أثار البيان الصادر عن وزارة الخارجية بتاريخ 29 ديسمبر 2024 جدلاً واسعًا، وذلك ردًا على البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية الإماراتية قبل يوم واحد يتعلق بالمبادرة التركية للتوسط في حل النزاعات بين البلدين. بينما يعتبر البعض أن بيان الخارجية السودانية كان أمرًا ضروريًا للرد على ما جاء في البيان الإماراتي، إلا أنه أصبح في غاية الأهمية بعد تصريحات وزير الخارجية، السفير علي يوسف، لوكالة أنباء الأناضول التركية حول هذه المبادرة.
اردوغان يعرض وساطته على البرهان
في 13 ديسمبر 2024، وبعد أيام من نجاح الدبلوماسية التركية في إقناع إثيوبيا والصومال بالتوصل إلى اتفاق يتيح حل النزاعات بينهما عبر الحوار، أفادت وسائل الإعلام التابعة لمجلس السيادة الانتقالي بأن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أجرى محادثة هاتفية مع القائد العام للجيش، الفريق عبد الفتاح البرهان.نقل إعلام مجلس السيادة السوداني عن الفريق عبد الفتاح البرهان إشادته بمواقف تركيا الداعمة للسودان وبجهودها من أجل تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة والإقليم، كما أعرب عن ترحيبه بأي دور يمكن أن تلعبه تركيا لوقف الحرب في البلاد.استقبل السودانيون والمجتمع الإقليمي والدولي هذه المبادرة بترحيب، نظراً لفشل جميع المحاولات لوقف الصراع في السودان. ومن المؤكد أن معالجة الخلافات بين أبوظبي وبورتسودان والمُتعلقة بدعم الإمارات لقوات الدعم السريع ستساهم في تشكيل بيئة مناسبة للمفاوضات المستقبلية بين أطراف النزاع.علاوة على ذلك، فإن التحرك الدبلوماسي التركي في هذا السياق يعد الأول منذ الاتصال الهاتفي الذي جرى في شهر يوليو الماضي بين الفريق عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش، والشيخ محمد بن زايد، رئيس دولة الإمارات، والذي لم يحقق أي تقدم في سبيل حل الخلافات بين الدولتين.
تصريحات وزير الخارجية
استغل السفير علي يوسف، وزير الخارجية، الحوار الذي أجرته معه وكالة أنباء الأناضول التركية، والذي نُشر في 26 ديسمبر 2024، ليُثني على الموقف التركي تجاه الحرب في السودان، حيث قال: “لاحظنا تفهمًا من القيادة التركية للأوضاع في السودان، وتمت مناقشة القضايا المتعلقة بالحرب بشكل دقيق للغاية”. وأشار إلى أن عرض الوساطة بين السودان والإمارات سيكون له تأثير إيجابي على الحكومة والشعب والقيادة في السودان. كما أضاف وزير الخارجية أن السودان يتمتع بـ “علاقات جيدة جدًا” مع الإمارات، وأن عددًا كبيرًا من السودانيين ساهموا في نهضتها، معبرًا عن أمله في نجاح المبادرة التركية للوساطة بين السودان والإمارات.أثار هذا الوصف للعلاقات بين السودان والإمارات سريعاً ضجة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل أنصار الجيش والإسلاميين، الذين لم يترددوا في توجيه الاتهامات إلى الوزير بالضعف واعتماد موقف يتعارض مع الموقف الرسمي للدولة.تراجع الوزير علي يوسف في نفس اليوم مباشرة عن تصريحاته خلال لقائه بوفد جمعية الصحافة الالكترونية السودانية في مكتبه في بورتسودان. حيث أوضح أنه كان يقصد وجود تبادل دبلوماسي مستمر بين السودان والإمارات، يهدف إلى خدمة السودانيين المقيمين في الإمارات. وأكد أن هذه العلاقات الدبلوماسية تساعد دائمًا في تعزيز الحوار والتفاهم، على عكس قطع العلاقات بشكل كامل. واستشهد بعدد من الأمثلة من العالم التي خاضت حروبًا فيما بينها لكنها لم تقطع علاقاتها الدبلوماسية.
