معارك عنيفة تتخللها لحظات من الهدوء، وقصف مدفعي يتبعه غارات جوية، ومنازل مهجورة، ومبانٍ أصبحت أنقاضًا، وشوارع خالية من المارة خلال النهار، وظلام دامس في الليل، وأسواق مغلقة، وأشجار جفت أوراقها، وحشائش كثيفة تغطي ساحات المنازل والطرقات.. هكذا تبدو الحياة في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، لاسيما في شرق ووسط المدينة، بعد أكثر من ستة أشهر من الاقتتال المستمر بلا هوادة بين الجيش والقوة المشتركة للحركات المسلحة من جهة وقوات الدعم السريع من جهة أخرى.
اندلعت المواجهات العسكرية العنيفة في الفاشر في مايو الماضي، مما أسفر حتى الآن عن مقتل الآلاف من المدنيين ونزوح أكثر من 410 آلاف شخص من المدينة. يقول الصحفي معمر إبراهيم، في اتصال عبر الإنترنت من الفاشر مع راديو دبنقا، إن الاقتتال العنيف أدى إلى تغيير معالم المدينة تماماً، وخاصة السوق الكبير. ويشير إلى أن 90% من المباني الخاصة والمرافق العامة في وسط المدينة وشرقها وفي السوق الكبير تضررت نتيجة القصف المستمر، مبيناً أن الضرر طال أيضاً مبنى قيادة الفرقة السادسة للجيش. ويضيف بأنه “لا يوجد أي جدار سليم، كلها تضررت بسبب القصف والقتال، وقد اختفى اللون الأخضر من المدينة وأصبحت تحمل ملامح كئيبة”. تُعتبر مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، هي الولاية الوحيدة في دارفور التي لا تزال تحت سيطرة الجيش، بينما تسيطر قوات الدعم السريع على عواصم الولايات الأربع الأخرى. إذا تمكنت هذه القوات من السيطرة على الفاشر، فإنها ستعزز قبضتها على إقليم دارفور، مما يعني أن القوات المسلحة وحركات التمرد ستفقد معقلها الأخير في الإقليم.
أسواق مغلقة
يذكر التاجر أحمد محمود الذي يشتغل في بيع الخضروات لراديو دبنقا: “كنت مضطراً لتحويل عملي من السوق الكبير إلى سوق المواشي بعد إغلاق السوق الأول قبل عدة أشهر نتيجة تزايد الاشتباكات، كما انتقل زملائي أيضاً من سوق أم دفسو إلى سوق المواشي بعد إغلاقه نتيجة القصف المدفعي المستمر الذي أسفر عن سقوط عدد من القتلى بين المواطنين”. يشهد السوق الكبير في الفاشر تواجدًا متكررًا لقوات الدعم السريع، حيث قامت هذه القوات يوم الخميس الماضي بنشر مقاطع فيديو تُظهر دخولها إلى مقار رئاسة طوارئ شرطة الولاية ومقار رئاسة الشرطة الواقعة جنوب غرب السوق الكبير في وسط المدينة. كما تواجدت القوات بالقرب من عدد من المباني العالية المحيطة بالقيادة. وفي الجهة المقابلة، قامت القوة المشتركة للحركات المسلحة بنشر مقطع فيديو من نفس الموقع. وقال التاجر أحمد إنه اضطر في الوقت الحالي للانتقال للمرة الثانية إلى سوق معسكر زمزم، الذي يقع على بعد 20 كيلومترًا جنوب الفاشر، من أجل الاستمرار في البحث عن لقمة العيش، وذلك بسبب القذائف التي تسقط باستمرار على سوق المواشي. يبيّن الصحفي معمر إبراهيم أن حوالي 80% من المتاجر في سوق المواشي قد أُغلقت، في حين تواصل متاجر بيع الخضار واللحوم عملها بشكل مستمر رغم استمرار عمليات القصف. وأشار إلى أن سوق نيفاشا في شمال المدينة وسوق معسكر زمزم في الجنوب يعملان بشكل منتظم، بينما تم إغلاق السوق الكبير وسوق أم دفسو منذ عدة أشهر، حيث تحولت منطقة السوق الكبير والجهة الشرقية منه ومنطقة سوق أم دفسو إلى ساحات مواجهات مفتوحة ومشتعلة. يشير تجار في سوق المواشي إلى أن بعض المتاجر تعمل بشكل جزئي ولساعات محدودة، وتسارع للإغلاق عند تصاعد حدة القصف والاشتباكات الأرضية.
