منذ نوفمبر 2023، بدأت الدكتورة فاطمة (اسم مستعار لرغبتها في عدم الإفصاح عن هويتها لأسباب أمنية)، وهي طبيبة، رحلة صعبة مليئة بالمعاناة للبحث عن زوجها المفقود، المدير الطبي لمستشفى جبل أولياء، الذي اختفى عقب سيطرة قوات الدعم السريع على المنطقة التي تبعد 45 كيلومترًا عن العاصمة الخرطوم. بدأت الحكاية عندما انقطع التواصل بين د. فاطمة وزوجها أثناء حصار الدعم السريع لجبل أولياء، حيث كان الزوج متواجدًا في المستشفى يقدم الرعاية الصحية للمصابين وسط معارك عنيفة. تتحدث الزوجة في مقابلتها مع “التغيير” عن اللحظات الأخيرة التي سبقت اختفاء زوجها: “عندما دخل الدعم السريع جبل أولياء، حاصروا المنطقة بالكامل. زوجي ظل محاصراً في المستشفى من جميع الاتجاهات لمدة أسبوع كامل، وكان يتأكد من خروج جميع زملائه والمصابين بأمان. كان يتواصل معنا ليطمئننا بأنه بخير، لكنه لم يجد وسيلة آمنة للخروج بسبب كثافة الهجمات.” في 20 نوفمبر 2023، انقطعت الاتصالات بصورة كاملة. تقول فاطمة: “كنا نأمل أنه ربما يكون في طريقه أو أنه وجد ملاذًا مؤقتًا، فقد استطاع بعض الناس الوصول إلى عائلاتهم رغم المسافات البعيدة”. لكنها تضيف: “ومع مرور الوقت، بدأت هذه الآمال تتلاشى، وشرعنا في رحلة بحث شاقة. لم نكن نعلم ما إذا كان على قيد الحياة أم ميتًا، أو إذا كان محتجزًا”. حاولت فاطمة العثور على زملاء الدكتور الذين كانوا معه في المستشفى، “كان الجميع يؤكدون أنهم غادروا قبله، وتركوه في المستشفى ليجد وسيلة آمنة للخروج”. ومع انقطاع الاتصالات في المنطقة، زادت المعاناة، حيث لم تتمكن العائلة من التواصل حتى مع عائلة زوجها الكبيرة في أم درمان. لم تترك فاطمة وعائلتها محاولاتهم رغم نقص المعلومات، فتوجهوا إلى المستشفيات القريبة مثل مدني، المناقل، كوستي، ربك، ومستشفى الدويم والقطينة، بحثًا عن أي دليل يخص زوجها من بين المصابين الذين تم إجلاؤهم من جبل أولياء، لكنهم لم يفلحوا في ذلك. قررت فاطمة أن تتخذ خطوة جريئة وتذهب بمفردها إلى جبل أولياء في أواخر شهر نوفمبر من نفس العام، على الرغم من جميع التحذيرات التي وردتها بشأن المخاطر المرتبطة بهذه الخطوة. في ذلك الوقت، كانت فاطمة أمًا لطفلة رضيعة تبلغ من العمر 7 أشهر، لكنها اضطرت لتركها مع والدتها. بدأت رحلتها من القطينة مع والدها، ولكنها طلبت منه أن ينتظر هناك بسبب قلقها عليه. تقول: “لم يكن الوصول إلى المنطقة سهلاً. لم تكن هناك طرق ميسرة، لذا اضطررت لعبور النيل عبر معدية، ثم استخدمت عدة وسائل نقل حتى وصلت إلى مواقع الدعم السريع”. هناك، بدأت المواجهة. وتقول: “أوقفني الجنود وبدأوا يسألونني عن سبب وجودي.
