يحتاج الامتحان لطرفين لكي يوفي الكيل وخطأ المنتقدين لعقده أنهم يفكرون بزمن السلم في وقت الحرب
عبد الله علي إبراهيم – اندبندنت عربية
تفجر حول انعقاد هذه الامتحانات الجزئية نقاش شخصه خصوم الحكومة حتى بين التربويين باستخدام الحكومة لها كـ”سلاح التعليم” لتعزيز سلطانها في البلاد. فقالت قمرية عمر، من نقابة المعلمين، إن هذا قرار حكومة الأمر الواقع، حكومة بورتسودان، وهو سياسي ومرتجل وهدفه الادعاء في مواجهة الطرف الآخر بأن السودان آمن، وأن الحياة تسير بصورة طبيعية.
شغلت منصات التواصل رحلة الـ2000 كيلومتر للطالبة شمس الحافظ عبدالله من بلدة أبشي في تشاد إلى عطبرة بولاية النيل بالسودان، للجلوس لاختبار الشهادة السودانية في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، وهو الاختبار الذي تأجل بسبب الحرب وكان مقرراً له يونيو (حزيران) 2023.
وبدا أن قصة عبور شمس فوق الهول لمجرد الجلوس لاختبار، الملحمة في حد ذاتها، ليست نسيج وحدها. ففي بلد القطينة في ولاية النيل الأبيض، التي تحتلها قوات “الدعم السريع”، كان هناك من تحدى الطبيعة والحرب للاختبار. فركبت جماعة من الطلاب القوارب ليعبروا لمدينة الدويم ليجلسوا للاختبار.
وليست هذه أول مرة تكون فيها الاختبارات في عين عاصفة حروب السودان الأهلية. فسبق لطالبة من دارفور نفسها أن غادرت منطقة احتلتها حركة مسلحة حظرت الاختبار لتركب هولاً أصغر إلى مدينة الضعين لتجلس للاختبار.
جلس طلاب الشهادة الثانوية لعام 2023 لاختباراتها المؤجلة لظرف الحرب في الـ18 من ديسمبر (كانون الأول) 2024. واقتضى ظرف الحرب أن تجرى الاختبارات بصورة أساس في ولايات كسلا والقضارف والبحر الأحمر والشمالية والنيل الأزرق، بينما تقام في ولايات نهر النيل والنيل الأبيض وكردفان بصورة جزئية علاوة على 15 دولة أجنبية نزح إليها الطلاب. واضطرت وزارة التربية والتعليم في هذا العام إلى تعديل توقيت الاختبارات ليبدأ عند الساعة الثانية والنصف ظهراً بدلاً من الثامنة صباحاً، تقديراً لظروف الطلاب الذين جلسوا للاختبار في مصر، وعددهم أكثر من 27 ألف طالب وطالبة من جملة 49 ألف طالب وطالبة يجلسون للاختبارات من خارج السودان، لاعتذار وزارة التربية في مصر بأنها لا تستطيع عقد الاختبارات في الفترة الصباحية.
وجلس للاختبار 120724 طالباً وطالبة من الولايات تحت قوات “الدعم السريع” في مراكز الولايات التي تحت سلطة القوات المسلحة. وتكفلت حكومات الولايات باستضافتهم وإعاشتهم. وكان من المفترض، بحسب وزارة التربية والتعليم، أن يجلس للاختبارات المؤجلة أكثر من 343 ألف طالب وطالبة يمثلون 70 في المئة من إجمال الطلاب المسجلين البالغ عددهم نحو 500 ألف، إلا أن العدد تقلص بسبب سقوط آلاف أرقام الجلوس، وتأجيل الاختبارات في ولايتي جنوب وغرب كردفان. وكانت لجنة المعلمين السودانيين، وهي غير التي في داخل السودان، قد قالت إن إجراء الاختبارات في شرط الحرب كما سيحدث سيؤدي إلى حرمان 60 في المئة من إجمال الطلاب الذين استوفوا شروط الجلوس للاختبارات قبل الحرب. وتخلف، وفق تقارير سودانية، عن الجلوس قسراً نحو 157 ألف طالب وطالبة في ولايات تقع تحت سيطرة قوات “الدعم السريع”.
