السودان الان

مستقبل السودان… 3 سيناريوهات لشكل الدولة أخطرها التقسيم

مصدر الخبر / المشهد السوداني

أصبحت فكرة تقسيم البلاد محل نقاش علني بين من يرى في الانفصال وسيلة لحماية مصالحهم السياسية والعسكرية كحل لأزمة العنف الحالي

منى عبد الفتاح – اندبندنت عربية
يشكل تدمير بنية المجتمع السوداني إلى جانب التدمير الاقتصادي للدولة، العقبة الأصعب أمام تعافي السودان بعد الحرب.

باستمرار الحرب سيتحول السودان إلى دولة فاشلة، تتعدد فيها مراكز القوى بظهور كيانات قبلية أو جهوية تتحكم في أجزاء متفرقة من البلاد، وتتعامل مع دول الجوار بشكل منفرد، بوصفها أقاليم منفصلة.

في ظل التغيرات الجذرية التي تعصف بالسودان جراء الحرب المشتعلة منذ أبريل (نيسان) 2023، يقف شكل الدولة اليوم عند مفترق طرق، يكاد يكون الأخطر منذ نيل الاستقلال عام 1956. ما أحدثته الحرب، من انقسامات في بنية الدولة والمجتمع، شكل حلقة أخرى في سلسلة الأزمات السياسية التي يعاني منها السودان، فما يشهده ليس مجرد صراع على السلطة، بل تفكك تدريجي لهيكل الدولة المركزية، وبروز كيانات محلية وجهوية تتطلع إلى فرض واقع جديد يتحدى مفاهيم السيادة والوحدة الوطنية. يغذي هذا التصور ترسيخ مناطق إدارية أوشكت على الانفصال، وتعميق الانقسامات لدى طرفي الصراع، وبينما يستمر تآكل النسيج الاجتماعي للبلاد، وفي قلب هذا المشهد المأزوم، تتسارع التحولات السياسية والميدانية.

على رغم أن الجيش وقوات “الدعم السريع” أعلنا التزامهما بوحدة السودان، إلا أنهما مدعومتان من جماعات مدنية معارضة ومجموعات وكيانات محلية، تبدو متضاربة. كما أن هناك تبايناً واضحاً في المواقف الأيديولوجية والسياسية بين طرفي النزاع، سواء في ما يخص شكل الدولة أم طبيعة النظام السياسي، يعمق الانقسام ويبدد الآمال في تسوية سياسية قريبة. فمن جهة، يطرح ميثاق “الدعم السريع” رؤى علمانية للسلطة، بينما حذفت المؤسسة العسكرية جميع الإشارات إليها في الدستور الانتقالي للسودان، فيما لا تزال تحتفظ ببعض نفوذ جماعة “الإخوان المسلمين” الحاكمة في النظام السابق. هذا التباين، إلى جانب إقصاء القوى السياسية تارة، وتعنتها وتمسكها بخياراتها القصوى تارة أخرى، يجعل فرص التوافق الوطني محدودة، بل ويعمق الصراع السياسي إضافة إلى الصراع العسكري القائم ويؤدي إلى تشكل إدارات موازية تقوض ما تبقى من وحدة الدولة.

وفي غياب استجابة دولية فعالة، وتشرذم المبادرات الإقليمية، تتآكل ركائز السودان دولة ومجتمعاً، ويتعاظم صعود الأطراف وبروز سلطات محلية أو إقليمية في الولايات والمناطق البعيدة، تتحكم في الأمن والموارد والإدارة ويتنامى نفوذها على حساب المركز. فهل يمكن أن يؤسس هذا الواقع إلى سلطة من الأطراف أشبه بجمهوريات الظل على حساب الدولة المركزية؟

معتقدات متباينة

تنطلق كل من القوات المسلحة السودانية وقوات “الدعم السريع” من فرضيات ومعتقدات متباينة، تعبر عن تصورات متضادة حول الدولة والسلطة والهوية والمستقبل الوطني، ما يجعل الصراع بينهما يتجاوز كونه صراعاً تقليدياً على النفوذ، ليصبح تجسيداً لصراع طويل الأمد بين المركز التاريخي والهامش المتململ. منذ استعمار السودان، ظلت الخرطوم هي مركز القرار السياسي والاقتصادي مع تهميش واسع للأقاليم كسبب في اندلاع حرب الجنوب ثم دارفور. وللتاريخ الاستعماري أثر واضح في تشكل الدولة السودانية، فرضته مؤسسات احتكارية أسهمت في خلق بيئة مواتية للصراعات ما ساعد على التشظي الجغرافي.

