في تطور غير متوقع في سير الحرب الدائرة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، قام القائد البارز في “الدعم” أبو عاقلة كيكل بتسليم نفسه والقوات التابعة له إلى الجيش، الذي رحب به وقرر منحه العفو.
في حين اعترفت قوات الدعم السريع بالانشقاق وقللت من أهمية ما حصل، اعتبر المراقبون أن تسليم كيكل كان ضربة ميدانية كبيرة للقوات “الدعم”.
لكن هذا الأمر أثار جدلاً قانونياً وسياسياً في البلاد، حيث ينقسم الناس بين من يتفائل بأن ما حدث يشير إلى قرب انتهاء الحرب المستمرة في السودان منذ 18 شهراً، ومن يرى أن العفو المرتبط بذلك يمثل تشريعاً لإفلات المتهمين بارتكاب جرائم خطيرة من العقوبة.
يأتي ذلك في ظل الحرب التي اندلعت منذ 15 إبريل 2023، والتي أسفرت عن مقتل آلاف السودانيين ونتج عنها موجات من النزوح الداخلي واللجوء إلى الدول المجاورة.
أفاد مركز بيانات الصراعات المسلحة الأميركي (أكليد) في تقرير صدر في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، أنه تم تسجيل 8109 أحداث عنف سياسي منذ بداية القتال، بالإضافة إلى أكثر من 24850 حالة وفاة في السودان.
في ديسمبر 2022، برزت مجموعة مسلحة تُدعى “درع السودان” تحت قيادة أبو عاقلة كيكل، وهو عضو سابق في نظام الرئيس المخلوع عمر البشير. قامت مجموعته بتنفيذ عرض عسكري في منطقة الجبال الغر “سهل البطانة” في وسط السودان.
قال كيكل في ذلك الحين إن هدفه هو تحقيق توازن استراتيجي في البلاد، “بعد أن تسببت اتفاقية جوبا للسلام الموقعة في 2020 (وهي اتفاقية سلام بين الحكومة وحركات مسلحة في دارفور) في ظلم لمناطق الوسط وشمال وشرق السودان، وقد انحازت إلى حركات دارفور”.
عثمان صالح: النزاع في السودان هو صراع داخلي ويخضع لقواعد القانون الدولي الإنساني.
ولم تقف الحكومة عائقاً في وجه هذه القوات أثناء تجنيدها المواطنين وتنظيم العروض العسكرية، قبل أن تفاجئ الجميع في أغسطس 2023 بالانضمام إلى صفوف “الدعم السريع”، بهدف “مساندة الهامش ومحاربة بقايا النظام السابق”، كما صرح قائدها حينها.
في 20 أكتوبر الحالي، أصدر الجيش السوداني بيانًا أعلن فيه عن انسحاب أبو عاقلة كيكل، أحد أبرز قادة قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة، مع مجموعة كبيرة من قواته وآلياته، وانضمامه إلى صفوف الجيش.
وأفاد أن كيكل اتخذ هذا القرار بعد أن “انكشفت لهم حقيقة دعاوى مليشيا آل دقلو الإرهابية وأتباعها، وأنهم مجرد أدوات رخيصة لتحقيق أجندة إجرامية دولية وإقليمية تهدف إلى تدمير البلاد وشعبها ومقدراتها”.
رحب الجيش بما اعتبره خطوة جريئة من كيكل وقواته، معلنًا أن أبوابه ستبقى مفتوحة لكل من ينضم إلى صف الوطن وقواته المسلحة.
وجدد القائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان عفوه عن أي “متمرد” يختار الانحياز للوطن ويقوم بالإبلاغ لأقرب قيادة عسكرية في جميع مناطق السودان.
أصدر البرهان في 18 أبريل 2023 قراراً بالعفو العام عن جميع أفراد قوات الدعم السريع الذين يتخلون عن السلاح.
وقد ذكر بيان صادر عن الجيش أن هذا “سيشمل انضمامهم إلى القوات المسلحة اعتباراً من تاريخ الإبلاغ”.
