النور أحمد النور
بدأ اقتصاد السودان في التعافي تدريجياً من آثار الحرب التي اندلعت قبل عامين، إلا أن العديد من الخبراء والمستثمرين الذين تضررت مؤسساتهم بشكل كبير، يرون أن عملية إعادة الإعمار وإنعاش الإنتاج تتطلب رؤية استراتيجية واضحة وخطة فعالة، بالإضافة إلى الحاجة الملحة لجذب استثمارات ضخمة لا تتوفر حالياً داخل البلاد. إن التحديات التي تواجه الاقتصاد السوداني تتطلب جهوداً منسقة من جميع الأطراف المعنية لضمان تحقيق الاستقرار والنمو المستدام.
وفقاً لتقارير صندوق النقد الدولي، شهد الناتج المحلي الإجمالي في السودان انكماشاً بنسبة 18% خلال عام 2023، حيث توقع وزير المالية السوداني، جبريل إبراهيم، أن يصل هذا الانكماش إلى حوالي 28% بحلول نهاية عام 2024. ومع ذلك، يُتوقع أن يبدأ الاقتصاد في التعافي بعد ذلك، حيث يُرجح أن يسجل نمواً طفيفاً بنسبة 0.3%، يليه نمو بنسبة 0.7% في العامين التاليين، مما يعكس الأمل في استعادة النشاط الاقتصادي.
منذ 15 أبريل/نيسان 2023، شهدت العملة الوطنية في السودان انهياراً كبيراً، حيث ارتفع سعر الدولار في السوق الموازي ليصل إلى حوالي 2700 جنيه سوداني، مقارنةً بحوالي 600 جنيه سوداني قبل اندلاع الحرب. هذا الانخفاض الحاد في قيمة العملة يعكس الضغوط الاقتصادية المتزايدة التي يواجهها المواطنون، ويزيد من تعقيد جهود إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار الاقتصادي في البلاد.
حقائق وأرقام
وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء في السودان، انخفض معدل التضخم في فبراير الماضي إلى 142.34% مقابل 145.14% في يناير السابق.انخفضت قيمة الصادرات والواردات خلال العام الماضي، ولكن الانخفاض في الواردات كان أكبر بكثير.انخفضت قيمة صادرات السودان إلى 3.13 مليارات دولار في عام 2024، بعدما كانت 4.35 مليارات دولار في عام 2022، مما يمثل تراجعًا بنحو 28%.انخفضت قيمة الواردات إلى 4.91 مليار دولار مقارنة بـ 11.09 مليار دولار، بتراجع نسبته 66%، وفقًا لوزارة التجارة.يعتقد الاقتصادي إبراهيم صالحين أن الاقتصاد السوداني تأثر بشكل كبير سلبا جراء الحرب، مما يستدعي اتخاذ خطوات متعددة لإصلاحه. البداية ستكون بإنهاء الحرب بشكل نهائي وإعادة الاستقرار السياسي إلى البلاد، بالإضافة إلى تنشيط القطاع الزراعي.يذكر صالحين لموقع الجزيرة نت أن القطاع الزراعي يمتلك إمكانيات وفرصاً كبيرة تعزز انتعاش الاقتصاد، بالإضافة إلى ضرورة الاستثمار في البنية التحتية والخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه، مما يسهم في تحقيق التعافي في العام الثالث من اندلاع النزاع.على الرغم من التدمير الكبير الذي لحق بالصناعة في ولاية الخرطوم، التي تمثل أكثر من 80% من إجمالي الصناعات، فإن بعض المصانع قد استأنفت نشاطها. فقد أعادت مطاحن روتانا للغلال فتح أبوابها الشهر الماضي، ومن المتوقع أن تلتحق بها مطاحن أخرى بنهاية الشهر الحالي.يقول محمد عبد المنعم، صاحب مصنع في الخرطوم بحري الذي دمرته الحرب، إن النزاع قد أفقر أصحاب الصناعات بعد أن فقدوا المعدات والأجهزة وكذلك بنية الصناعة الأساسية. ويعتمد معظمهم على التمويل من البنوك، مما يستلزم إعادة جدولتها ومنحهم إعفاءات لتمكينهم من العودة إلى الإنتاج.أعرب المستثمر -في تصريح لموقع الجزيرة نت- عن شكوكه بشأن إمكانية عودة الذين قاموا بنقل استثماراتهم إلى خارج البلاد، وذلك بسبب حالة عدم اليقين والامتيازات التي باتوا يحصلون عليها. كما أشار إلى انتقال الحرب إلى غرب البلاد، الذي يعتبر مصدراً رئيسياً للزراعة المعدة للزيوت والثروة الحيوانية، بالإضافة إلى تدهور البنية التحتية وأزمة الطاقة (الكهرباء) التي تعتمد عليها الصناعات.
