الخرطوم – الزين عثمان
يصفه البعض بأنه أفضل من يجيد لعبة السياسة وتكتيكاتها على الطريقة السودانية.. الخمسيني المولود في الجزيرة لم يكن ليترك موجة الاشتراكية أن تعبر دون أن يكون له فيها نصيب.. الفتى الذي عرفته ساحات جامعة القاهرة فرع الخرطوم خطيباً مفوهاً ومدافعاً شرساً عن قيم الشيوعية من خلال انتسابه إلى الجبهة الديمقراطية، لكن الشاب لم يطب له المقام في مقاهي الخرطوم وتجمعاتها، فخرج باحثا عن صفة جديدة ليصبح بعدها (الكومرت) ياسر سعيد عرمان.
يبدو الشاب في قمة سعادته حين يسبقه توصيف ابن الدكتور جون قرنق دي مابيور المنحدر من الشمال، ومعها صفة جديدة، صفة حامل لواء السودان الجديد. لا يختلف اثنان في أن للرجل كاريزمته الخاصة وجاذبيته التي استطاع أن يبنيها طوال سنوات نضاله في الأحراش بحسب وصفه، صانعاً له مجموعة من المؤيدين والأتباع. في المقابل، فإن الرجل يمثل أحد تمظهرات الخراب والدمار والفوضى عند الطرف الآخر ممن يكنون له العداء، ربما ليس أدل على ذلك من أنه وفي قمة السيطرة الإسلامية الأولى بمعسكرات تجنيدها وجهادها خروج ذلك الهتاف تحت رايات طلاب السودان وهم يؤدون فروض الولاء والطاعة لقائد مشروع الإنقاذ: (ياسر عرمان يا البشير.. شيوعي جبان يا البشير)، ربما قدر للمفارقات أن تستمر؛ فعقب اتفاقية نيفاشا بمطلوباتها كان ياسر يقف في مواجهة البشير وجهاً لوجه أو صندوق في مقابل صندوق، أو ما اصطلح على تسميته وقتها بمعركة (الشجرة والنجمة).
يعتبر الكثيرون ياسر عرمان أحد نجوم السياسة السودانية في حقبة ما بعد سنوات الألفين.. النجومية التي ازدادت لمعاناً في فترة ما بعد التوقيع على اتفاقية نيفاشا في عام 2005 وفي ظل الوجود الكثيف لياسر عرمان في وسائط الإعلام السودانية ونجاحه في رسم صورة صاحب المعارك الكبرى، فما يزال إرشيف الصحافة السودانية يحتفظ بصورة للرجل وهو يجلس خلف القضبان بعد خروجه في مظاهرة ضد الحكومة التي كان يشاركها الجلوس في البرلمان رئيساً لكتلة نواب الحركة الشعبية مقروناً ذلك بمعاركه شبه اليومية مع رئيسة لجنة القوانين بالبرلمان القيادية بالمؤتمر الوطني بدرية سليمان، قبل أن يترك صراعه الجزئي معها منتقلاً بمعركته في مواجهة رئيس المؤتمر الوطني ورئيس الجمهورية المشير عمر البشير.
أبريل من عام 2010 كانت فرصة ذهبية لصهر فرانسيس دينق ليبيع من خلالها للسودانيين حلم (الأمل والتغيير)؛ فقد اختارت الحركة الشعبية مشروع دولة الجنوب بديلاً عن مشروع السودان الجديد، وهو ما دفع بها لأن تدفع بياسر عرمان للمنافسة على رئاسة السودان، في حين اكتفى زعيمها وخليفة جون قرنق، سلفاكير ميارديت بالترشح لمنصب رئيس حكومة الجنوب، وهو الأمر الذي بدا غريباً منذ الوهلة الأولى؛ فكيف كانت ستكون العلاقة بين الرئيس والمرؤوس في حال نجح عرمان في الدخول إلى القصر الجمهوري، وهو أمر لم يكن مستبعداً وفقاً لمجريات الأحداث.. لكن وفي الساعة التي كان ينتظر فيها الجميع مرشح الرئاسة للحضور في احتفالية تقام في بيت الفنون في بحري، كان لقادة الحركة الشعبية رأي آخر جمعت لأجله الصحفيين لتخبرهم بأنها قامت بسحب مرشحيها من التنافس على المستوى القومي، وبالتالي، فإن حلم عرمان في أن يكون رئيساً للجمهورية السودانية راح وسط التكتيكات بين الشريكين. وقتها لم يجد ياسر ما يقوله غير أنه ملتزم بتوجيهات الحزب الذي رشحه، وملتزم كذلك برؤيته في سحبه، وعلى الناخبين أن يبحثوا عن أملهم بالتغيير في اتجاهات أخرى.