أزمةخانقة في السيولة النقدية
في ظل الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع على المدينة، تُعتبر مناطق جبل مرة المصدر الوحيد للمحاصيل. ومع ذلك، فإن أسعار السلع قد انخفضت بشكل ملحوظ، إذ وصل سعر ملوة الذرة الماريق إلى 14 ألف جنيه بدلاً من 20 ألفاً، بينما بلغ سعر رطل السكر ألفاً ونصف جنيه. يؤكد الصحفي معمر إبراهيم على توافر المواد الأساسية في المدينة، مثل الدقيق والسكر والزيت، مع استقرار الأسعار على الرغم من استمرار القتال والحصار. ويضيف أن ما يزعج حياة الناس هو نقص السيولة النقدية، واختلاف الأسعار بين الدفع نقداً وعبر التطبيقات المصرفية. منذ اندلاع الحرب، توقفت جميع المصارف في الفاشر وفي عدد كبير من المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع، مما زاد من معاناة المواطنين. يشير إلى استمرار تدفق السلع والبضائع من جنوب غرب المدينة إلى داخلها، حيث يواصل المواطنون ابتكار أساليب لإدخال السلع عبر المحور الشمالي.
حركةحذرة
يذكر بعض سكان الفاشر لراديو دبنقا أن المدينة تستيقظ وتنام على أصوات إطلاق النار ودوي المدافع والقذائف. تتخللها لحظات من الهدوء تتبعها ساعات من الاشتباكات ليلاً ونهاراً، حيث تزداد حدة القتال خلال ساعات النهار بينما يسود هدوء نسبي في المساء. يعتقد الصحفي معمر إبراهيم أن الأساليب العسكرية المتبعة قد تضررت بشكل كبير المدنيين، مشيرا إلى الاستخدام المكثف لمدافع الهاون. وصف حركة الأفراد والمركبات في المدينة بأنها تمثل حذرًا، حيث يضطر الناس للخروج من منازلهم لتلبية احتياجاتهم الضرورية خلال الفترات التي تنخفض فيها حدة الاشتباكات. وأضاف أن سكان المدينة يذهبون إلى المستشفيات للاطمئنان على أقاربهم أو لشراء احتياجاتهم الأساسية في الصباح الباكر، ثم يتعجلون للعودة إلى منازلهم. كما تزداد حركة المركبات في المساء، بينما يتجنب المواطنون الخروج خلال النهار بسبب تصاعد حدة المعارك.
مستشفيات خارج الخدمة
قال بعض سكان المدينة لراديو دبنقا إن مستشفى النساء والتوليد المعروف بـ “المستشفى السعودي” هو المستشفى الوحيد الذي لا يزال يعمل في الفاشر ، حيث تحول إلى مستشفى عام يقدّم الخدمات للمدنيين بعد خروج جميع المستشفيات الأخرى من الخدمة بسبب القصف، بينما يقدّم مستشفى السلاح الطبي خدماته للعسكريين. تحتوي الفاشر على خمسة مستشفيات رئيسية، وهي: المستشفى التعليمي، مستشفى النساء والتوليد التخصصي (السعودي)، المستشفى العسكري، مستشفى الشرطة، ومستشفى الفاشر الجنوبي. وقد توقفت جميع المستشفيات عن العمل باستثناء المستشفى السعودي والمستشفى العسكري. عبّر المواطنون عن قلقهم من إمكانية خروج المستشفى السعودي من الخدمة في ظل تزايد العمليات واستمرار القصف. يشير عدد من سكان المدينة إلى الازدحام الشديد في المستشفى السعودي بسبب الإصابات الناتجة عن العمليات العسكرية، مما يعيق قدرة المستشفى على استقبال الحالات المرضية الأخرى. وقد ذكروا أن المستشفى يوفر الإسعافات الأولية ويجري العمليات الجراحية، لكن الذين يحتاجون إلى تدخلات جراحية لإزالة الذخائر أو الشظايا يواجهون تحديات كبيرة بسبب عدم قدرة المستشفى الوحيد على تلبية جميع الاحتياجات.
من ناحيته، أشار الصحفي معمر إبراهيم إلى استمرار تقديم الخدمات في المستشفى السعودي على مدار الساعة، على الرغم من استمرار القصف المكثف. أشار إلى أن أزمة نقص السيولة النقدية قد أثرت على القطاع الصحي، موضحًا أن جميع الخدمات في المستشفيات تتطلب الدفع باستثناء الإسعافات الأولية الطارئة. كما أشار إلى أن بعض العمليات الجراحية تواجه تأخيرًا بسبب عدم قدرة المواطنين على الحصول على الأدوية والمستلزمات الطبية مثل الشاش، لافتًا إلى ارتفاع أسعارها عبر تطبيق بنكك. وثمن معمر استمرار جهود الوقاية والرش في المدينة رغم استمرار الحرب.