الإمارات ترد ببيان
في خضم الجدل بين المؤيدين للقوات المسلحة حول المبادرة التركية، أصدرت وزارة الخارجية الإماراتية بياناً في 28 ديسمبر 2024، أعربت فيه عن ترحيبها بالجهود الدبلوماسية التي تبذلها جمهورية تركيا الصديقة لإيجاد حل للأزمة الحالية في السودان، والتي تعد أيضاً من أولويات دولة الإمارات. وأشارت الوزارة إلى أن هذه الجهود تعكس التزام تركيا العميق بدعم السلام والاستقرار في المنطقة وتعزيز العلاقات بين الدول. كما أكدت دولة الإمارات استعدادها التام للتعاون والتنسيق مع الجهود التركية وكافة الجهود الدبلوماسية لإنهاء الصراع في السودان وإيجاد حل شامل للأزمة.أكدت وزارة الخارجية في بيانها على موقف دولة الإمارات الراسخ والواضح بشأن الأزمة، حيث يتركز اهتمامها بشكل رئيسي على ضرورة تحقيق وقف فوري لإطلاق النار وإنهاء الصراع الداخلي القائم في جمهورية السودان بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية في أقرب وقت ممكن. كما تسعى الوزارة إلى معالجة الأزمة الإنسانية الحرجة من خلال تقديم الدعم الإنساني والإغاثي العاجل للشعب السوداني الشقيق.لكن الفقرة الأخيرة في البيان الإماراتي أثارت بلا شك الاستياء في بورتسودان. حيث اعتبر البيان أن غياب القوات المسلحة السودانية عن محادثات السلام الأخيرة التي شاركت فيها الإمارات مع عدد من الدول والمنظمات الإقليمية والدولية عبر منصة ALPS في جنيف يمثل تجاهلاً واضحاً لمعاناة الشعب السوداني الشقيق، ويدل على عدم الرغبة في التعاون والمشاركة في محادثات السلام لإنهاء الأزمة وتحقيق سلام دائم. كما أكدت على أهمية الحوار والتفاوض كوسيلة وحيدة لإنهاء الصراع وضمان عملية سياسية وإجماع وطني نحو حكومة مدنية، داعية جميع الأطراف المعنية للعودة إلى طاولة الحوار والمشاركة بفاعلية في جهود السلام في السودان.
رد الخارجية السودانية لم يتأخر
جاءت ردود فعل وزارة الخارجية السودانية سريعة، حيث صدرت في اليوم التالي مباشرة عقب البيان الإماراتي. وقد وصفت الوزارة البيان الإماراتي بأنه “محاولة للهروب من الحقيقة التي بات العالم أجمع يدركها، وهي أن الإمارات تتحمل المسؤولية المباشرة عن كل الدماء التي أُهدرَت وتُهدر في السودان، وما تعرض له شعبه من قتل وتهجير وفظائع، بالإضافة إلى الدمار الذي لحق بالبنية التحتية والمرافق الوطنية، وذلك بسبب دعمها لقوات الدعم السريع التي ترتكب هذه الجرائم”.اعتبر البيان أن “الادعاءات الكاذبة والفارغة حول عمل الإمارات من أجل السلام في السودان لن تكون ذات فائدة أمام هذه الحقائق القاطعة. وفي استهتار بالعقول، يتهم البيان القوات المسلحة السودانية بالتجاهل الفاضح لمعاناة الشعب السوداني، بسبب عدم مشاركتها في ما يسمى بمحادثات جنيف. وكانت مشاركة الإمارات في هذه الاجتماعات واحدة من أبرز دلائل عدم جدية وفائدة هذه المحادثات. ولم يكن من المفاجئ تصعيد الميليشيات لمجازرها ضد المدنيين مباشرة بعد تلك الاجتماعات، حيث اعتبرت راعيتها صانعة سلام، وحصلت على اعتراف وثناء شجعها على الاستمرار في جرائمها”.حدد البيان رؤية وزارة الخارجية للدور الذي يُنتظر من الوساطة التركية أن تلعبه، حيث أن “هذا الدور يأتي من كون الإمارات طرفًا في العدوان الذي يتعرض له السودان، وأي جهود تُبذل لإقناعها بوقف أذاها عن السودان وشعبه تُعتبر جديرة بالتشجيع والتفاعل الإيجابي، خصوصًا أن تركيا تحظى بثقة وتقدير من السودان. وما هو مطلوب هو أن تتوقف الإمارات عن تزويد المليشيات بالأسلحة والمرتزقة، وأن تُوجهها لوضع السلاح، وعندها سيتحقق السلام”.