ترى القوات المسلحة، بوصفها الوريث المؤسسي لدولة ما بعد الاستقلال، أنها الحامية الطبيعية للكيان الوطني ووحدته. وتستند في تصورها إلى فرضية مفادها بأن إزاحة الدولة عن مركزها في الخرطوم يشكل تهديداً وجودياً للدولة السودانية ذاتها. وقد صورت، تحت قيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، الحرب الراهنة بوصفها “معركة كرامة” ضد “زحف همجي” من أطراف تسعى إلى تقويض إرث دولة المركز وإعادة تشكيل السلطة بما يخرجها من قبضة النخب التقليدية. غير أن هذا التمسك بالمركز ينطوي على تناقضات داخلية حادة، إذ يستند التحالف المحيط بالجيش إلى قوى متنافرة أيديولوجياً وسياسياً، بدءاً بالإسلاميين مروراً بـ “القوات المشتركة”، وهي مجموعة من الحركات المسلحة المتمردة والمعارضة التي انضمت إلى الحكومة بموجب اتفاقية جوبا للسلام لعام 2020، وانتهاء بمكونات الدفاع الذاتي (المستنفرين) المحلية ذات الولاءات القبلية. هذا التناقض جعل الجيش ذاته ساحة للتجاذبات، حيث تتنافس دوائر ضباطه المحيطة بالبرهان على النفوذ والارتباطات الإقليمية، مما يهدد بتفكك التحالف وتحول وحداته إلى فصائل مستقلة في حال انهياره.

في المقابل، تستند قوات “الدعم السريع” إلى سردية مغايرة، تعتبر أن النظام القائم منذ 1956 هو أصل التهميش البنيوي الذي أنتج مآسي السودان في الجنوب ودارفور وجبال النوبة وحتى الشرق. وتزعم أن حربها تهدف إلى تفكيك هذا الهيكل التاريخي للسلطة المركزية، وإنشاء نظام جديد أكثر شمولاً. لكنها، وإن طرحت خطاباً ثورياً يوحي بالتغيير، إلا أن بنيتها الفعلية قائمة على تحالفات قبلية ومصالح اقتصادية وتجارية معقدة. وقد أدى تزويدها للقبائل بالسلاح إلى عسكرة الصراع الاجتماعي، وتفتيت جبهتها الداخلية، مما يجعل تحالفها هشاً أمام طموحات محلية متباينة، قد تغرق البلاد في صراعات مناطقية متمحورة حول الموارد والنفوذ، بعيداً من أي مشروع وطني جامع.

موجة مكثفة

أفضى التقدم العسكري لقوات “الدعم السريع” منذ اندلاع الحرب إلى سيطرتها على أربع من ولايات دارفور الخمس، إضافة إلى ولاية غرب كردفان وأجزاء واسعة من ولايات النيل الأزرق والجزيرة وشمال كردفان وسنار والنيل الأبيض. غير أن المشهد الميداني بدأ يتغير تدريجاً منذ منتصف عام 2024، مع انطلاق القوات المسلحة وحلفائها في شن هجمات مضادة أسفرت عن استعادة أجزاء واسعة من البلاد.