أخبرتهم أنني أبحث عن زوجي، وهو طبيب مدني وليس له أي صلة بالجيش”. رغم جهودها لتوضيح موقفها، أُجبرت على العودة بعدما تم إبلاغها أن المنطقة خطيرة وقد تتعرض للاعتقال. أثناء عودتها، قابلتها عناصر من الدعم السريع ووجهوا إليها تهمًا بأنها جاسوسة تعمل لصالح الجيش. بدأوا في استجوابها بصورة مرعبة، قبل أن يقتادوها إلى الضابط المختص. تقول فاطمة: “عندما استفسر مني الضابط عن سبب تواجدي هناك، أكدت له بصراحة أنني أبحث عن زوجي، الطبيب المدني، وشرحت له أنه كان يعمل في المستشفى قبل أن نفقد الاتصال به، وأنني لا أملك أي معلومات عن مصيره.” تقول: “سألني الضابط إذا كان لدي أطفال، وعندما أجبت بنعم، قال لي: هذه منطقة عمليات عسكرية، يمنع دخولها للمدنيين، خصوصًا النساء. عودي إلى أطفالك، وإذا كان زوجك موجودًا فسوف يظهر، وإذا لم يكن فليكن الله في عونه برحمته”. في وقت لاحق، فوجئت فاطمة بفيديو يتداول على وسائل التواصل الاجتماعي يظهرها مع تعليق “القبض على مستنفرة تابعة للفلول”. وقد زاد هذا الفيديو من قلق عائلتها وأصدقائها، مما فاقم معاناتها النفسية. تصف الدكتورة هذه التجربة بأنها من أصعب اللحظات في حياتها، وتؤكد أن كل ما كانت تبحث عنه هو معرفة مصير زوجها. بعد انتشار الفيديو الذي صورها على أنها “مستنفرة”، بدأت فاطمة تعيش في حالة من القلق على سلامتها وسلامة عائلتها، بعد أن أصبحت معروفة لدى عناصر الدعم السريع. كانت تخشى من إمكانية اعتقالها في أي مكان، وهذا الخوف انتقل ليشمل عائلتها بأكملها، خصوصاً وأنهم كانوا يقيمون في منطقة معرضة لدخول قوات الدعم السريع في أي لحظة. في يناير 2024، وردت أول معلومات تفيد بأن زوجها قد يكون حيًا. تقول الدكتورة: “كان شعورًا لا يمكن وصفه علمنا من أحد الناجين الذي تم اعتقاله مع زوجي لدى الدعم السريع أنه لا يزال على قيد الحياة. ورغم أن هذه الأخبار كانت نعمة، إلا أن بحثنا عنه أصبح أكثر صعوبة بسبب تدهور الأوضاع الأمنية.”
تزايدت المعلومات المتناقضة، حيث ذكر البعض أن زوجها كان موجوداً في معتقل سوبا، بينما أفاد آخرون بأنه يعمل في الوحدة الطبية هناك. ومع ذلك، ظلت جميع هذه المعلومات غير مؤكدة، وكان الوصول إلى مصدرها أمراً شبه مستحيل بسبب ضعف الشبكة وصعوبات التنقل. ورد خبر من شخص يدعي أنه رأى الدكتور في مدينة الدويم، ولم يكن أمام د. فاطمة خيار سوى التحرك بسرعة للبحث عن هذا الشخص، بالرغم من التحديات والصعوبات المحيطة وعدم وجود أي ضمانات. انطلقت مع والدها في رحلة متعبة، تنقلوا خلالها بين ثلاث مدن: كوستي، ربك، والدويم. وعندما تمكنت أخيرًا من لقائه في ربك، أوضح لها أن ما حدث كان مجرد تشابه في الأسماء، وأنه لم يكن يقصد زوجها. تصف الدكتورة فاطمة هذه اللحظة بأنها من أصعب اللحظات التي واجهتها، وتقول: “شعرت بإحباط شديد بعد كل هذا المجهود والتعب”. في شهر مايو الفائت، قررت الدكتورة فاطمة اتخاذ خطوة جديدة في مساعيها للبحث عن زوجها، وقامت بفتح بلاغ رسمي في قسم الشرطة بمدينة الدويم. كانت هذه هي المرة الأولى التي تتعامل فيها مع جهة حكومية، لكونها كانت تعيش في قرية تفتقر للخدمات المماثلة. توجهت إلى النيابة لتقديم البلاغ بشكل رسمي، ولكن رد الفعل كان بطيئًا. قدمت الزوجة بلاغًا أيضًا للصليب الأحمر، بالإضافة إلى شكوى مقدمة عبر المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام، إلى اللجنة التابعة للأمم المتحدة المعنية بالحالات القسرية للاختفاء في جنيف. أفادت د. فاطمة بأنها لم تستقبل أي معلومات من الصليب الأحمر، مشيرة إلى أن الرد كان دائمًا متشابهًا في كل محاولة للتواصل معهم: “لا توجد معلومات جديدة”. ومن جهة أخرى، أكدت أنها لم تتلقَّ أي رد من المركز الأفريقي بشأن الشكوى التي قدمتها أو الجهة التي تم تسليمها لها.
