منذ بداية الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، خاضت القوتان العديد من المعارك للسيطرة على المواقع المدنية والعسكرية التي تعتبر ذات أهمية استراتيجية لكل منهما داخل المدن، قبل أن تتحول الحرب في السودان إلى المساحات المفتوحة بين الولايات وعلى الطرق.
تتركز المعارك بشكل خاص حول الجبال المنتشرة بكثرة في السودان، حيث تحيط العديد منها بالمدن والقرى والمواقع العسكرية الهامة لكلا الطرفين، مما جعلها ساحة جديدة للقتال وهدفاً ذا قيمة، خصوصاً لقوات الدعم السريع التي تسعى للبحث عن مواقع تحميها من هجمات الجيش البرية.
ومنذ اندلاع حرب السودان في 15 أبريل 2023، يتصارع الجيش السوداني ومليشيات “الدعم السريع” في صراع عسكري أسفر عن وفاة أكثر من 13 ألف شخص، وفقاً لمشروع بيانات مواقع النزاعات المسلحة وأحداثها (أكليد) في الآونة الأخيرة. أدت الحرب في السودان إلى تقسيم السيطرة بين الطرفين على ولايات البلاد البالغة 18 ولاية، مما خلف دماراً كبيراً في عدة مدن، أبرزها العاصمة الخرطوم بمناطقها الثلاث: الخرطوم، أم درمان، والخرطوم بحري. واستمر النزاع حول المواقع الحيوية والاستراتيجية، خاصة في الخرطوم وولايتي سنار وشمال دارفور.
كانت أعنف المعارك تدور في المناطق العسكرية والاستراتيجية داخل المدن وحولها خلال الأشهر الأولى من الحرب، مثل القيادة العامة للجيش والقصر الجمهوري، وفروع الوحدات العسكرية في وسط وأطراف العاصمة، قبل أن تنتقل الاشتباكات إلى الغابات والصحاري.
وتعتبر الجبال مواقع ذات أهمية استراتيجية للطرفين، حيث بذل كل جانب قصارى جهده للدفاع عن الجبال التي يسيطر عليها أو الهجوم على الجبال التي يسيطر عليها الطرف الآخر. وكانت قوات الدعم السريع الأكثر هجومًا على هذه المواقع. معارك جبل موية دارت آخر حروب الجبال في منطقة جبل موية الاستراتيجية الواقعة في ولاية سنار بالجزء الجنوبي الشرقي من البلاد، حيث تعرضت للهجوم من قبل قوات “الدعم” التي تمكنت من السيطرة عليها في 25 يونيو/حزيران الماضي. أدى ذلك إلى قطع الطريق الرئيسي وعرقلة الإمدادات إلى ولاية النيل الأبيض ومناطق كردفان ودارفور.
من خلال هذا التقدم، استطاعت قوات “الدعم” الهجوم والسيطرة على مدن ولاية سنار، بما في ذلك عاصمة الولاية سنجة، بالإضافة إلى مدن الدندر والدالي والمزموم وكركوج. شن الجيش هجومًا في 3 أكتوبر الحالي على جبل موية واستهدف مواقع قوات الدعم السريع المتواجدة هناك. وبعد حوالي يومين، أعلن الجيش استعادة السيطرة الكاملة على منطقة الجبل الواقعة على الحدود بين ولايتي الجزيرة وسنار، حيث تأثر الجيش بفقدانها نظرًا لموقعها الاستراتيجي الذي مكّن قوات “الدعم” من قطع الطريق الذي يربط الفرقة 18 مشاة التابعة للجيش في ولاية النيل الأبيض بسنار. وقد تحرك الجيش خلال الهجوم بين مناطق جبل دود، وجبل فنقوقة، وجبل الأعور وصولاً إلى جبل موية. خلال حرب السودان، خاض الطرفان عددًا من المعارك حول السلاسل الجبلية الاستراتيجية، ومن أبرزها جبل كردفان الواقع في ولاية شمال كردفان شرق مدينة الأبيض، والتي تضم قاعدة عسكرية للجيش وموقعًا للتدريب.