شكلت استعادة مدينة ود مدني في أوائل يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحول حاسمة، إذ منحت الجيش دفعة معنوية قوية بعد أن صُدم الرأي العام السوداني باجتياح “الدعم السريع” لهذه المدينة ذات الرمزية الاستراتيجية في ديسمبر (كانون الأول) 2023. ومع انسحاب “الدعم السريع”، تأرجح ميزان السيطرة من جديد لتتوالى بعدها المكاسب العسكرية للجيش، الذي تمكن من استعادة أجزاء كبيرة من الخرطوم بحلول أواخر مارس (آذار).

وفي دارفور، أسهمت قوة دارفور المشتركة، التي تضم فصائل مسلحة متحالفة مع الجيش منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023، في تنفيذ هجمات على “الدعم السريع”، خصوصاً في شمال وغرب دارفور. وعلى رغم أن “الدعم السريع” نجح في صد الهجمات على الفاشر وجبل مون، إلا أن القتال في شمال دارفور استمر، لا سيما في محيط الفاشر ومناطق مثل مليط وأم كدادة وكتم والكومة والزُرْق.

في الـ23 من فبراير (شباط)، عدلت القوات المسلحة دستور السودان الانتقالي لعام 2019 لحذف جميع الإشارات إلى قوات “الدعم السريع”. ورداً على ذلك، قدمت قوات “الدعم السريع” ميثاقاً ودستوراً لـ”سودان جديد” وبدأت في إنشاء حكومة موازية لمنافسة مجلس السيادة المتمركز في بورتسودان. في غضون ذلك، انقسم تحالف القوى الديمقراطية (تقدم) إلى فصيلين، فصيل “قمم” المتحالف مع قوات “الدعم السريع”، وفصيل “صمود” المحايد.

هذه التطورات أثارت مخاوف بشأن احتمال تفكك البلاد وتصاعد حدة القتال، لا سيما بعد أن بدأت القوات المسلحة موجة تكثيف عملياتها العسكرية، مع بداية موسم الجفاف في أكتوبر 2024، ساعية لتحقيق مكاسب عسكرية حاسمة قبل نهاية مايو (أيار) 2025.

تشظي اجتماعي

أسفر الصراع عن تدمير غير مسبوق لبنية المجتمع السوداني، فإضافة إلى أن الحرب ألقت بظلالها على الاقتصاد، فإن التشظي الاجتماعي الناتج منها، وتبعاتها من صراعات أخرى تتمحور حول الوصول إلى الأراضي والموارد، حيث تتداخل هذه النزاعات مع التوترات الإثنية والقبلية القائمة، ما يجعلها إلى جانب التدمير الاقتصادي للدولة، تشكل العقبة الأصعب أمام تعافي السودان بعد الحرب. تواصل الحرب الحالية ما بدأته حرب دارفور بعودة بعض المجتمعات إلى هوياتها الإثنية والقبلية، مما يؤسس إلى مستقبل قاتم، يطول فيه أمد النزاع.

على رغم أن آليات منع النزاع المحلية كانت جزءاً أساسياً من إدارة هذه التوترات في الماضي، فإن تمدد الصراع إلى مناطق لم تشهد سابقاً أي نزاعات كبيرة، إلى جانب قسوة العنف الذي شهدته هذه الحرب، خلقا حالة من “الصدمة والرعب” في مناطق مثل ولاية الجزيرة، حيث أظهرت المجتمعات المحلية عجزاً واضحاً عن مواجهة العنف والانقسام.

من جهة أخرى، أدى التدفق المكثف للأسلحة إلى تعزيز قدرة الجماعات المسلحة على تصفية حساباتها على أساس قبلي وإثني، حيث تم تسليح بعض الجماعات بهدف تأمين السيطرة على أراض حيوية مثل مناطق الرعي والزراعة والتعدين. وقد شجع هذا الوضع طرفي النزاع على استقطاب جماعات محلية وتسليحها، فقد تحول مقاتلو قوات “الدفاع الشعبي”، التي كانت متحالفة سابقاً مع الإسلاميين و”حزب المؤتمر الوطني”، إلى قوات “الدعم السريع” في بداية الحرب. وتنقسم جماعات أخرى، مثل قبيلة المسيرية الحمر في كردفان، في ولائها بين القوات المسلحة وقوات “الدعم السريع”.

