تشهد منطقة النيل الأبيض، وبالأخص الجزيرة أبا، فيضانات غير مسبوقة في هذا التوقيت من السنة، نتيجة الارتفاع الملحوظ في منسوب النيل الأبيض. وقد أشار الخبراء إلى أن الوارد اليومي من المياه عند محطة ملكال في جنوب السودان قد بلغ في ديسمبر الحالي حوالي 200 مليون متر مكعب، وهو ما يفوق بكثير الكميات المعتادة التي تتراوح بين 110 إلى 120 مليون متر مكعب في هذا الشهر. هذا الارتفاع الكبير في منسوب المياه يثير القلق بين السكان المحليين ويزيد من المخاوف من تفاقم الأوضاع.
غمرت مياه الفيضان مساحات واسعة من ولاية النيل الأبيض، التي تقع جنوب خزان جبل أولياء في جنوب الخرطوم، مما أدى إلى تدمير العديد من الجسور الواقية في منطقة الجزيرة أبا. وقد أفاد السكان المحليون لراديو دبنقا بأن المياه اجتاحت المنطقة منذ الأسبوع الماضي، مما تسبب في حدوث شقوق على الجانب الشرقي من المدينة، مما أدى إلى غمرها بالمياه. كما أن السيول قد اجتاحت مناطق شبشة وود النجومي، ودخلت المياه إلى مدينتي كوستي والدويم، مما شكل تهديدًا كبيرًا لمدينة القطينة.
وصلت مياه النيل الأبيض إلى المسجد العريق في كوستي، بالإضافة إلى بعض المناطق المجاورة للنيل، مما أدى إلى غمر منازل المواطنين. وأشار عدد من السكان إلى أن المياه قد دخلت أيضًا إلى مقابر مدينة الدويم، مما يعكس حجم الكارثة التي تعاني منها المنطقة. الوضع الحالي يتطلب استجابة سريعة من الجهات المعنية لتقديم المساعدة للسكان المتضررين، حيث أن الفيضانات تهدد حياة الكثيرين وتؤثر سلبًا على البنية التحتية والمرافق العامة.
تحذير يوغندي مبكر
في 14 مايو 2024، أصدرت الحكومة اليوغندية إنذارا للسكان الذين يعيشون على ضفاف البحيرات والأنهار، مشيرة إلى ارتفاع مستويات المياه في هذه المسطحات، والتي بلغت درجات تثير القلق.نقل تقرير لوكالة شينخوا الصينية عن وزير المياه والبيئة في الحكومة اليوغندية، سام تشيبتوريس، قوله للصحفيين إن مستوى المياه في بحيرة فيكتوريا قد وصل إلى أعلى نقطة له. وذكر الوزير أن مستوى المياه في البحيرة ارتفع إلى 13.66 متر، وذلك مقارنة بـ 13.5 متر في عام 2020.وقال الوزير إن بحيرة فيكتوريا تستقبل المياه من 23 نهراً في المنطقة، والتي تشهد حالياً أمطاراً نتيجة ظاهرة النينو.وأشار الوزير إلى أنه نتيجة لارتفاع منسوب المياه في البحيرة، كانت الحكومة مضطرة لإطلاق المزيد من المياه في نهر النيل، الذي يمد أحواض البحيرات الأخرى بالمياه، مما قد يؤدي إلى حدوث فيضانات في تلك المناطق.
