السودان الان

خرائب متحف السودان القومي… للجنون طرائقه

مصدر الخبر / المشهد السوداني

يستغرب المرء لماذا لم يمتنع هادم المعبد النوبي عن هدم متحف أقيم لوجه هويته العربية الإسلامية خصوصاً

عبد الله علي إبراهيم – اندبندنت عربية
ظهر دعامي (مجند في قوات “الدعم السريع”) بعد احتلال “الدعم” لمتحف السودان القومي في يونيو (حزيران) عام 2023 على فيديو يستعرض تماثيله الأثرية “الوثنية” من عهود ما قبل الميلاد، ويقول “هذه التماثيل لا تمثلني. أنا لا أنتمي إليها. ما يمثلني ليس هنا”.

اشتهر الفيديو كفكاهة لأن الدعامي أخذ يشير إلى المومياوات في سباتها الأزلي، قائلاً “هؤلاء ضحايا الفلول. يقتلون خصومهم ويخفونهم هنا”. ومهما كان الرأي في عبارته، فالدعامي أثار هنا مسألة الهوية السودانية إزاء تنوع ثقافات السودان. وسنأخذ في الحديث عن مسألته لاحقاً.

عرض أحدهم فيديو طاف فيه عرصات متحف السودان القومي بعد استرداد القوات المسلحة لمبناه في الأسابيع الماضية. وبإيجاز لم يبقَ من محتوياته البالغة 100 ألف قطعة سوى بعض تماثيل صخرية ليست مما خف حمله. وتحطمت “الغرفة الحصينة” كما يسمونها، ونهبت الآثار الذهبية المودعة فيها بالكامل. وسهل للنهابة شغلهم أن كانت معظم مقتنيات المتحف مخزنة في صناديق انتظاراً لعمليات إنشاءات وصيانة مجدولة للمبنى، فأخرجوا المومياوات العائدة لـ2500 قبل الميلاد من توابيت حفظها ورموا بها على قارعة الصالة، وقال الصوت في الفيديو “هشموا مقتنيات لم يروا نفعاً منها وحرقوا أخرى”.

ورصد فريق آثاري فرنسي عبر الأقمار الاصطناعية عملية إفراغ المتحف من مقتنياته، إذ حُملت من المتحف إلى ثلاث شاحنات سارت إلى جهات خارج البلاد ذكروا منها جنوب السودان بالاسم، وانزعج الناس لأنه سرعان ما بدأ تسويق بعض الآثار الثقافية منسوبة إلى السودان على مواقع مثل “أي بي” ولم يثبت بالفحص أنها كذلك. ومن رأي الخبراء أن نهابي الآثار وزبائنهم لن يدخلوا بها السوق عاجلاً. وانتدبت جماعة من الآثاريين الأوروبيين نفسها للتربص بما يعرض من آثار للسودان في السوق، كما رتبت منظمتان أخريان لحفظ الآثار السودانية إلكترونياً.

ومما يطمئن أن الآثار التاريخية محمية بــ”اتفاقية اليونيسكو (1970) لمنع الاتجار غير المشروع في المقتنيات والآثار”، فملحق “القائمة الحمراء” الصادر عن المجلس الدولي للمتاحف قضى بصون الممتلكات الثقافية المعرضة للخطر، علاوة على وضع المنهوب منها على قاعدة بيانات الإنتربول للأعمال الفنية، بل مما يريح الخاطر أن المجلس التنفيذي لـ”يونيسكو” وعد قبل يومين بتقديم دعم متكامل للسودان في مجالات الثقافة والإعلام. كما قرر التعاون مع الإنتربول من أجل استعادة الآثار السودانية المنهوبة. وللعالم سوابق موفقة في مثل تلك القضايا، إذ منع قرار مجلس الأمن 2099 (2000) الاتجار في آثار العراق وسوريا، وتجاوبت معه دول كثيرة أعادت ما وقع بيدها.

وصف أحدهم خراب متحف السودان القومي بأنه “ضرب للذاكرة الجماعية السودانية”، وصدق إلا أن جماعية هذه الذاكرة موضوع خلافي وهو خلاف ضرج السياسة السودانية لعقود. فتخريب المتحف ونهبه بلا رحمة جنون مما قال فيه شكسبير إن له طرائقه مع ذلك. فعبارة الدعامي عن غياب هويته العربية المسلمة في عروض المتحف هي هذه الطرائق من وراء جنون هدم معبد المتحف. وقال آخر منهم من “اللايفاتية”، أي من يطلون بالقول على الناس، هو عيسى ود أبوك يسخر ممن استنكر عليهم في “الدعم السريع” تدمير المتحف، فقال إن “تلك آثار من قدماء النوبة على النيل ولا تمت لهم بصلة لأنهم عرب ولهم إرث عائد لـ’جنيد‘ الذي تنتهي إليه أنساب شعب البقارة بكردفان ودارفور وتشاد”، وهم من وصفوا بأنهم حواضن “الدعم السريع”. وزاد أنهم سيصنعون لـ”جنيد” تمثالاً يطل من فوق دوار “القندول” بالسوق العربية في الخرطوم. أما تمثال “ترهاقا” النوبي، في قوله، فأخذوه نحو تشاد إلى الأبد.