تضيف: “كان هذا الشعور بالعجز مؤلمًا جدًا، فلا شيء أشد صعوبة من أن تدرك أنك تدور في حلقة مفرغة دون أن تجد أي إجابات.” بدوره، أكد المنسق القطري لمكتب المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام، شوقي يعقوب آدم، أن الإجراءات المعتمدة في مثل هذه الحالات تبدأ بتقديم بلاغ إلى النيابة العامة في الخرطوم، حيث تُفتح عادةً بلاغات بموجب المادة 47 من قانون الإجراءات الجنائية. وأشار في حديثه (للتغيير) إلى أن النيابات هي الجهة المسؤولة عن مثل هذه القضايا، لكن في بعض الأحيان يتم إحالة الدعاوى إلى نيابات أخرى حسب تقدير الجهات المختصة. أضاف آدم: “بعد استنفاد الخطوات المحلية، قدّمنا شكوى إلى لجنة الأمم المتحدة المعنية بالاختفاء القسري، التي أُقيمت بموجب اتفاقية حماية جميع الأفراد من الاختفاء القسري التي وقع السودان عليها في عام 2021. هذه اللجنة تستقبل الشكاوى الفردية وفقاً للإجراءات المقررة، وأوضح المنسق: قمنا بإعداد الشكوى باستخدام النماذج المخصصة، وبعد موافقة أسرة المفقود، قدّمناها للجنة بالنيابة عنهم كمركز”. أكد أن اللجنة تلقّت الشكوى وأشارت إلى استلامها بشكل رسمي، موضحًا أن الإجراءات الخاصة بها لا تزال جارية.
كما أشار إلى أن اللجنة ستقوم بالتواصل مع الجهات الرسمية المعنية بالشكوى وتنتظر الحصول على ردود منها، ووفقًا لتلك الردود، ستقوم اللجنة باتخاذ قرارها النهائي بشأن الشكوى. تواصلت د. فاطمة أيضًا مع نقابة الأطباء التي تعهدت ببذل جهود للعثور عليه. وعلى الرغم من أنهم نشروا معلومات عنه كمفقود على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنها لم ترَ أي خطوات فعلية يمكن أن تساعدها في البحث عنه أو معرفة مصيره، كما أفادت. حاولت “التغيير” الاتصال بعدد من قيادات اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء السودانيين لطرح أسئلة حول أي معلومات تتعلق بزميلهم المفقود وأعداد الأطباء الذين تم اختفاؤهم قسريًا على يد الجيش وقوات الدعم السريع. وعلى الرغم من وعودهم بالرد، فإن الصحيفة لم تتلقَ أي إجابة حتى الآن. خلال تلك الفترة، واجهت الدكتورة فاطمة تحديًا مفاجئًا، وهو استغلال “النصابين” لمعاناة عائلات المفقودين. وتوضح قائلة: “كان النصابون يتواصلون معي عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن رأوا منشورات البحث عن زوجي، ويدّعون أنهم يملكون معلومات عنه. وكانوا يطلبون مني مبالغ مالية مقابل إرسال صورة أو منح فرصة للتحدث معه”.