تفجر حول انعقاد هذه الاختبارات الجزئية نقاش شخَّصه خصوم الحكومة حتى بين التربويين باستخدام الحكومة لها كـ”سلاح التعليم” لتعزيز سلطانها في البلاد. فقالت قمرية عمر، من نقابة المعلمين، إن هذا قرار حكومة الأمر الواقع، حكومة بورتسودان، وهو سياسي ومرتجل وهدفه الادعاء في مواجهة الطرف الآخر بأن السودان آمن، وأن الحياة تسير بصورة طبيعية. وساقت جزئية الاختبار معارضة الحكومة وغيرها للقول بأنها مما سيغبن الجماعات التي انحرم طلابها من الاختبار ويمهد “لتفتيت البلاد وتهتك نسيجها الاجتماعي”.
وذهب آخر إلى أن هذا التفكيك للبلاد هو الهدف من إجراء هذا الاختبار الناقص. فالقرار، في قوله، ليس قراراً إدارياً بريئاً، بل يعكس إستراتيجية تتبناها هذه السلطة، التي تسيطر عليها عناصر من النظام المباد، لاستغلال التعليم كأداة لتعزيز نفوذهم السياسي والاجتماعي في مناطقهم المعروفة بـ”دولة النهر والبحر”، وهي تقريباً الولايات التي جرى فيها الاختبار. فتفاوت الفرص فريضة في صفوة هذه الدولة بعواقبه الوخيمة على وحدة السودان.
واتفق مع هذا التطيُّر من الاختبارات رئيس الحزب الاتحادي الموحد، محمد عصمت يحيى، الذي قال إن انعقاد اختبارات الشهادة السودانية في هذا التوقيت هو بداية لانفصال البلاد وخطوة من “خطوات المشروع الانفصالي لسلطة الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني وواجهاتهما تمضي بإجراء اختبارات الشهادة السودانية قدماً في الشهر الذي شهد اندلاع ثورة ديسمبر (2018)”، كأنه لا تثريب على انعقادها في غير هذا الشهر.
قالت النقابية قمرية في نقد الاختبارات الجزئية إن الشهادة السودانية حدث قومي له وزنه وهيبته. ولا غرو أن جاء هذا القول الفصل من مثل قمرية في علو كعبها في التعليم والنقابية. لكنه مما يصدر من مثلها عند معارضة الحكومة، فلم ير الناس من النقابة مشروعاً مستقلاً لانعقاد اختبارات الشهادة.
قال سامي الباقر من نقابة المعلمين إنهم ناشدوا طرفي الحرب إعلاناً بوقف إطلاق النار خلال فترة الاختبارات، وفتح طرق آمنة لتمكين الطلاب والطالبات والمعلمين من الوصول إلى مراكز الاختبارات، وأن ترعى الأمم المتحدة هذه الهدنة التربوية مع قادة الأطراف. ولم يفصل سامي في مساعيهم للغرض، واستجابة الأطراف. وخلافاً لهذا العمل البناء استغرقوا في نقد غير راحم للحكومة لأنها قامت بوظيفة من وظائفها لم نر من النقابة اعتراضاً عليها، بل سعت بطريقتها إلى تأمين انعقاد الاختبارات بسلامة كما تقدم.