خزان جبل أولياء هدفا عسكريا
تعتبر منطقة جبل أولياء، التي تقع على بُعد 44 كيلومترًا جنوب الخرطوم على الضفة الشرقية للنيل الأبيض، من المواقع العسكرية الهامة للجيش السوداني. حيث توجد في هذه المنطقة قاعدة النجومي الجوية، والتي تُعتبر واحدة من أهم أربع قواعد جوية في البلاد. كما تُعتبر حامية جبل أولياء من أقدم الحاميات العسكرية التابعة للجيش السوداني في الخرطوم. ومن خلال موقعها الاستراتيجي، تم تكليفها بحماية البوابة الجنوبية للعاصمة الخرطوم.بناءً على ذلك، فإن السيطرة على هذه المنطقة تعني السيطرة بشكل كبير على جزء أساسي من المداخل الجنوبية للعاصمة السودانية. ويمكن للمتابعين للأحداث أن يلاحظوا أن المعارك قد اشتدت حول هذه المنطقة بقوة بعد فترة قصيرة من التدمير الذي أصاب جسر شمبات الذي يربط بين مدينتي الخرطوم بحري وأم درمان في نوفمبر الماضي.نجحت قوات الدعم السريع في نوفمبر 2023 في السيطرة على جميع المنشآت العسكرية في المنطقة، مما مكنها من تحييد القاعدة الجوية الرئيسية لطائرات الهليكوبتر، والتي تُعتبر الثالثة من حيث الأهمية في ولاية الخرطوم بعد قاعدة الخرطوم الجوية (مطار الخرطوم) وقاعدة وادي سيدنا الجوية (أمدرمان).أدت سيطرة قوات الدعم السريع على منطقة جبل أولياء إلى تمكينها من التقدم نحو الجنوب والاستيلاء على مدينة القطينة، وصولاً إلى الأطراف الشمالية لمدينة الدويم. كما أن هذه السيطرة سمحت لها بقطع طرق الإمداد الخاصة بالقوات المسلحة عن طريق الطريقين المتجهين من الخرطوم إلى ولاية النيل الأبيض على الضفتين الشرقية والغربية للنيل الأبيض.ومن المعروف أن القوات المسلحة تسيطر على الجانب الغربي من الجسور الثلاث التي تربط مدينة أمدرمان بكل من الخرطوم بحري (كبري الحلفاية) والخرطوم (كبري النيل الأبيض وكبري الفتيحاب). وبالتالي، لم يتبقى أمام قوات الدعم السريع إلا الجسر الذي يربط بين ضفتي خزان جبل أولياء للعبور بين الضفتين الشرقية والغربية للنيل الأبيض.
إدارة الخزان في زمن الحرب
انتشرت العديد من المخاوف بعد استحواذ الدعم السريع على منطقة جبل أولياء بشأن القدرة الفنية على إدارة الخزان في ظل عدم وجود المهندسين المختصين، وتأثير ذلك على مستويات المياه واحتمال حدوث كوارث إنسانية وبيئية في حال عدم اتباع الإجراءات الصحيحة، سواء في المناطق الواقعة شمال الخزان أو جنوبه.عندما سأل راديو دبنقا خبيرًا في مجال السدود قرر عدم الكشف عن هويته، أجاب بأن من الواضح أن إدارة السد خلال الفترة من نوفمبر 2023 إلى سبتمبر 2024 كانت على نفس النمط الذي وُلد عليه سابقًا. فقد تم فتح البوابات في مارس وأبريل من أجل تفريغ الخزان وتقليل مستويات المياه، حيث بلغت تلك المستويات أدنى حد لها في مايو ويونيو 2024، ثم أُغلقت البوابات مرة أخرى في الأول من يوليو كالمعتاد لعملية إعادة ملء الخزان.عند الاطلاع على موقع Global Water Watch المختص في متابعة أداء الخزانات والسدود حول العالم، يتضح من البيانات والرسوم البيانية الموجودة أن هناك عدم تغيير في أساليب إدارة السد، مما أثر على مستويات المياه في بحيرة الخزان.
