في سياق الحرب المستمرة في السودان، يواجه ملايين المواطنين أزمات إنسانية متزايدة، وأصبح الحصول على الوثائق الرسمية، مثل جوازات السفر، واحدة من أبرز التحديات التي تواجه الناس في المناطق المتضررة من النزاع. في هذا التقرير، سنستعرض الصراع القائم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، الذي لا يقتصر على القتال العسكري فقط، بل يتضمن أيضاً تنافساً على الشرعية.
خوفًا من القتل بدعوى التعاون مع أحد أطراف النزاع، بقي محمد شرف الدين (اسم مستعار) في منزله بإحدى الولايات التي تشهد اشتباكات متكررة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ولم يخرج إلا للحصول على وجبة يسد بها جوعه.
يشير شرف الدين إلى أنه قام بمحاولات عدة للخروج بغرض الحصول على جواز سفر للسفر إلى إحدى دول الخليج، بعد أن أرسل له أحد أقاربه “عقد عمل”، ولكن محاولاته لم تنجح، حيث تم إعادته من أقرب نقطة تفتيش تبعد أقل من 200 كيلومتر عن منزله. هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها إعادة شرف الدين من الارتكاز، فقد تم اعتقاله سابقًا لمدة يومين بتهمتي التواطؤ والتخابر، لذا قرر البقاء في مكانه ورضي بعدم السفر إلى تلك الدولة الخليجية التي كان يتوقع أن يبدأ فيها حياة جديدة. “لم يكن محمد الشريف الشاب الوحيد الذي فقد مستنداته الرسمية، وعجز عن الحصول على بديل لها. فهو يمثل جزءًا من ملايين السودانيين الذين تحطمت آمالهم جراء الحرب التي تقترب من دخول عامها الثاني. ورغم إصرارهم على البقاء في وطنهم وعدم رغبتهم في الهجرة، إلا أن الأحداث السريعة والمتلاحقة قلبت هذه الأماني رأسًا على عقب، ليصبح هدفهم الوحيد الآن هو الحصول على جواز سفر للهروب من البلاد وبدء حياة جديدة بعيدة عن مآسي الحرب.”
منذ بداية الحرب في 15 أبريل من العام الماضي، توقفت جميع مراكز السجل المدني عن العمل بعد أن استحوذت قوات الدعم السريع على أكثر من 80% من المدن والريف في السودان، مما أسفر عن حرمان ملايين السودانيين من حقوقهم التي يكفلها لهم الدستور. “بعد أن استعادت القوات المسلحة بعض المناطق، بدأت بتوفير خدمات للمواطنين في المناطق التي تتواجد تحت سيطرتها، بما في ذلك إصدار الوثائق الرسمية وجوازات السفر. كما بدأت بتغيير العملة في حوالي 8 ولايات من أصل 18 ولاية. من جهته، عبر مستشار قائد قوات الدعم السريع، محمد المختار، عن ترحيبه بالمقترحات والمبادرات التي قدمتها القوى المدنية لتشكيل حكومة في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، بهدف تقديم الخدمات للمواطنين في تلك المناطق.”
وقال محمد المختار، لـ”التغيير”: “إذا تم تشكيل حكومة في المناطق التي نسيطر عليها، سنعمل على معالجة جميع المشاكل التي يواجهها المواطنون والمحرومون من حقوقهم في التعليم والصحة والوثائق الرسمية.” وواصل قائلاً: “هذه الحقوق أصلية وضمنها الدستور والقوانين، إلا أن ‘البرهان’ ومجموعته في بورتسودان قضوا على أي نوع من أنواع الدولة في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع”. وفقًا لحديثه. واتهم المختار “البرهان وفريقه” بفصل السودان عن طريق حرمان المواطنين من المستندات والأوراق الرسمية والإجراءات المصرفية، من خلال إصدار عملة في مناطق محددة. أوضح مستشار قائد الدعم السريع أن مجموعة بورتسودان وافقت على أن تتواجد في (30%) من مساحة السودان لممارسة سلطاتها، بعيدا عن (70%) من الأراضي التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع. لكن الشرطة السودانية المكلفة بإصدار الأوراق الثبوتية وجوازات السفر، قللت من أهمية خطوة قوات الدعم السريع في استخراج الأوراق الثبوتية في المناطق التي تسيطر عليها في حالة تشكيل حكومة مدنية في المرحلة المقبلة. اعتبر العميد فتح الرحمن محمد التوم، الناطق الرسمي باسم الشرطة، أن الحصول على الرقم الوطني وشهادة القيد المدني يشكلان أساس الهوية السودانية، ويكون ذلك وفق إجراءات قانون الجنسية. وأشار إلى أن القانون حدد من هو السوداني، سواءً كان ميلاده داخل البلاد أو حصل على الجنسية أو من خلال الأم، وهو نظام إلكتروني يعمل كحماية لهوية السودانيين.
وقد استطاعت الشرطة استعادة هذا النظام بالكامل وتشغيله مع توفير ميزات أمان عالية. أفاد العميد التوم، في تصريح لـ«التغيير»، أن إصدار جواز السفر يعتمد على معلومات الرقم الوطني التي تُسترجع إلكترونيًا من نظام بيانات السجل المدني. وأشار إلى أنه من المستحيل الحصول على جواز سفر دون وجود بيانات للرقم الوطني، وأن قوات الدعم السريع لا يمكنها إصدار جواز سفر سوداني وفق المعايير العالمية حتى وإن كانت تملك الطابعات. يخشى البعض أن تؤدي الخطوة التي تعتزم قوات الدعم السريع اتخاذها بتشكيل حكومة في المناطق التي تسيطر عليها بعد 20 شهراً من الحرب إلى تقسيم السودان.