كان ياسر في حملته الانتخابية التي دشنها من منزل المناضل علي عبد اللطيف يفتخر بكونه ابن السودان الكبير، سودان الاختلاف والتعدد، السودان الذي سيتغير بمجرد تحقيق رؤية السودان الجديد في عام 2011 حيث كان السقوط الثاني لمشروع السودان الجديد بعد الضربة التي تلقاها بتحطم طائرة قرنق أثناء عودتها من أوغندا، وحين كانت الأيادي الناخبة في جنوب السودان تختار الانفصال تاركة مشروع الوحدة الجاذبة لقراءته في دفاتر التاريخ، كان عرمان يرمي وزر ما حدث على رقبة شريكه في نيفاشا، المؤتمر الوطني، ويقول إن سياساته المتبعة هي التي نفرت الجنوبيين من البقاء في السودان الكبير، دون أن ينسى التأكيد على أن استمرار هذه السياسات سيعني المزيد من التشظي والتشرذم.
في الوقت الذي كان يتقاسم فيه الجنوب والشمال تركة السودان القديم، فيما تم تسميته بحسم (قضايا ما بعد الاستفتاء)، يقف ياسر في وسط ساحة الخلاف قائلاً بأنه مواطن سوداني في دولة الشمال، وأن من حقه الاستمرار من أجل تنفيذ مشروعه السياسي وصناعة السودان الجديد، ولهذه الغاية فهو يصر على التمسك بمنظومته القديمة (الحركة الشعبية) مع إضافة عبارة (قطاع الشمال)، الذي انحصر في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان التي أصبح عرمان هو الأمين العام لها، مدشناً الحقبة الثالثة في سودان اللا استقرار، أو السودان الذي كلما انطفأت فيه نار للموت أشعلها بعض بنوه مرة أخرى، لينطلق الاشتعال بعدها في جنوب كردفان، في كتمة (ستة ستة الساعة ستة)؛ ولأن الحرب تنتقل بالعدوى انتهت حقبة الاستقرار المشوب بحذر في ولاية مالك عقار بالنيل الأزرق، وعادت الحركة الشعبية مرة أخرى إلى الأحراش من أجل القتال لتحقيق مشروعها في وحدة سودانية على أسس جديدة.
تحطمت طائرة قرنق في عام 2005 وحطم الرفيق سلفاكير أحلام باقان أموم في الدولة الجديدة، وتخطفت المنافي لوكا بيونق وتمرد حتى ديمبيور ابن صلب قرنق، وفرغت ساحة الشمال إلا من عقار والحلو وبعض الأسماء، فصار بعدها الكومرت ياسر عرمان الآمر الناهي والمنفذ الوحيد للمشروع، مستفيداً من سلطة كان قد عظمها إبان سيطرته على قطاع الشمال بالحركة الشعبية في زمان الوطن الواحد، وبالطبع لم يخذل الوطني الذكاء السياسي له، فأصبح هو العدو الرسمي، مدشناً مرحلة جديدة من مراحل العراك المتواصل، مرحلة تباينت ما بين السياسي والعسكري بحالة متمددة من الشد والجذب، كان عرمان فارسها هذه المرة من خلال منصبه كرئيس لوفد التفاوض الخاص بالحركة الشعبية، وهو المنصب الذي استطاع من خلاله توظيف كافة علاقاته ومقدراته السياسية وتأثيره الإعلامي لزيادة رصيده في ميدان السياسة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.. خسر معارك وانتصر في أخرى، وفي كل الأحوال ظل هو نجم الشباك السياسي.