وتكمل قائلة: “في البداية، دفعتني حالتي النفسية إلى تصديقهم. أرسلت لهم الأموال على أمل أن أحصل على أي معلومات قد تقودني إلى زوجي. لكن في كل مرة، كانوا يختفون بمجرد استلامهم الأموال، دون أن يقدموا أي دليل يثبت صحة مزاعمهم.” مع تكرار هذه المواقف، فهمت د. فاطمة أن هؤلاء الأشخاص ليسوا سوى “محتالين” يستغلون ضعف الأسر ومعاناتها لتحقيق مكاسب شخصية، فقررت أن تتوقف عن التعامل معهم. لكن الأثر النفسي الذي تركوه كان عميقًا. وتضيف: “شعرت بالإحباط والخيبة عدة مرات، خاصةً أنني كنت أضع كل آمالي في كل وعد يقطعونه”. في خضم هذه الصعوبات، وجدت د. فاطمة نفسها مجبرة على أن تلعب دور الأم والأب لابنتيها، حيث أن الكبرى تبلغ من العمر أربع سنوات ونصف، بينما الرضيعة بلغت سنة وسبعة أشهر. تشير الدكتورة فاطمة إلى أن من أصعب اللحظات التي تمر بها هي عندما تسألها ابنتها الكبرى: “بابا وين؟”.
تحاول طمأنتها بقولها: “بابا في الشغل، بيعالج الناس المصابين لأن هذه حرب”، لكن أسئلتها لا تتوقف: “ليه ما بضرب لينا تلفون؟”. لذا، تضطر إلى وضع أعذار مثل أن ليس لديه هاتف أو أن الشبكة غير متاحة. تقول: “مع كل صباح، أواجه مسؤولية مزدوجة: أن أكون أمًا وأبًا، وأن أؤمن لهن الحياة الكريمة التي يستحقنها. وفي الوقت نفسه، هناك عبء مستمر بالبحث عن زوجي المفقود، حيث تترافق كل خطوة في هذا الطريق الصعب مع تكلفة نفسية ومادية كبيرة.” على الرغم من كل هذه التحديات، تمكنت الدكتورة فاطمة من العثور على أشخاص وقفوا إلى جانبها في محنتها. زملاؤها في الدراسة، الذين انقطعت علاقتها بهم لأكثر من عشر سنوات، تواصلوا معها فور علمهم بما تمر به، وقدمو لها المساعدة بجميع الطرق الممكنة. لم يقتصر دعمهم على الجانب المادي فقط، بل شمل أيضًا الدعم النفسي. ساعدوها في تأمين مسكن آمن لعائلتها وتوفير فرصة عمل في خارج السودان، بالإضافة إلى جميع الترتيبات اللازمة للسفر.
أكدت الدكتورة فاطمة أن عائلتها وعائلة زوجها لم يترددوا في تقديم الدعم لها، مشيرة إلى أن هذه المساندة الإنسانية جعلتها تشعر بأنها ليست بمفردها في هذا الطريق الصعب. على الرغم من كل ذلك، تقول الدكتورة فاطمة: “لا زلت أتمسك بالأمل. عندما تسألني ابنتي عن والدها، أخبرها أنه في سوبا دون تقديم تفاصيل إضافية. أسعى جهد الإمكان لحمايتها من حقيقة مؤلمة، لكنني أعلم أن الأسئلة المقبلة ستكون أكثر صعوبة، وأتمنى أن أجد الإجابة قبل أن يحين موعدها.”