استبعد الناطق الرسمي باسم القوى المدنية المتحدة (قمم)، عثمان عبد الرحمن، أن تؤدي هذه الخطوة إلى تقسيم البلاد، وأوضح أن من يسعى لتقسيم البلاد هو من يروج للتفريق بين أبناء الوطن. وأضاف أن الحكومة المرتقبة ستكون حكومة شاملة تشمل جميع فئات الشعب، وتخدم المواطنين بغض النظر عن الانتماء القبلي أو الجغرافي. يرى المراقبون أن تشكيل حكومة جديدة لإدارة تلك المناطق سيشكل تحدياً للحكومة المعترف بها دولياً، التي يقودها الجيش. هذه الحكومة اضطرت للخروج من الخرطوم العام الماضي، وتعمل حالياً من بورتسودان على ساحل البحر الأحمر.
تلقى الحكومة في مناطق الدعم السريع دعمًا من بعض الأحزاب السياسية داخل التحالف وبعضها خارجه، بالإضافة إلى بعض الحركات المسلحة التي وقعت على اتفاق سلام جوبا. في بداية ديسمبر الحالي، رفضت القوى المدنية الديمقراطية مقترح الجبهة الثورية لإنشاء حكومة موازية لحكومة بورتسودان في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع. ورغم الرفض الكبير للمقترح، إلا أن المجموعة استمرت في ذلك، والتقت مع قوات الدعم السريع في نيروبي خلال الأيام الأخيرة، وتصر على تشكيل الحكومة. يرى الناطق باسم (قمم) أن تشكيل الحكومة القادمة سيساعد في معالجة العديد من القضايا، ومن أبرزها أزمة الأوراق الثبوتية بجميع أشكالها. قال عثمان لـ”التغيير” إن حكومة بورتسودان ارتكبت خطأً جسيمًا عندما منعت بعض المواطنين من الحصول على أوراقهم الثبوتية أو تجديدها، حيث استخدمت معايير متعددة في ذلك تشمل الانتماء المناطقي والقبلي، مما يعد دليلاً واضحًا على أن حكومة بورتسودان تمثل فئة معينة ولا تعكس جميع أطياف الشعب السوداني. وأضاف “يوجد الكثير من الحقائق والشهادات من المواطنين الذين استمعنا إليهم، والذين أكدوا أنهم تعرضوا لمضايقات عديدة أثناء محاولتهم استخراج أوراقهم الثبوتية.” نفى المتحدث باسم الشرطة حرمان المواطنين السودانيين من الحصول على جوازات السفر والأوراق الثبوتية بسبب انتمائهم القبلي. وأكد أن الشرطة لا تطرح أي سؤال عن القبيلة في جميع استماراتها. وأضاف: “إثبات سودانية الفرد يعتمد على وسائل الإثبات المسموح بها شرعًا وطرق البحث المعروفة”.
أوضح المتحدث باسم “قمم” أن تشكيل الحكومة في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع سيساهم في حل جميع هذه المشكلات، وستتمتع الحكومة المرتقبة بشرعية تامة وفقاً لكافة المعايير؛ لأنها حكومة مدنية تستند إلى مبادئ التحول المدني الديمقراطي. من جهته، يوضح المحلل السياسي محمد تورشين: “إذا تمكن الدعم السريع وحلفاؤه من تشكيل أي حكومة، فلن تحظى بأي شرعية أو اعتراف من المجتمعين الدولي والإقليمي، مما يمنعها من العمل كحكومة معترف بها، وبالتالي لن تكون قادرة على إصدار عملة أو أي وثائق رسمية مثل جوازات السفر أو الشهادات.” أكد أن هذه القضايا تتعلق بالاعتراف الدولي، الذي يتم تقديمه من قبل الدول والحكومات، حيث تمثل هذه الأخيرة الدول. وأضاف “في جميع الأحوال، لا يمكن أن تصبح هذه الفرضية حقيقة، ولا يمكن التعامل معها بجدية.”
وأضاف: “يوجد العديد من الجماعات الانفصالية في أفريقيا، مثل أرض الصومال والجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية المعروفة بـ ‘البوليساريو’، لكن جميع هذه الجماعات لم تتمكن من إصدار أي نوع من الوثائق الرسمية أو العملات.” قال: “لا أعتقد أن الأمر سيكون منطقيًا أو قابلًا للتنفيذ، حتى مسألة تشكيل الحكومة، فالقوات السريعة وشركاؤها يهددون بتشكيل حكومة، وهم يدركون تمامًا أنه إذا قاموا بذلك، قد يكون ذلك نهاية لهم ولكل أفكارهم المطروحة.” اعتبر تورشين أن تحركات الدعم السريع في المناطق التي يسيطر عليها ليست سوى تهديدات وأحاديث تهدف إلى تغيير الوضع السياسي من أجل إخفاء الجرائم والهزائم التي يعاني منها الدعم السريع. أصبح تقسيم السودان إلى حكومتين أمراً شبه واقع، مع تمسك الطرفين المتنازعين بالسيطرة على مناطقهم الشرعية. ولا تظهر أي بوادر على انتهاء الحرب التي اندلعت نتيجة الصراع على السلطة بين قوات الدعم السريع والجيش، مما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص ونزوح 12 مليون فرد، بالإضافة إلى انتشار الجوع الحاد والأمراض.