وفي ظل هذا التشظي وتزايد دعايات التجنيد، أصبح من السهل تجنيد المستنفرين استناداً إلى الانتماءات القبلية أو الإثنية، ما أدى إلى تفشي ظواهر الاعتقال والقتل على أسس قبلية. ولعل أبرز ما يعكس هذا الوضع هو الانقسام بين القبائل في دارفور على أساس (عرب- زُرقة).

ومع تصاعد هذا الصراع، أصبحت فكرة تقسيم السودان محل نقاش علني بين بعض السودانيين، الذين يرون في الانفصال وسيلة لحماية مصالحهم السياسية والعسكرية كحل لأزمة العنف الحالي الذي يعصف بالبلاد.

سيناريوهات محتملة

في ظل استمرار الحرب، تتبلور ثلاثة سيناريوهات رئيسة لمستقبل السودان، تختلف في مآلاتها بحسب تفاعلات الواقع السياسي والأمني والاجتماعي. السيناريو الأول، تفكك الدولة، في امتداد مباشر للوضع الراهن، إذ تستمر الحرب وتتعدد مراكز القوى، وتفشل مبادرات التسوية ما يفضي إلى ضعف السلطة المركزية وظهور كيانات قبلية أو جهوية تتحكم في أجزاء متفرقة من البلاد وتتحول بعض المناطق إلى مراكز سلطة قائمة بذاتها، تدير شؤونها من دون الرجوع إلى الحكومة المركزية.

ووفقاً لهذا السيناريو، سيتحول السودان إلى “دولة فاشلة” تفتقر إلى التنسيق الوطني، حيث تتعامل الأقاليم مع دول الجوار بصورة منفردة ويزداد تدخل الفاعلين الإقليميين وتزداد التدخلات الخارجية عبر التحالفات الإقليمية المنفصلة وتتسع الفجوة بين الأطراف، واحتمال اندلاع صراعات جديدة بين الكيانات المحلية ويتآكل النسيج الاجتماعي، ما يُنذر بانهيار شامل شبيه بتجربة الصومال في تسعينيات القرن الماضي. وإذا ظلت الأمور على ما هي عليه أو تفاقمت، فسيكون هذا السيناريو هو الأقرب للتحقق، خصوصاً مع استمرار القتال وضعف القيادة المركزية وتزايد الشرعنة المحلية للسلطات الإقليمية.

السيناريو الثاني، بناء دولة فيدرالية أو لا مركزية موسعة، ويفترض هذا السيناريو الوصول إلى تسوية سياسية شاملة تفضي إلى إعادة تأسيس الدولة السودانية على أساس فيدرالي، تمنح فيه الأقاليم صلاحيات واسعة في إدارة شؤونها. يحتفظ المركز بأدوار سيادية محدودة مثل الدفاع والعلاقات الخارجية. ولكن نجاح هذا المسار يتطلب إرادة سياسية جماعية وصياغة دستور توافقي وإعادة بناء الثقة بين المكونات السودانية. وعلى رغم تعقيدات الواقع، لكن هذا النموذج يمكن أن يتيح مخرجاً مستداماً يراعي التنوع ويحقق التوازن بين المركز والأطراف، ليكون الخيار الأنسب لإعادة بناء الدولة، إن توافرت الإرادة السياسية وتدخل إقليمي فاعل لصياغة تسوية تاريخية تجنب السودان المصير الكارثي المحتمل.

أما السيناريو الثالث، فهو عودة الحكم المركزي بالقوة، ويقوم على انتصار أحد طرفي النزاع (الجيش أو الدعم السريع)، وفرض سلطة مركزية جديدة من الخرطوم. لكنه يحمل مخاطر عودة التمرد في الأطراف، وتكرار أزمات ما قبل انتفاضة 2018، مما يقوض فرص الاستقرار.

تنويه : الخبر تم جلبه من المصدر ونشره اليا في اخبار السودان كما هو رابط
المصدر من هنا

عن مصدر الخبر

المشهد السوداني