ويستغرب المرء لماذا لم يمتنع الهادم للمعبد النوبي عن هدم معبد أقيم لوجه هويته العربية الإسلامية بخاصة، وهو متحف بيت الخليفة عبدالله، خليفة مهدي السودان على دولته (1885-1898)، وهو من صميم شعب التعايشة البقارة، إذ أفرغته “الدعم السريع” أيضاً من كل مقتنياته، حتى “سبحة الأمير عثمان دقنة وسيف الأمير أبو قرجة (من أمراء المهدية)”، وفق الصوت في الفيديو الذي عرض لدمار المتحف. وقال الصوت إنه “متحف أقامه الإنجليز، لا غيرهم، عام 1928، وهم من قتلوا الخليفة وأهلكوا دولته في عاصمته أم درمان نفسها”.

وندلف هنا إلى سيرة خطاب الهوية الذي انعقد لا لعقود طويلة فحسب، بل تحت ظلال السيوف أيضاً. ودار حول أن المركز في الخرطوم، وفي تجليه الأسمى في دولة الإنقاذ (1989-2019)، فرض منذ عام 1956 هويته الثقافية الإسلامية العربية على الأمة، مما عطل كل هوية أخرى غيرها. فأثيرت مسألة تمييز اللغة العربية في الدولة والتعليم والإعلام على ثراء السودان في اللغات التي ربت على المئة لغة. ويعاب على المركز أنه اختار من بين “العلاقات الأزلية” للسودان تلك التي له مع مصر من دون مع تشاد مثلاً. كما أنه بادر إلى عضوية الجامعة العربية مبادرة لم يرعَ فيها التكوين العرقي السوداني. وصارت القضية الفلسطينية التي التزمتها حكومة الخرطوم قضية عربية خالصة لا ناقة للسودانيين فيها ولا بعير. وفي مضمار التعليم يشتكي بعضهم من كتاب المطالعة الوحيد في المرحلة الابتدائية الذي يقوم بدور البطولة فيه “الجمل” الشمالي، أداء وصورة ومجازاً، في حين أن الجمل حيوان غريب جداً على بعض أقاليم السودان التي يستذكر تلاميذها هذا الكتاب، بل بلغ التظلم درجات قصوى في مثل استنكار أن تستأسد النخلة في شوارع الخرطوم العاصمة بينما شجر السودان كثير.

ولا غرو أن احتقن الهامش بغبن كثير كان من وراء الحرب المتطاولة التي خيمت على سماء السودان منذ استقلاله. وأوحت هذه المظلومية من سوء إدارة التنوع الثقافي للباحث عشاري محمد محمود أن يعرف هذا التنوع على غير ما اعتدنا. فبدلاً من إحصاء مفرداته قال إن التنوع الثقافي هو غبن، أي وعي بالوفرة المهدرة، وهو نوع الوعي الخليق، متى أحسن المرء تزكيته، بأن ترشد به السياسة نحو مقاصدها. لكن لابس هذا الغبن استثمار نيء له من قبل الجماعات الليبرويسارية العربية المسلمة في المركز نفسه، مما شكت منه الباحثة عبير محمد خير في رسالتها للدكتوراه المعنونة “تسييس الإثنيات وأثره على الأمن القومي” (1989-2020).

بالطبع لا مناص من السياسة في إدارة مظلومية الهامش، لكن ثمة فرقاً بين هذا التسييس وبين الاستثمار في غبن التنوع لأغراض معارضة موقوتة. فعزت عبير محمد محقة هذا التسييس إلى افتقاد النخب كثيراً من الأسس والأطر المؤسسية التي كان يجب أن توظف في حل إشكالات التنوع. ومن هذه الأطر النظرية التي قاربوا بها غبن التنوع أن دخلوا على هذا الغبن للجماعات المغلوبة بطريقين، فجاؤوا له أولاً بطريق معارضة النظم الديكتاتورية المطولة التي لم تصعب عليهم العمل في ميادينهم التقليدية في النقابات والاتحادات فحسب، بل أدخلت حكومة الإنقاذ منها في روعهم أنها الميادين التي تحسن الشغل فيها بأحسن منهم لأن من ورائها حركة “الإخوان المسلمين” الضليعة في العمل الجماهيري. ووقعت هذه القوى الليبرويسارية على مظلومية الهامش بعد أن تجردت من حقول نشاطها السياسي المركزية مكرهة وطائعة ومختارة معاً. ولم تتحالف مع الغبن كوعي بل كمظلمة.