رؤية للإعمار
وافقت اللجنة العليا للإعمار، التي أنشأها مجلس السيادة السوداني، على رؤية شاملة تهدف إلى توجيه الجهود نحو إعادة بناء النسيج الاجتماعي والعمراني بشكل أفضل مما كان عليه قبل الحرب، والاستفادة من آثار الدمار لإعادة بناء المؤسسات والأماكن بجودة معمارية وهندسية اجتماعية واقتصادية.أفادت الخطة، التي حصلت عليها الجزيرة نت، بأن تنفيذها سيشارك فيه كل من الدولة والمجتمع والقطاع الخاص بالإضافة إلى المنظمات الإقليمية والدولية، من خلال أربعة محاور استراتيجية تشمل الإداري والتشريعي، والسياسي، والعمراني، والاجتماعي. وحددت الخطة 3 مراحل للإعمار كالتالي: الأولى: الاستجابة الفورية التي تأتي بعد انتهاء الحرب، وتتضمن تقديم المساعدات الإنسانية العاجلة، وتعزيز الاستقرار، والحفاظ على السلام.الثانية: المرحلة الانتقالية، التي تركز على تعزيز قدرات المجتمع وإنشاء أساليب للإعمار الاقتصادي والسياسي.المرحلة الثالثة: تعزيز الاستدامة من خلال تنفيذ خطط إعادة الإعمار ووضع حلول تضمن عدم العودة إلى الصراع.قدّرت الخطة خسائر القطاع الاقتصادي بحوالي 108.8 مليار دولار، وحددت مصادر التمويل على النحو التالي:اقترحت الخطة التركيز على القطاعات المؤثرة، والبدء بالقطاع الزراعي الذي يساهم في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 28.9%، تليه الخدمات بنسبة 56.7%، والصناعي بنسبة 14.4%. وكان القطاع الزراعي الأقل تأثراً والأسرع نمواً.دعت الرؤية إلى إتاحة الفرص للقطاع الخاص المحلي والأجنبي للمشاركة في جهود إعادة الإعمار من خلال آليات تمويل ونماذج للبناء والتشغيل مع إعادة الملكية. كما اقترحت إنشاء صناديق صكوك في الأسواق العالمية وتعزيز الاستثمار المحلي والأجنبي.ولتقديم تعويضات للمواطنين والمستثمرين الذين فقدوا منازلهم وممتلكاتهم واستثماراتهم، تقترح الرؤية إنشاء صندوق تعويضات على المستويات الإقليمية والعالمية، بالإضافة إلى توفير تمويل ميسر للمتضررين في القطاع الخاص لاستئناف أنشطتهم الإنتاجية، وإصلاح النظام المصرفي للمساهمة في تنشيط الاقتصاد من خلال خيارات تمويل مرنة.
متاعب الخدمات
من ناحيته، يوضح وزير الصحة السوداني هيثم محمد إبراهيم أن الأضرار التي لحقت بقطاع الصحة جسيمة، حيث تقدر قيمة المعدات والأجهزة الطبية التي فقدتها المستشفيات العامة والخاصة بسبب النهب والتدمير في ولاية الخرطوم وحدها بـ 2.2 مليار دولار.يقول إبراهيم للجزيرة نت إنه خلال فترة الحرب، تمكنت المؤسسات المعنية من استيعاب 13 ألف طبيب. كما منح مجلس الأدوية والسموم 19 مصنعًا للأدوية تعرض للتدمير إذنًا بالصناعة التعاقدية في الخارج وتوريد أدويتهم بنفس العلامات التجارية، مما ساعد على توفير الأدوية.وفقًا لوزير الصحة، فإن هناك خطة لتطوير القطاع تعتمد على الجهود والمبادرات المحلية. كما حصلت الحكومة على تأكيدات من السعودية وقطر لدعم القطاع الصحي خلال المرحلة الحالية. وقد زارت مدينة بورتسودان في الأسبوع الماضي وفود فنية من البلدين، بالإضافة إلى منظمات دولية تعمل حاليًا على إنعاش هذا القطاع.بدوره، يوضح الخبير الاقتصادي محمد الناير أن القطاع الصناعي هو الأكثر تضرراً، حيث تجاوزت نسبة الأضرار فيه 80%، يليه القطاع التجاري. كما يشير إلى تدهور سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية، نتيجة التأخير في استبدال العملة الوطنية وانتشار التزوير.في حديثه مع الجزيرة نت، يعتقد الناير أن الأشهر الأخيرة شهدت استقراراً نسبياً في سعر صرف العملة بعد ارتفاع عائدات تصدير الذهب إلى أكثر من ملياري دولار في عام 2024. بالإضافة إلى ذلك، فإن عودة السيولة إلى الجهاز المصرفي والتعاملات الإلكترونية في الخدمات تعزز من التفاؤل باستقرار اقتصادي إذا تراجعت الحرب.توقع الخبير انخفاضاً في معدلات البطالة التي تجاوزت 40% قبل الحرب، بعد أن تبدأ عجلة الاقتصاد في التحرك من خلال إعادة الإعمار وتدفق الاستثمارات المحلية عقب هجرة بعض المستثمِرين إلى الخارج، بالإضافة إلى انتعاش القطاع الخاص، مما سيساعد في توفير فرص عمل للعمالة.