وجاء على قلم مبارك أردول، السياسي من جبال النوبة والرمز السابق في الحركة الشعبية لتحرير السودان، أن عدالة التعليم قضية أساس يجب ألا تغفل، فالولايات التي لا تستطيع الحكومة الوصول إليها بسبب الحرب والحصار ليس عدلاً أن يحرم طلابها من الجلوس، أو تفوت عليهم الاختبارات. و”عادة المعارضة” ناشبة في أردول أيضاً، فهو لا يرى من محنة التعليم والاختبار الجزئي مجرد مظهر فادح منها، وخطاب الهامش والمركز الذي اكتنفها، ما يستوقفه من أنه كان ولا يزال طرفاً ذا باع في ذلك الخطاب الذي نبش هذا الاختبار القاصر أرشيف مظالمه. فهو من إقليم جبال النوبة وناشط مرموق في حركتها الشعبية لتحريرها وغيرها من بقاع الوطن حتى 2017. وهو الإقليم الذي تظاهر بعض طلابه أمام قيادة اللواء 54 للقوات المسلحة بمدينة الدلنج مطالبين بتوضيح ما يكتنف جلوسهم للاختبار من ارتباك.
وكانت الحركة الشعبية، التي تحتل قسماً من جبال النوبة، أخبرت الحكومة رفضها ترحيل الأوراق عبر مناطقها إلى المدينة تحت إشراف أي مسؤول منها، بينما قبلت أن ترحل بواسطة منظمة اسمها “سمارتن برس”. والمسموع أن الاختبار لم ينعقد مع ذلك في الدلنج لسبب غير واضح.
ويزيد الأمر كآبة أن الحركة الشعبية، التي تحكم بعض إقليم النوبة، استقلت بتعليمها وصرمت أواصرها مع حكومة السودان لتستقي مناهجها من شرق أفريقيا وتعظم دور اللغة الإنجليزية ولتصير لغة التعليم. وقال تربوي من الإقليم المحرر، كما يقال، “لقد اعتبرنا أنفسنا خارج الدولة السودانية”، غير أننا “داخل وطننا ووسط الثقافة والتراث النوبي”، الذي، بتعبيره، كان “مهملاً في المناهج التي تأتينا من بخت الرضا سابقاً (مركز إنتاج المناهج السودانية)، فمناهج السودان لا تهتم بإنسان جبال النوبة”. لو لم تأخذ أردول عزة المعارضة لقرأ من تجربته الخاصة التاريخ الجراح الذي من وراء اختبار حكومة بورتسودان الناقص.
أما الفيل داخل الغرفة في خطاب اختبار حكومة بورتسودان الناقص فهو “الدعم السريع”، فقد أعفاها من أخذتهم عزة معارضة هذه الحكومة من أية مؤاخذة حتى إنه أعاد في موقفه الناقد للاختبار إنتاج اعتراضاتهم على الاختبار وبراءة الأطفال في عينيه. فقال مستشار قائد “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو، الباشا محمد طبيق، إن قرار عقد الاختبار الناقص ظالم، ولم يراع الطلاب النازحين واللاجئين والموجودين في مناطق سيطرة قوات “الدعم السريع”. وأضاف قائلاً إنه “يهدد آلافاً من الطلاب الذين سيفقدون حقهم في الجلوس للاختبارات، وبذلك يضيع مستقبلهم ويعد تمهيداً لتقسيم السودان”.
ولن تجد لـ”الدعم السريع” ذكراً ممن لا يرون من أوضاع معقدة كالتي نحن فيها سوى عيب حكومة الوقت. فطال مدى المعارضة للحكومات العسكرية والمدنية معاً حتى استبد الاحتجاج بصفوة القلم والرأي الليبرالي واليساري وضمر فيهم “الشوف الشامل” الذي ميزت به شاعرة مولانا أبو القاسم هاشم. فكان بوسع “الدعم السريع”، وبجرة قلم، أن يجعل من الشهادة الثانوية حدثاً قومياً مهيباً كما أرادت قمرية، ولكنه أضرب عن ذلك. فكانت قوات “الدعم السريع” قد منعت طلاب الشهادة الثانوية بمناطق سيطرتها من المغادرة إلى مراكز الاختبارات التي تقع داخل مناطق سيطرة الجيش السوداني، فأكد وزير التربية والتعليم في الإدارة المدنية بوسط دارفور، الضواي أحمد، أنه لن يسمح لأي طالب بالجلوس لاختبارات الشهادة السودانية خارج الولاية من دون التنسيق مع وزارة التربية والتعليم.
