«زهوري اليانعة في داخل خميلة»… هذه كلمات للشاعر الجاغريو، وهي نفسها الكلمات التي اختارها الفنان التشكيلي السوداني صلاح المر لوصف السنوات التي قضاها في مصر والأعمال الإبداعية التي أنجزها خلالها، والتي أدرجها في البيان الخاص بأحدث معارضه بالقاهرة بعنوان «احتفالية القرد والحمار».
تنقل المر خلال 15 عاماً في مصر بين أحياء الحسين، ومقاهي وسط المدينة، وشوارع السبتية، وزقاق الأحياء القديمة، حيث تأثر بالناس والفنانين، والمبدعين في الحرف اليدوية، وراقصي المولوية، وبائعي التحف، ونجوم السينما والمسرح.
وقد تمثلت لوحاته المعروضة في سرد بصري يعكس شغفه بالبلد الذي احتضنه منذ أن أتى إليه. يقول المر لجريدة “الشرق الأوسط”: “أعمال هذا المعرض تعبر بصدق عن امتناني وشكري الكبير لمصر”.
ويوضح: “جاءت فكرة المعرض بعد توقيع عقد تعاون مع إحدى الغاليريات الشهيرة في الولايات المتحدة، بحيث لن أتمكن بموجب هذا العقد من إقامة معارض في دول أخرى، بما في ذلك مصر، التي قضيت فيها أجمل سنوات حياتي.
أردت قبل بدء الموعد الرسمي لتنفيذ هذا الاتفاق أن أشكر مصر وأعبر عن تقديري لأصحاب صالات العرض الذين فتحوا أبوابهم لأعمالي، والنقاد الذين كتبوا عني، والمبدعين الذين تأثرت بهم ولا زلت، وحتى للأشخاص العاديين الذين التقيت بهم بالصدفة”.
استوحي الفنان 25 لوحة باستخدام ألوان الأكريليك والأعمال الورقية من مجموعة واسعة من الصور الفوتوغرافية والبطاقات البريدية المصرية القديمة، والتي تعكس بدورها جمال الحياة اليومية في مصر وعمق المشاعر والترابط الاجتماعي فيها. وأوضح الفنان: “لدي حوالي 5000 صورة مصرية، جمعتها من الاستوديوهات وتجار الروبابكيا ومحلات التحف، ومن هذه الصور استلهمت لوحاتي”. ويقول: “تتمتع مصر بوجود عدد كبير من استوديوهات التصوير منذ فترة طويلة، وتحتوي على مجموعة هائلة من الصور النادرة التي تلهم الكثير، والتي تروي الكثير عن تاريخها الاجتماعي”. يمكن لزائر المعرض التعرف على الصور الأصلية التي ألهمت الفنان في إبداعاته؛ إذ حرص الفنان على وضع الصور المرتبطة باللوحات داخل القاعة بجوارها، لكن لن يجد المتلقي نفس التفاصيل. ويقول: “لا أقدم نسخة منها ولا أكررها، بل أرسم الحالة التي تثيرها في نفسي الصورة، معبراً عن انفعالي وتأثري بها من خلال أسلوبي الخاص”. تُعتبر هذه الأعمال جزءًا من مشروع فني ضخم بدأه الفنان منذ سنوات عديدة. حيث يهدف إلى دمج التجريد التصويري مع موضوعات تتعلق بالعائلة، مع إبراز الجماليات الهندسية والرموز التقليدية، والاستلهام من الصور. تعكس هذه الأعمال شغف الفنان بهذا النوع من الفن، مستلهمًا من والده الذي كان مولعًا بالتصوير الفوتوغرافي في شبابه. يقول: “بدأ اهتمامي بالفوتوغرافيا عندما وجدت ذات يوم مجموعة من الصور في صناديق كانت العائلة تحتفظ بها في المخزن داخل المنزل بالسودان، وكانت هذه الصور ملتقطة بعدسة والدي الذي انضم إلى نادي التصوير في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم خلال دراسته هناك.” هذا “الكنز” الذي وجده المر يعتبر جزءاً مهماً من ذاكرته البصرية، وله تأثير كبير وإلهام حقيقي في أعماله.
ومن المدهش أنه قرر أن يشارك المتلقي لأول مرة بذكرياته الغالية من طفولته في السودان، وأن يظهر دور والده في مسيرته الفنية من خلال هذا المعرض. حيث تحتوي جدران المعرض على مجسم كبير لـ”استوديو كمال”، وهو اسم محل التصوير الذي أسسه والده في الستينات من القرن الماضي. يذكر: “قام والدي بإقناع جدي بإنشاء استوديو تصوير في محل الحلاقة الخاص به في (سوق السجانة) بالخرطوم، حيث تم تجهيز الاستوديو مع غرفة مظلمة من الخشب للمعالجة، وذلك في القسم الخلفي من المتجر”.
داخل المجسم، تدفع المقتنيات الخاصة المتلقي للتفاعل مع ذكريات المؤلف، والفن المؤثر الذي شكل أعماله؛ مما يجعله أكثر ارتباطًا وتأثراً باللوحات المعروضة. فالمتلقي هنا يكتشف تفاصيل تجربة الوالد في التصوير، بل يمكنه أيضاً التقاط صور لنفسه داخل محله القديم! وأثناء ذلك، يتعرف على جانب من تاريخ التصوير الفوتوغرافي، حيث يستخدم معدات مثل كاميرا YASHIKA التي تعمل بأفلام مقاس 621، بالإضافة إلى جهاز التكبير والستارة التي تعمل كخلفية وغير ذلك من الأدوات التي تتعلق بعمليات التحميض والطباعة وتجفيف الأفلام والصور بواسطة مروحة طاولة، وكذلك قص الصور باستخدام مقص يدوي.
يقول: “استمر العمل لمدة تقارب السنة، وأغلق الاستوديو قبل أن أولد، لكن تأثير هذه التجربة ظل داخلياً حتى الآن.” “احتفالية القرد والحمار” هو عنوان “بطاقة بريدية” عثر عليها الفنان لدى تاجر للقطع القديمة، وتجسد مشهداً كان شائعاً في الشوارع المصرية في الماضي؛ حيث يقوم أحد الفنانين البسطاء بتقديم عرض احتفالي بطليه القرد والحمار. ومن هذا الملصق استلهم الفنان إحدى لوحات معرضه، ويقول: “شعرت بتأثر كبير بهذا الملصق وجعلت عنوان معرضي مستوحى منه؛ لأنه يجمع بين ملامح الجمال المخفي في مصر من خلال الفن الفطري، والسعادة الناتجة عن أبسط الأمور، وصخب المدن التي لا تهدأ”.