ازدادت الضغوط في الساحة السياسية في السودان إثر الأحداث الأخيرة، حيث اعتبر بعض الأشخاص أن استسلام كيكل وانضمامه للجيش يعد خطوة إيجابية ستسرع من إنهاء “الدعم السريع”. في المقابل، اعتبر آخرون أن هذه التطورات تعزز الإفلات من العقاب وتُهدر حقوق الضحايا المتأثرين من قوات الدعم السريع وكيكل الذي كان قائدًا لها في ولاية الجزيرة، التي شهدت انتهاكات جسيمة.
في رد مختصر على الجدل الذي أثاره الانضمام والعفو، صرح عضو مجلس السيادة السوداني، الضابط إبراهيم جابر، في لقاء مع منظمة محلية بتاريخ 20 أكتوبر الجاري، أن الحكومة السودانية تسعى جاهدة لضمان عدم إفلات أي شخص اعتدى على حقوق الشعب السوداني وأثر على استقرار البلاد من العقوبة.
من جانبها، خفّضت قوات الدعم السريع من حجم الانشقاقات.
قال مستشار قائد قوات “الدعم السريع”، الباشا طبيق، في تصريح على موقع إكس بتاريخ 20 أكتوبر الجاري، إن “مسيرة التحرر مستمرة وقطار التحرر قد انطلق، وبالتأكيد هناك العديد من المحطات حيث يركب فيها أشخاص داعمون ومقتنعون بالقضية، بينما ينزل آخرون في محطات مختلفة. وما أبو عاقلة كيكل إلا واحد من الذين اختاروا ركوب قطار التحرر بإرادتهم، وقد عبّر بصوت عالٍ عن اقتناعه بقضية الدعم السريع، وشارك مع الأبطال في العديد من المواقع، والآن غادر بإرادته كما غادر قبله 480 ضابطًا عادوا إلى الجيش والأجهزة الأمنية، ولم تؤثر هذه المغادرات على الدعم السريع”.
اعتبر طبيق أن كيكل اتخذ الآن “أسلوب الغدر والخيانة، ولن يؤثر ذلك على سير قوات الدعم السريع في تحرير السودان من قوى الظلام والاستبداد وتدمير معاقل الإرهاب والتطرف وتجفيف منابعه في البلاد”.
حافز لاستسلام عناصر “الدعم”
وفي هذا السياق، أوضح المواطن عبد الكريم أحمد لـ”العربي الجديد” أن ما حدث مع كيكل يشكل دافعاً كبيراً لتشجيع من لا يزال في صفوف “الدعم السريع” على الاستسلام. كما أكد على أهمية التعامل معهم بشكل إيجابي، مما سيساهم في بناء الثقة ويشجع الآخرين على اتخاذ الخطوة ذاتها، مما يساهم في تسريع إنهاء الحرب.
رأى المواطن صديق عمر أن هذه خطوة إيجابية، ولكنه أشار إلى أنه لا ينبغي أن تُربط بالعفو عن الجرائم التي ارتكبها كيكل أو غيره ممن سيرتفعون أيديهم، متوقعاً أن يؤدي استسلام عناصر “الدعم السريع” وانضمامهم للجيش إلى حمايتهم من الملاحقة القانونية، وهذا يعتبر ظلماً للضحايا والمتضررين من الحرب.
ورأى أنه ينبغي على الجيش أن يبحث عن وسيلة أخرى، أو يسمح للمتضررين بملاحقة مجرمي الحرب الذين استسلموا أمام القضاء.
الحرب في السودان نزاع داخلي
من جانبه، أشار المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان عثمان صالح إلى أن النزاع الجاري في السودان هو صراع داخلي، ويخضع لأحكام القانون الدولي الإنساني الذي يمنع أي أفعال قد تضر بالمدنيين والممتلكات المدنية. وأضاف أن الأطراف المشاركة في الحرب إذا لم تلتزم بقواعد النزاع فقد تكون عرضة للمسؤولية.
وأشار، في حديثه لـ”العربي الجديد”، إلى أنه خلال الحرب الحالية في السودان ارتكب المتنازعون جرائم خطيرة، ومن أبرزها القتل والاغتصاب وعرقلة المساعدات الإنسانية، موضحًا أن العديد من هذه الانتهاكات كانت متساوية بين الأطراف، بينما تختلف نسبها في بعض الحالات، وبالتالي فإن الطرفين معرضان للمساءلة.