ولم يكن حمل “الدعم السريع” على النزول عن ذلك الإضراب مستحيلاً على نقابة المعلمين وغيرها لو صحت العزائم لانعقاد هذا الحدث القومي المهيب، لا إعادة إنتاج معارضتهم لحكومة الوقت. فلم يقو “الدعم السريع” على مقاومة إرادة الاختبار عند الطلاب والأسر متى حزمت، أو متى رشد. فكانت قوات “الدعم السريع” قد منعت طلاب مدينة أم روابة من السفر للجلوس للاختبار في مدينة الأبيض، إلا أنها تراجعت وسمحت لبعضهم بالسفر فاستقلوا ثلاث حافلات لعاصمة الإقليم. وسمحت للطالبات من مدينة الرهد دون الطلاب السفر للاختبار في الأبيض، حتى قال أحد أولياء الأمور “لا نفهم السبب وراء هذا التمييز، جميع الطلاب لديهم الحق نفسه في التعليم وأداء اختباراتهم”. أما المسؤول المكلف إدارة التعليم في وحدة النصر الإدارية جنوب الخرطوم فقال إن 928 طالباً وطالبة في منطقة مايو الخاضعة لسيطرة قوات “الدعم السريع” سينتقلون لأم درمان للاختبار في المناطق الآمنة بالجيش، أو مناطق محايدة حسب القرار الذي ينتظر أن يصدر في شأنهم.
أكبر خطأ من حملوا على قرار وزارة التربية عقد اختبار الشهادة في ديسمبر الماضي أنهم يفكرون بزمن السلم في وقت الحرب. فهم عند عقيدة أن هذه الحرب، التي لها عاقب ثقيل كل حرب، هي في قراراتها عبثية وملعونة، فيحاكمون النقص الذي يقع خلالها بما كانوا عليه في وقت السلم.
وإذا صح العزم فسبق لوزارة التربية أن قررت أن تعقد دورة ثانية لاختبار الشهادة الثانوية في أبريل (نيسان) 2025 لمن فاتتهم الدورة الأولى، فليتنافس المتنافسون في استكمال النقص الذي أخذه الناقدون على الدورة الأولى من فوق اعتبار جوهري هو أن “الدعم السريع” لم تصدق حين طمأنت الطلاب وأسرهم بأنه “ستتخذ التدابير والإجراءات اللازمة لضمان حقوقهم وتمكينهم من العودة إلى مرافق التعليم وأداء الاختبارات المؤجلة بصورة تضمن التوازن والعدالة مع زملائهم”. فالاختبار هو خاتمة عملية تربوية لا أعتقد أن زمامها سينعقد لـ”الدعم السريع” في وقت قريب. إذا كنا نريد لاختبار الشهادة أن يكتمل فستكون “حكومة بورتسودان” هي القائم به أياً كان الرأي فيها. والعمل معها للغرض في المحل الأول ولمعارضتها المحل الثاني. وسيغطي اختبار الدورة الثانية كل خالف إذا اتفق لـ”الدعم السريع” الإذن للطلاب في مناطقه الجلوس للاختبار حيث شاءوا، أو ربما حيث كان الدعم.
يحتاج الاختبار إلى طرفين لكي يوفي الكيل كما تحتاج رقصة التانغو إلى راقصين لتكون.
فواحد من أكثر وجوه الحرب إظلاماً هو انطفاء أنوار التعليم فينا، كما قال الصحافي عثمان ميرغني.
تنويه : الخبر تم جلبه من المصدر ونشره اليا في اخبار السودان كما هو رابط
المصدر من هنا