لم يكتفِ ياسر بكونه ممسكاً بمقاليد الأمور في الحركة الشعبية، وإنما سعى من أجل أن يمسك بكل خيوط اللعبة في مسرح المعارض، حين نجح في تكوين الجبهة الثورية، وواصل في ربط صوت البنادق بصوت السياسة؛ فحول مشروع الجبهة الثورية إلى نداء السودان؛ فتجمعت كل الخيوط في يد واحدة، لكن سرعان ما اهتزت الأيادي بفعل التحولات الإقليمية والدولية، وبدأت الأصوات الخافتة ترتفع أكثر، مطالبة بتعديل الوضع المعوج في تركيبة الحركة الشعبية وفي المعارضة تحديداً.. الأصابع التي تشير إلى الاعوجاج ترتفع مباشرة في وجه عرمان الذي كان المؤتمر الوطني يقول، في أوقات سابقة، إنه غير جدير بتمثيل النوبة وأهل النيل الأزرق، ويجب أن تقوم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، أي بمعنى آخر، على ياسر أن يتنحى ويبحث له عن مركبة أخرى يصعد عليها.
السابع من مارس وفي المناطق التي يسميها الأمين العام للحركة الشعبية، عرمان، بالمناطق المحررة، وفي اجتماع لمجلس التحرير الخاص بمنطقة جبال النوبة، يخرج ما مفاده أن ياسر عرمان أصبح جزءا من تاريخ الأمانة العامة للحركة الشعبية؛ فقد توافق المجتمعون على سحب الثقة من الأمين العام وتجريده من منصبه كرئيس لوفد التفاوض الخاص بقطاع الشمال، وكذلك تجريده من مسؤوليته عن الاتصال الخارجي الخاص بالتعبير عن الحركة الشعبية، القرار الممهور من جلس تحرير جبال النوبة يوصي بإرسال صورة إلى مالك عقار رئيس الحركة الشعبية وصورة لعبد العزيز الحلو نائب رئيس الحركة الشعبية وصورة إلى الرفيق ياسر عرمان. وبناء على هذا القرار، فإن عرمان سيكون عضواً في الحركة الشعبية دون صلاحيات حتى موعد انعقاد مجلس التحرير القومي بعد شهرين، وهو القرار الذي يؤكد أن حالة من عدم الرضا في أوساط الحركة الشعبية حول أداء الرجل بشكل عام أو أنها مقدمة لمواقف ستأتي تباعاً.
نهاية الأسبوع المنصرم كان الناطق الرسمي باسم وفد التفاوض، مبارك أردول، يبشر السودانيين بمفاجأة عليهم أن يترقبوها؛ كان الجميع يظن أن المفاجأة ستكون خطوة باتجاه السلام قبل أن يهرب لسان السلام في وفد التفاوض بمبررات أن المفاجأة ترتبط ببعض منسوبي (بوكو حرام) ممن تم القبض عليهم، وأنهم أدلوا باعترافات ذات طبيعة فنية لا يمكن نشرها، ليكتشف بعدها الجميع أن دقون منسوبي بوكو حرام لم تكن سوى محاولة لدس الرؤوس في الرمال، خوفاً من تناول الخلافات التي تضرب جسم تيار المعارضة العريض أو أنه لا يمكن للناطق بلسان رئيس وفد التفاوض القول بأن رئيسه قد تم إبعاده.
المفاجأة الآن تظهر؛ وعرمان بدأ يفقد بريق تأثيره في الحركة الشعبية أو أنه بات رجلاً من التاريخ. لكن السؤال هل سيقف عرمان متفرجاً على رمال التحولات حتى تبتلعه، أم أنه سيعود لممارسة تأثيره على المشهد؟ وترى ما هو مستقبله السياسي؟ وهو السؤال الذي سيجد نفسه مرتبطاً بمستقبل الحركة الشعبية نفسها، هل سينحني للعاصفة كما فعل في أبريل الانتخابات أم سيتخذ موقفاً آخر أم سيرمي بسؤاله في وجه الجميع: هل يمكنكم تصور مشروع للحركة الشعبية دون أن يكون على رأسه ياسر عرمان؟
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة اليوم التالي