أما الباب الآخر الذي دخلت به هذه القوى على غبن الهامش، فبنظرية العرق النقدية التي تركز على هوية الجماعات الأقلية فيها والمتظلمة من نير الجماعة الغالبية أو المتسلطة، أي من باب الهوية. وعلى رغم نفع النظرية لهذه الجماعات المغلوبة مما جرى وصفه بـ”الآخر”، أي آخر الجماعات الغالبة، فإنها كرست لهذا الآخر على حساب التاريخ المشترك والرغبة في العيش معاً. ولأن الليبرويساريين تنكبوا طريق هذه الرؤية الجامعة فقد هرعوا في حركة سياسات الهوية وغبنها، وغاب عنهم الحس بما يواثق بين السودانيين كمواطنين وما يربطهم كأمة. وهي شكوى فيلسوف أميركي في نعيه الليبرالية الأميركية. فالنظرية العرقية النقدية وغيرها منعت الليبراليين، في قوله، من تنشئة رؤية طموحة لأميركا ومستقبلها تلهم سائر المواطنين. وعليه خسر الليبراليون رهان الأمة لأنهم “تراجعوا إلى كهوف كانوا حفروها لأنفسهم في ما كان جبلاً عظيماً”، أي في أمة كبيرة.

والشيء بالشيء يذكر، فخطة الليبرويسارييين التي ركزت على سياسات الهوية هي عودة بسيطة لسياسات الإدارة الاستعمارية المعروفة بـ”المناطق المقفولة” حيال التنوع في السودان أرادوا أو لم يريدوا. فحال الإنجليز دون اختلاط جنوب السودان وجبال النوبة ومنطقة النيل الأزرق (والأخيرتان مما يعرف حالياً بـ”الجنوب الجديد”) بالشمال الموصوف بالعربي المسلم. واتجه الاستعمار من أجل ذلك إلى بناء وحدات قبلية أو عرقية مغلقة في تلك المناطق، قائمة من حيث البنية والتنظيم على العوائد المحلية والعقائد والأعراف التقليدية المحلاة بالتبشير المسيحي. وكانت من وراء تلك “الكرنتينات” الخشية أن تصاب تلك المناطق في خلطتها بالثقافة العربية الإسلامية بنوع سفاحي من الاستعراب كما حدث تاريخياً لشمال السودان. وبعض شكوى هذه الهوامش من مظلوميتها التاريخية عائد لسياسة المناطق المقفولة. فقال الأكاديمي كمال عثمان صالح إنه قد ضاعت الفرص على أبناء جبال النوبة في الترقي بصفوف القوات المسلحة السودانية لأن الإنجليز، لما خشوا أن يستعرب النوبيون جراء خدمتهم في الجيش، فصلوهم عنه. وانتهى كمال عثمان صالح إلى لوم الإنجليز لحجب أبناء جبال النوبة عن التنافس على النطاق القومي “لأنهم أولوا حربهم ضد التعريب فائق عنايتهم، في حين لم يولوا رقي النوبة عشر معشار تلك العناية”.

متحف السودان هو الجبل العظيم الذي جاءته الدعامة بغبن الكهف الذي لم يرقَ إلى وعي بالجبل يأذن لهم بتعليق لوحتهم الثقافية ضمن أخريات. ولم يُعقد اتفاق بين المركز والهامش في السودان لم يغِب فيه الجبل عن حسابات الكهوف. فاتفاق “سلام جوبا” (2020) بين الحكومة الانتقالية وحركات دارفور المسلحة وحلفائها حال استثنائية في التشبث بالكهف من دون الوطن، حتى إنها طالبت بأن يكون لها ممثلون في إدارة الخرطوم لأنهم شركاء فيها ما دام أنها كانت عاصمتهم. وتلك وصاية جردت المدينة من إدارة نفسها بنهج الديمقراطية نفسه الذي أرادته الحركات لكهوفها. ولعل أبلغ تجليات الكهف من دون الجبل هي دولة كاودا في جبال النوبة التي استعصم فيها عبدالعزيز الحلو، زعيم الحركة الشعبية – شمال منذ عام 2011، فإما قبل الجبل بالعلمانية، وإما غادر لا يلوي على شيء.

خراب متحف السودان القومي جنون إذا شئت. وللجنون طرائقه، كما قال شكسبير والتي حاولنا رفع الغطاء عنها هنا.

تنويه : الخبر تم جلبه من المصدر ونشره اليا في اخبار السودان كما هو رابط
المصدر من هنا

عن مصدر الخبر

المشهد السوداني