرعب والفزع بين سكان المدينة خلال فترة تحليقها.
ذكر مواطن آخر من حي الرحمن بالقرب من المطار، لراديو دبنقا، أن الطائرة الحربية أطلقت نحو ثلاث قذائف حول المطار، مشيرًا إلى أنه لا يعرف أي تفاصيل عن الأضرار التي لحقت بالمطار.
وأوضح أن الطائرة ألقت عددًا من القذائف في الأحياء الجنوبية للمدينة قرب مدرسة نيالا الفنية.
تعرضت مدينة نيالا للعديد من الغارات الجوية من قبل طيران القوات المسلحة منذ أن سيطرت قوات الدعم السريع على المدينة في السادس والعشرين من أكتوبر من العام الماضي، مما أسفر عن مقتل مئات المواطنين.
تعرض مطار المدينة لأربع غارات جوية خلال الأسبوعين الماضيين، مما أسفر عن تدمير مساحات كبيرة منه، وقد تزامنت هذه الغارات مع تقارير متكررة حول هبوط طائرات غير معروفة في المطار.
وعادت الطائرات الحربية للجيش السوداني لتستهدف مجددًا مواقع قوات الدعم السريع شرق وجنوب مدينة الفاشر في 13 و14 أكتوبر 2024، ولم يتم الإبلاغ عن حدوث إصابات بين المدنيين جراء هذه الغارات.
في 15 أكتوبر 2024، شنت طائرة حربية من القوات المسلحة السودانية قصفًا على عدة مواقع في مدينة الجنينة، عاصمة غرب دارفور، حيث استهدفت مطار المدينة وبعض الأحياء.
وفقًا لشهادات شهود عيان أدلوا بها لراديو دبنقا، لم تتسبب الغارة الجوية في وقوع أي خسائر في أرواح المواطنين. وأشاروا إلى أن الطائرة التي نفذت الهجوم تبدو حديثة بناءً على صوتها.
قال الصحفي علاء الدين بابكر، الذي يعيش في الجنينة، إن الطائرة الحربية بدأت طيرانها عند الساعة التاسعة والنصف مساء على ارتفاع مرتفع.
ورجّح أن تكون الطائرة حديثة وليست مثل الطائرات الحربية عالية الصوت التي نفذت غارات على الجنينة سابقًا، مشيرًا إلى انخفاض صوت محركها وارتفاع طيرانها مقارنة بالطائرات السابقة.
وأشار علاء الدين إلى أن الطائرة أسقطت ثلاث قذائف في المنطقة شرق مطار الجنينة، الذي يقع في شمال شرق المدينة.
قال مسؤول الإعلام بمكتب رئيس الإدارة المدنية للولاية محمد عثمان لراديو دبنقا إن الغارة الجوية على مدينة الجنينة أدت إلى خسائر مادية وبشرية، بما في ذلك حالات إجهاض بين النساء الحوامل، بالإضافة إلى الأثار النفسية وحالة من الرعب بين النساء والأطفال، مشيراً إلى أن هناك أضرار لم يتم حصرها بعد.
نتائج محدودة على الأرض
بخصوص تأثير تكثيف الغارات الجوية على ميزان القوى على الأرض، أشار الخبير العسكري والضابط المتقاعد من القوات المسلحة إلى أن الجيش حقق نجاحات في إحداث خسائر كبيرة في صفوف قوات الدعم السريع من خلال غارات الطيران. ومع ذلك، فإن تكلفة هذه الغارات على المدنيين والمنشآت المدنية كانت مرتفعة، مما جعلها تتعرض لإدانات من قبل القوى المدنية المحلية ومنظمات دولية ودول معنية بالشأن السوداني. وأضاف أنه باستثناء استعادة السيطرة على منطقة جبل مويه، لم تُسفر هذه الغارات عن تحقيق انتصارات كبيرة أو استعادة مناطق من سيطرة الدعم السريع.
وأشار إلى أن حرب أكتوبر 1973 والحربين في العراق، بالإضافة إلى حرب أفغانستان وحرب اليمن، أوضحت أن التفوق الجوي والاستخدام الفعال للقوات الجوية لا يكفيان وحدهما لحسم المعارك، بل يتطلب الأمر وجود قوات برية تتقدم للسيطرة على الأرض، مستفيدة من الغطاء الجوي الذي يوفره الطيران الحربي.