في المقابل، أشار المدير العام لوزارة الصحة في ولاية شمال دارفور، الدكتور إبراهيم عبدالله خاطر، في تصريحات صحفية، إلى التزام وزارته بتوفير الخدمات الصحية لجميع المرضى في جميع المرافق الصحية دون أي تكلفة. قال أحد المواطنين لراديو دبنقا إن هناك عدة مراكز صحية لا تزال تعمل، مثل مركز صحي أولاد الريف ومركز صحي عبد السلام شمال الفاشر، بالإضافة إلى مركز صحي سيد الشهداء الواقع في الاتجاه الجنوبي الغربي من المدينة بالقرب من سوق المواشي. وتقوم هذه المراكز بتقديم خدمات الإسعافات الأولية قبل نقل المصابين إلى المستشفى، كما أشار إلى نقص حاد في الأدوية وارتفاع أسعارها.
تشكو الكوادر الطبية في المراكز الصحية من نقص الأدوية ومعدات المعامل وأدوات النظافة، بالإضافة إلى عدم وجود ملاجئ آمنة لممارسة العمل الطبي. كما يعانون من استمرار انقطاع الكهرباء والمياه، وعدم توفر الحوافز للكوادر العاملة، وضعف التنسيق وتداخل السلطات والصلاحيات في الجوانب الفنية والإدارية بين مقدمي الخدمة الصحية من العاملين والمبادرين والمتطوعين.
نزوح مستمر
مع ازدياد حدة القتال في الأسبوعين الأخيرين، اضطُر العديد من سكان الفاشر إلى الهروب إلى معسكر زمزم والقرى الواقعة جنوب الفاشر، في حين وصلت أعداد أخرى إلى طويلة وكبكابية ومناطق جبل مرة. أفادت مواطنة من الفاشر لراديو دبنقا أنهم اضطروا للنزوح من الفاشر إلى مخيم زمزم والقرى الواقعة جنوب الفاشر بأعداد كبيرة نتيجة لتفاقم حدة القتال. وفقًا لمصفوفة رصد النزوح التابعة لمنظمة الهجرة الدولية، أدى القتال في مدينة الفاشر منذ مايو الماضي إلى نزوح حوالي 410 آلاف شخص إلى مناطق جبل مرة ومناطق أخرى في البلاد. أظهر تقرير آخر أن 400 أسرة نزحت من الفاشر بين 7 و 12 نوفمبر بسبب تصاعد العمليات العسكرية، وخاصة في الأحياء الشرقية والجنوبية الشرقية. وأشارت المنظمة إلى أن النازحين انتقلوا إلى مناطق أخرى داخل الفاشر وإلى مناطق طويلة وكبكابية في شمال دارفور، بينما اضطر بعضهم للجوء إلى تشاد. ومع ذلك، يرى الصحفي معمر إبراهيم أن حركة النزوح أقل من الفترة الأولى لاندلاع المواجهات في الفاشر، موضحًا أن بعض الأسر تتوجه إلى معسكر زمزم ويعودون في المساء بعد أن تهدأ العمليات العسكرية.
ويضيف قائلاً: “القصف المدفعي يسبب قلقًا كبيرًا للمواطنين. الطيران الحربي لا يعمل بكفاءة في مواجهة مدفعية الدعم السريع، ولن يتوقف هذا القصف إلا إذا تمكن الجيش من السيطرة على الجبال التي تُنصب فيها المدفعية شرق المدينة.”
لا كهرباء ولا مياه ولا اتصالات ي
عاني سكان الفاشر من استمرار انقطاع الكهرباء وارتفاع أسعار مياه الشرب. يؤكد الصحفي معمر إبراهيم في مقابلة مع راديو دبنقا أن انقطاع التيار الكهربائي في المدينة مستمر منذ بداية الحرب، بالإضافة إلى نقص المياه. قال إن المواطنين يضطرون لشراء برميل مياه الشرب من عربات الكارو بمبلغ ثمانية آلاف جنيه، مشيراً إلى أن الأسرة تستهلك نصف برميل يومياً، وأوضح أن بائعي المياه لا يتعاملون عبر التطبيقات.
وأشار إلى أن معظم سكان المدينة يعتمدون على خلايا الطاقة الشمسية في منازلهم لتوفير الكهرباء. أفاد بعض المواطنين في الفاشر لراديو دبنقا أن جميع شبكات الاتصالات في المدينة مقطوعة، وأن وسيلة التواصل الوحيدة المتاحة هي عبر شبكات الإنترنت الفضائي (ستارلينك). وأشار المواطنون إلى أنهم يواجهون صعوبات في التواصل مع عائلاتهم بسبب إغلاق السلطات لمتاجر (ستارلينك) لأسباب تعتبرها أمنية.
مع استمرار جميع الأطراف في تجميع قواها والتقدم نحو الفاشر، وفي ظل عدم التزام الدعم السريع بقرارات رفع الحصار عن المدينة ووقف الهجمات، ومع عدم تمكن أي طرف من الحسم العسكري، يتوقع المراقبون أن تظل المعارك مستمرة لفترة أطول، مما يزيد من معاناة المواطنين ويؤدي إلى تدفق المزيد من النازحين واللاجئين في رحلة جديدة مليئة بالمخاطر.