محمد صلاح الدين: كيكل هو المسؤول عن جميع أوامر الجنود والجرائم التي تحدث في الجزيرة.
قال صالح إن حكومة السودان ليست مؤهلة لإجراء تحقيق فعلي حول الجرائم، لذا فهي ليست مخولة بإصدار عفو عن شخص مثل كيكل. وأضاف أن المحكمة الأوروبية تعتبر أن التعذيب وسوء المعاملة لا تندرج تحت مسألة التقادم ولا يُمكن العفو عنها كونها جرائم خطيرة. ومن باب أولى، فإن القتل وتدمير القرى والعنف الجنسي يعتبر أكثر خطورة ويجب ألا تخضع للعفو أو يسقط بالزمن.
أشار إلى أن العفو عن مرتكبي الانتهاكات في السودان يتناقض مع الالتزام بالتحقيق في الجرائم الجسيمة ومعاقبة الفاعلين، لذا فإنه لا يُسمح لهم بالحصول على العفو عن هذه الجرائم.
وأشار إلى: “أي جريمة تتخيل أنك ارتكبت ضد الشعب ارتكب وكيكل جرائم، وخاصة في ولاية الجزيرة، حيث يتولى قيادة القوات ويصدر الأوامر. وقد حذر من أن هذه القضية تؤدي إلى الإفلات من العقاب، مشيراً إلى أنهم سيقومون باتخاذ جميع الإجراءات الممكنة لجمع الأدلة لمحاسبة الأشخاص المتورطين في الانتهاكات، حتى لو كانت ملاحقة هؤلاء المتهمين داخل البلاد صعبة بسبب عدم وجود قضاء نزيه أو تحقيقات شرطية، سيبقون ملاحقين في الخارج.
من جانبه، أشار محمد صلاح الدين، عضو المكتب التنفيذي لمجموعة “محامو الطوارئ” الحقوقية، في حديثه لـ”العربي الجديد”، إلى أن كيكل هو قائد “الدعم السريع” في الجزيرة، وبالتالي هو المسؤول عن كافة الأوامر الموجهة للجنود والجرائم التي ارتكبت هناك خلال الفترة الماضية. كما اعتبر أن القرارات الصادرة بالعفو مؤسفة، وتؤكد أن الحرب الحالية تدور في أساسها حول سلسلة من الإفلات من العقاب، التي عانى منها السودان على مر تاريخه.
أوضح أنه لا يحق لقائد الجيش منح عفو عن كيكل، لأنه اعتمد على الوثيقة الدستورية التي تم الإطاحة بها في أكتوبر 2021، وبالتالي أصبحت هذه الوثيقة غير دستورية بسبب فقدان الشرعية وإجراء الحذف والتعديل على بعض موادها.
وأوضح أنه إذا كان العفو يتعلق بكون الشخص تابعاً لمجموعة متمردة، فإن هذا التعريف يعد غير قانوني بل سياسي، حيث أن القانون نص على شروط للعفو الرئاسي لا تنطبق على كيكل أو البرهان.
أوضح صلاح الدين أن للضحايا الحق في المطالبة بالعدالة والمحاسبة عن الجرائم التي تعرضوا لها، وخاصة في ولاية الجزيرة، مثل جرائم الاغتصاب والقتل خارج نطاق القضاء والإبادة، نظراً لسقوط عدد كبير من المدنيين. واعتبر أن القرار المعروض يعزز الإفلات من العقاب، ويظهر وكأن أي ضابط أو جندي يرتكب جرائم مع “الدعم السريع” سيحظى بالعفو إذا عاد وانضم إلى الجيش.
وأشار إلى أنه في كل فترة يتم إصدار عفو من قبل السلطة دون أن يتم محاسبة الأفراد، وهو خطأ جسيم يؤدي إلى زيادة إفلات عدد من مرتكبي الجرائم من العقوبة.
وأشار إلى أنه خلال الفترة الماضية تم العفو عن متهمين بجرائم، حتى أن معظم القوات المشاركة حالياً في الحرب كانت قد شاركت في حروب سابقة وارتكبت جرائم، حيث أصدرت السلطات قرارات بالعفو عنهم، وفي بعض الأحيان تم مكافأتهم، “وهذا يعكس صورة مخزية لظاهرة الإفلات من العقاب”.