وقد تمكن الجيش من السيطرة عليه في 7 مايو/أيار الماضي بعد قتال عنيف مع قوات الدعم السريع. ومن أبرز المواقع الجبلية الاستراتيجية التي فقدها الجيش منطقة جبل أولياء، حيث نفذت قوات الدعم العديد من الهجمات على هذه المنطقة التي تمثل البوابة الجنوبية للعاصمة الخرطوم.
وشهدت هذه المنطقة معارك ضارية استمرت لعدة أشهر قبل أن تسيطر عليها قوات الدعم في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، لتستولي على المنطقة العسكرية التي تعتبر القاعدة الأهم جنوب الخرطوم، والتي تحتوي على معسكر للجيش وقاعدة “ود النجومي” الجوية الخاصة بالمروحيات. ويحتوي الموقع أيضًا على جسر صغير فوق نهر النيل يربط الخرطوم بمدينة أم درمان. في جبال النوبة بولاية جنوب كردفان، تُعتبر مدينة كاودا واحدة من أبرز المدن المحصنة، وهي الآن المركز الرئيسي للحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال بقيادة عبد العزيز الحلو. تتميز المنطقة بسلسلة من الجبال والتلال الوعرة، وأهمها جبال المورود التي تحيط بمدينة كاودا من جميع الجهات. وقد فشلت قوات الدعم السريع في اقتحام المدينة وتعرضت للهزيمة أثناء هجومها على الموقع في عام 2015 خلال فترة حكم الرئيس المعزول عمر البشير. تُعتبر منطقة جبل مرة في ولاية وسط دارفور بإقليم دارفور، غرب السودان، موقعًا استراتيجيًا تسيطر عليه حركة جيش تحرير السودان برئاسة عبد الواحد نور، حيث تتألف من مجموعة من القمم البركانية التي جعلت من الصعب على قوات الحكومة، بما في ذلك “الدعم السريع”، خلال فترة حكم البشير، السيطرة على الجبل وهزيمة حركة نور المتحصنة فيه.
وقد تعرضت مدينة الفاو في ولاية القضارف لهجمات متتالية من “الدعم السريع” بعد أن تمكنت من السيطرة على مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة القريبة، في 15 ديسمبر/كانون الأول 2023. لكن “الدعم السريع” لم تستطع اقتحام المدينة المحصنة بالجبال، التي يتمركز فيها الجيش وحلفاؤه من الحركات المسلحة بكثافة، إذ تحيط الفاو سلسلة من الجبال العالية من جميع الاتجاهات. في دارفور، خاضت القوى المشتركة لحركات الكفاح المسلح (مسلحون موالون للحكومة) معارك عنيفة في يوليو/تموز الماضي مع “الدعم السريع” في منطقة جبل عدولة، الواقعة بين مدن الفاشر ونيالا والضعين، وهو موقع استراتيجي كانت الحركات المسلحة تستخدمه سابقًا كمأوى آمن للقتال ضد نظام البشير. تُستخدم “الدعم” كاستراتيجيات عسكرية في حرب السودان.
اعتبر المحلل العسكري محمد إبراهيم، في حديثه لـ”العربي الجديد”، أن قوات الدعم السريع تعتمد في حرب السودان على المهارات التي اكتسبتها من الجيش، الذي كان قد دربها وزودها بالأسلحة عندما كانت قوة حكومية قبل 15 إبريل 2023. وأوضح أن القوات تدرك أهمية السلاسل الجبلية كدفاعات طبيعية ضد الهجمات البرية. وأشار إلى أن العديد من القادة الميدانيين في قوات الدعم السريع كانوا ضباطاً نظاميين سابقين، مما يمنحهم معرفة بالتكتيكات والاستراتيجيات المتعلقة بالتحكم في المواقع الضرورية لـ”الدعم”، خاصة بعد فقدان عدد كبير من المقاتلين في الآونة الأخيرة. أشار إبراهيم إلى أن العديد من المواقع العسكرية والاستراتيجية في السودان تقع في مناطق جبلية، مما يجعلها أهدافًا مغرية لقوات الدعم السريع. ومع ذلك، فإن هذه الجبال تعتبر سلاحًا ذو حدين، حيث إنها ليست مكانًا سهلاً للمعارك.