مهمة صعبة للوسيط التركي
في ضوء هذه المعطيات، طرح راديو دبنقا سؤالاً حول مستقبل الوساطة التركية على دبلوماسي سوداني طلب عدم الكشف عن اسمه. حيث أكد الدبلوماسي أن الدبلوماسية التركية يجب أن تأخذ جميع تعقيدات هذه الأزمة بعين الاعتبار إذا كانت ترغب في تحقيق تقدم في وساطتها.أول تلك التعقيدات، بحسب الدبلوماسي السوداني، هو كيفية التعاطي مع اختلاف وجهات النظر بين السودان والإمارات بشأن الدور التركي. منذ البداية، ربط الفريق عبد الفتاح البرهان بين المبادرة ووقف الحرب بدلاً من حل النزاعات مع الإمارات، وفقًا لما ورد في بيان مجلس السيادة. وهذا ما تتفق عليه أبو ظبي عندما تبرز في بيانها استعدادها للتعاون مع الجهود التركية لإنهاء الصراع في السودان.يرى الدبلوماسي السوداني أن هناك اختلافاً بين الطرفين في كيفية تحقيق الهدف، إذ تعتقد الدبلوماسية السودانية أن الحل يقتضي من الإمارات عدم التدخل في النزاع السوداني وإيقاف دعمها العسكري والمالي لقوات الدعم السريع. من جانبها، تلقي الإمارات باللوم على القوات المسلحة في إفشال الجهود الدولية السابقة، وتدعوها للعودة إلى طاولة المفاوضات.
التجاذبات بين الحلفاء في بورتسودان
يواصل الدبلوماسي السوداني حديثه مشيراً إلى أن تركيا ينبغي أن تأخذ في اعتبارها الخلافات الموجودة داخل القيادة في بورتسودان. فقد أظهر الإعلان عن المبادرة التركية أن هناك جهات في بورتسودان ترفض أي محاولة لإيقاف الحرب من خلال التفاوض. وقد تجلى ذلك بشكل واضح في ردود الفعل القاسية على تصريحات وزير الخارجية، مما اضطره إلى إجراء تصحيح لها.يقول الدبلوماسي السوداني إن الإسلاميين يرفضون أي حل سياسي يتم التفاوض عليه قبل التأكد من موقفهم في تشكيل السلطة المقبلة. وعلى الرغم من أنهم لم يرفضوا المبادرة بالكامل هذه المرة كما فعلوا في مبادرات سابقة مثل مبادرة الإيقاد ومبادرة جنيف، إلا أن وجود الرئيس رجب طيب أردوغان وتركيا وراء هذه المبادرة يحد من قدرتهم على رفضها. ولذلك، فهم يسعون لإيجاد مبررات لعدم تنفيذها دون تحمل المسؤولية.يشير الدبلوماسي السوداني إلى وجود تيار قوي ومؤثر بين العسكريين، يتواجد على الأرض ويتحالف مع الحركة الإسلامية، وهو يرفض أي مفاوضات مع دولة الإمارات التي يُلقي عليها باللوم في جميع النجاحات التي حققها الدعم السريع خلال هذه الحرب. هذا التيار، الذي يبرز فيه صوت الفريق ياسر العطا، مساعد القائد العام، يرفض أيضاً أي حل سياسي أو دبلوماسي لأزمة الحرب ويسعى لحسمها بالوسائل العسكرية على الرغم من كافة التحديات التي تواجهه.
تساؤلات حول مستقبل المبادرة
في انتظار وصول المبعوث التركي إلى بورتسودان خلال الأيام المقبلة، طرح الدبلوماسي السوداني العديد من الأسئلة حول مستقبل المبادرة التركية. إذا كانت هذه المبادرة تهدف إلى وقف الحرب كما يتعامل معها الطرفان، فهل يمكن استبعاد قوات الدعم السريع منها بشكل كامل، أم أنه يجب في مرحلة ما أن تشملها؟ وهل يمكن تطبيق الاتفاق الذي قد يتوصل إليه الطرفان من خلال الوساطة التركية دون مراعاة جميع الأطراف الموجودة على الأرض، بما في ذلك الدعم السريع والمجموعات العسكرية التي تقاتل مع الجيش بشكل خاص؟يستنتج الدبلوماسي السوداني أن الوساطة التركية، حتى إذا حققت نجاحًا، قد تفتح المجال لمفاوضات بين طرفي النزاع بهدف إنهاء القتال، لكنها بلا شك لن تؤدي إلى إنهاء الحرب بشكل مباشر.