الدعم السريع يستخدم المسيرات بشكل محدود
في ظل تفوق الجيش في المجال الجوي، تحاول قوات الدعم السريع الاستعانة بالطائرات المسيرة الانتحارية لتعويض نقص قدراتها الجوية القتالية الحقيقية.
حاولت قوات الدعم السريع في 6 أكتوبر 2024 مهاجمة قاعدة كنانة الجوية في ولاية النيل الأبيض بثلاث طائرات مسيرة، والتي كانت لها أهمية كبيرة في العمليات في جبهة جبل مويه.
تمكنت الدفاعات الجوية للجيش من إسقاطها قبل أن تصل إلى هدفها.
اعتبر الخبير العسكري والضابط المتقاعد من القوات المسلحة، الذي طلب عدم كشف هويته، أن كفاءة القدرات الجوية لقوات الدعم السريع محل تساؤل، وأنها لن تستطيع تحقيق خسائر كبيرة في صفوف الجيش أو في المنشآت بالمناطق التي تحت سيطرته.
وعزا الخبير العسكري ذلك إلى بساطة هذه الطائرات المسيرة، مما يسهل عملية رصدها، بالإضافة إلى حجم الذخيرة الحربية المحدود الذي يقلل من قدرتها على التدمير.
الاعتماد على القصف المدفعي
في ظل هذا الواقع الجديد، والذي يتجلى في تعزيز الجيش لقدرات طيرانه القتالي وانتقاله من الدفاع عن قواعده إلى الهجوم لاستعادة السيطرة على الأراضي، اتجهت قوات الدعم السريع إلى استخدام القصف المدفعي على المناطق التي يسيطر عليها الجيش، مستخدمةً راجمات الصواريخ ومدافع الهاون، وكلاهما يُعرف بعدم دقتهما في استهداف الأهداف.
في 4 أكتوبر 2024، قصف قوات الدعم السريع مناطق الثورات وأمبدة وأمدرمان القديمة، مما أسفر عن مقتل 3 أشخاص وإصابة 7 آخرين من المدنيين. تم نقل المصابين إلى مستشفى النو لتلقي العلاج، وفقًا لتقرير وزارة الصحة في ولاية الخرطوم.
لكن معظم عمليات القصف المدفعي التي نفذتها قوات الدعم السريع في الأيام الخمسة عشر الأولى من شهر أكتوبر كانت موجهة نحو مدينة الفاشر.
أعلنت غرفة طوارئ معسكر أبو شوك للنازحين عن مقتل 10 أشخاص وإصابة 4 آخرين نتيجة القصف المدفعي الذي شنته قوات الدعم السريع على المعسكر مساء الأحد 6 أكتوبر. كما قامت الغرفة بنشر أسماء القتلى والجرحى الذين تعرضوا للقصف بعد ساعات من الهدوء الذي شهدته مدينة الفاشر.
ذكرت الغرفة أن من بين الضحايا توجد امرأة واحدة قتيلة وثلاثة أطفال، بالإضافة إلى ثلاث مصابات.
جدّدت قوات الدعم السريع قصفها المدفعي على مدينة الفاشر في 13 و14 أكتوبر، حيث كان التركيز على شمال وغرب المدينة.
قال أحد المواطنين من الفاشر لراديو دبنقا إن القصف المدفعي استهدف الأحياء الشمالية بشكل عشوائي، خصوصًا حي الصحافة وأبو شوك الحلة، كما تم قصف سوق المواشي في الجانب الجنوبي للمدينة. وأشار إلى وجود قتلى وجرحى لم يتم إحصاؤهم.
اتهمت وزارة الصحة الاتحادية قوات الدعم السريع بقصف المستشفى السعودي في الفاشر يوم الأحد 13 أكتوبر، مما أسفر عن مقتل أحد أفراد الطاقم الطبي.
أفادت الوزارة في بيان لها أن قوات الدعم السريع قصفت المستشفى بأربع قذائف، مما تسبب في أضرار كبيرة في أقسامه.
صرح وزير الصحة والرعاية الاجتماعية في حكومة إقليم دارفور، بابكر حمدين، أن قصف المستشفى السعودي أسفر عن إصابة 15 من المرضى والعاملين، مما يدل على أنه يستهدف تعطيل الخدمة.