فقد تصبح السلاسل الجبلية عائقًا أمام المدافعين المتحصنين عندما يواجهون القوات البرية المدعومة جويًا، خاصة إذا لم يكن لديهم الخبرة العسكرية الكافية في القتال في المناطق الجبلية. كما حذر من أن نقص المقاتلين سيدفع قوات “الدعم” للبحث عن مواقع دفاعية يمكن إدارتها بعدد أقل من الجنود، مقارنة بالمهاجم الذي يحتاج إلى قوة أكبر لاختراق المواقع المحصنة. واعتبر أن المعركة الأخيرة في جبل موية كانت لها آثار سلبية على “الدعم” وأفقدتها موقعًا ذا أهمية كبيرة. قال المستشار في الأكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية والأمنية، اللواء معتصم عبد القادر، لـ”العربي الجديد”، إن الحرب في السودان تميزت بالمناطق الجبلية والوديان، بالإضافة إلى المناطق الحضرية التي تتميز بكثرة المباني العالية والشوارع الضيقة. وهذا يتطلب معرفة وخبرات متعددة في حرب الجبال وحرب المدن، وهو ما لم تتمكن “الدعم السريع” من تحقيقه، بينما برع فيه الجيش السوداني، كما وصف. وأضاف أنه سبق لهذه الميليشيات أن فشلت، خلال فترة النظام السابق، في مواجهة الحركات المسلحة في جبال النوبة جنوب غرب البلاد وجبال الأنقسنا في الجنوب الشرقي. ويرجع هذا الفشل إلى طبيعة مقاتلي الميليشيا الذين تعودوا على القتال في المناطق الصحراوية، ويشاركهم في ذلك العناصر المنخرطة في دعمهم من دول الصحراء الكبرى.
ذكر عبد القادر أن القوات المسلحة قد اعتادت على خوض حروب في المناطق الجبلية أو التضاريس الوعرة، حيث التقت تدريباتها السابقة على ذلك. بالإضافة إلى التدريب الذي يحصل عليه قادة وعناصر الجيش في الأكاديميات والمعاهد العسكرية على العمليات في جميع أنواع التضاريس. كما أوضح أن الجيش السوداني يملك في منطقة جبيت الجبلية، الواقعة شرقي السودان، معهدًا متخصصًا في تدريب أفراد الجيش على حرب الجبال.
وأكد أن القتال في المناطق الجبلية يمنح القوات المسيطرة على المرتفعات ميزة مراقبة واستهداف القوات الموجودة في السهول، مما يتيح لها التحكم في تحركاتها والالتفاف حولها وقطع إمداداتها وإعاقة معداتها، كما يمكنهم أيضًا من إقامة الكمائن وزرع الألغام لتعطيل أي تقدم من القوات الأخرى. رأى عبد القادر أن الجيش في معركة جبل كردفان تمكن، عبر وحداته في المنطقة الغربية، من هزيمة قوات الدعم السريع، وقتل قائدها عبد المنعم شيريا.
بعد ذلك، بدأ الجيش في استهداف القيادات الميدانية لهذه القوات، مثل علي يعقوب في الفاشر وعبد الرحمن البيشي في مناطق جبل موية وآخرين. وأشار إلى أن تمركز الجيش في جبال الفاو قد أفشل محاولات المليشيات للزحف نحو الولايات الشرقية. وأضاف أن سيطرة الجيش على سلسلة جبل موية الاستراتيجية تعزز قدرته على محاصرة قوات الدعم في ولايات سنار والجزيرة والخرطوم من الجانب الجنوبي والغربي، مما يقطع عليهم سبل الهروب نحو مناطقهم غربًا، ويجعل أمامهم خيارين فقط؛ الاستسلام أو الإبادة.