يمكن مراجعة ذلك عبر الرابط التالي: https://www.globalwaterwatch.earth/reservoir/90625
إيرادات مياه استثنائية
منذ منتصف سبتمبر الماضي، شهدت إيرادات المياه في النيل الأبيض ارتفاعًا ملحوظًا، وهو نتيجة طبيعية للزيادة الكبيرة في مستويات المياه في بحيرة فيكتوريا، مما أدى إلى فتح بوابات الخزان بشكل طبيعي. ومع ذلك، في شهر نوفمبر، تجاوزت إيرادات المياه الحد الأقصى لمنسوب تشغيل الخزان، والذي يبلغ 377.4 متر، لكنها لم تكن في مستوى مفرط.من اللافت أن شهر ديسمبر شهد عدم زيادة فتحات بوابات الخزان لتسهيل تصريف الزيادة الكبيرة من المياه. يعتقد البعض أن ذلك يرجع إلى تعطل الأنظمة الهيدروليكية للبوابات، وأن الفتح اليدوي يتطلب وقتاً طويلاً. ومن المعروف أن قوات الدعم السريع لديها القدرة على فتح وإغلاق أبواب الخزان، كما فعلت منذ نوفمبر 2023، مما يثير تساؤلات حول أسباب تأخرها في التعامل مع هذه الأزمة.
انهيار الجسور يفاقم المشكلة
يقول خبير السدود الذي تحدث إلى راديو دبنقا وفضل عدم ذكر اسمه، إنه بجانب العائدات الكبيرة لمياه النيل الأبيض وعدم فتح بوابات الخزان في الوقت المناسب، فإن الأضرار التي لحقت بالجسور الترابية زادت من تفاقم المشكلة. حيث كانت فرق مهندسي وزارة الري تقوم بصيانة هذه الجسور بشكل سنوي قبل بدء موسم الخريف، لكن منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، لم تتمكن فرق الصيانة من القيام بمهامها مما أدى إلى انهيار وتصدع عدد من الجسور، خاصة في مناطق الجزيرة أبا والملاحة وشبشة.هذه الجسور هي جسور ترابية مصممة لمنع النهر من الخروج عن مجراه في المناطق المأهولة بالسكان، وذلك لحمايتها من الفيضانات. تُواجه عملية صيانة هذه الجسور حالياً صعوبة بسبب العمليات العسكرية الواسعة في ولاية النيل الأبيض، وبشكل خاص في المناطق من القطينة إلى مدينة الدويم وعلى ضفتي النيل الأبيض، حيث تتواجد قوات الدعم السريع ضمن جهودها للتمدد نحو مدينة الدويم. وعادةً ما كان يتم فتح الخزان للسماح بمرور كميات المياه الزائدة في حال تعذرت صيانة الجسور الترابية لحماية القرى والمدن من الغرق.
ضرورة استعادة الفرق الفنية لخزان جبل أولياء
لمواجهة الأوضاع الطارئة الحالية، ينصح الخبراء بتعجيل فتحات الأبواب في الخزان لتمكين تدفق كميات أكبر من المياه. وبالتزامن مع ذلك، ينبغي تحفيز الجهود الشعبية في ظل غياب الحكومة لصيانة وتقوية جسور الحماية التي تضررت بشكل سريع باستخدام الموارد المتاحة.فيما يتعلق بإمكانية أن يؤدي فتح بوابات الخزان إلى غمر بعض المناطق والجزر شماله، فقد استبعد خبير في السدود، طلب عدم ذكر اسمه، حدوث ذلك، مشيراً إلى أن مستويات تدفق النيل الأزرق قد بلغت حدودها الدنيا في هذه الفترة حيث تتراوح بين 100 إلى 150 مليون متر مكعب يومياً، مما يقلل بشكل كبير من خطر غمر المناطق الواقعة شمال خزان جبل أولياء.لكن الحل المستدام يكمن في تأمين منطقة خزان جبل أولياء من خلال التوصل إلى اتفاق بين طرفي النزاع، والسماح بعودة المهندسين والفنيين مع ضمان سلامتهم لاستئناف أعمالهم وإصلاح الأضرار التي لحقت بجسر السد، بالإضافة إلى تنظيم عمليات التحكم في تدفق المياه عبر خزان جبل أولياء بطريقة علمية ومهنية لتفادي أي مخاطر قد تنجم عن الارتفاع الكبير في منسوب النيل.