السودان الان

(إلهاء أم حقيقة؟) لا تبدو العلاقة بين الخرطوم والقاهرة على ما يرام.. لكن هل استدعاء السفير السوداني من مصر والتلويح بالتصعيد أمر موضوعي؟، أم (فزاعة) لشغل حركة الشارع الرافضة للغلاء؟

مصدر الخبر / صحيفة اليوم التالي

الخرطوم – الزين عثمان
تستدعي وزارة الخارجية السفير السوداني في القاهرة، في وقت تحتشد فيه وسائط التواصل الاجتماعي بأنباء عن وجود حشود عسكرية مصرية في الحدود مع أريتريا، بينما تعلن الخرطوم أن استدعاء سفيرها في القاهرة من أجل التشاور، انطلاقاً من العرف الدبلوماسي، لكن الأمر بدا وكأنه حالة من الاحتجاج على سلوك بعينه ضد تصرفات للحكومة المصرية، من بينها ما رشح عن تقارير إعلامية بطلب مصري للحكومة الإثيوبية إبعاد السودان من محادثات سد النهضة، فضلا عن امتعاض سوداني من الانتقادات التي وجهتها وسائل الإعلام المصرية للزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس التركي للخرطوم قبل فترة قصيرة.
لكن ما بدا تصعيدا سودانيا إزاء مصر، يقابل في العديد من النقاشات السياسية وحلقات التواصل الاجتماعي، بشكوك موضوعية أيضا، إذ يبدو غريبا أن تتجاهل الحكومة في الخرطوم طيلة السنوات الماضية التعدي المصري على مثلث حلايب، والاستمرار في محاولات نزعها من السيادة السودانية، فيما تقوم بالتصعيد الآن في قضية الحدود الأرترية التي تتزامن مع موجة غلاء تضرب الأسواق، وتوقعات باحتجاجات شعبية في مواجهة صفوف الخبز والآثار المترتبة على موازنة 2018، مما دفع بأصحاب نظرية (التشكيك) إلى النظر للتصرفات الحكومية في السياسة الخارجية وكأنها محاولة إلهاء عن الواقع الداخلي المعيشي المرير.
(1)
لا تبدو العلاقات بين الخرطوم والقاهرة على ما يرام، هكذا ارتسمت الصورة على القنوات الفضايئة وفي وسائط التواصل الاجتماعي حيث بدت الاختلافات على أشدها في أعقاب زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للسودان نهاية العام الماضي وهي الزيارة التي لم تعجب القاهرة التي انطلقت بعض وسائل إعلامها في حملة مضادة للسودان واتهامات حاولت الربط بين الزيارة وبين الاختلافات المذهبية، وبالطبع كان ملف جماعة الإخوان المسلمين المحظورة من حكومة الرئيس المصري المشير عبد الفتاح السيسي أول الملفات التي صعدت للسطح.
ولم يعدم المصريون ما يربطون به زيارة أردوغان ومحاولة تهديد الوجود المصري في البحر الأحمر عقب الاتفاق بين السودان وتركيا لإدارة شأن جزيرة (سواكن) التاريخية في البحر الأحمر.
ولا يبدو ملف سواكن بعيداً عن ملف حلايب التي تحتلها مصر منذ تسعينيات القرن الماضي مع اصرار السودان في التمسك بحقه في الأرض مهما كلفه الأمر، ففي كل الأحوال ظلت قضية حلايب هي الخميرة التي تزيد من عكننة الأوضاع بين شمال وجنوب الوادي.
(2)
ليست حلايب وحدها العام الماضي خميرة العكننة، فقد جددت السلطات السودانية قرار حظر بعض السلع المصرية من الدخول للسودان لعدم مطابقتها للمواصفات ولأنها تحتوي على خطورة على المواطنين، وهو قرار ذو طابع فني مثل كل القرارات لكنه لم يخرج من سياق ارتباطه بأبعاد سياسية هي التي أدت لاتخاذ القرار الذي فاقم من الاختلافات التي لم تغب أصلاً على الرغم من الأواصر الشعبية والحضارة الضاربة في جذور القدم والمصير الواحد الذي لم يشفع لأن يحضر الاتفاق حيث بدأت المواجهات السياسية تجد رواجاً في الشعوب وهي تستخدم أدوات التواصل الاجتماعي حيث وجدت ما يدعمها من ممارسات على أرض الواقع خصوصاً في ظل بعض الأفعال من قبل السلطات المصرية في تعاملها مع سودانيين في مصر وبالطبع ليس آخرها ما تعرض له المعدنون السودانيون من قبل السلطات الأمنية المصرية.
(3)
قبل يومين كانت الخارجية المصرية تنفي اتهامات إثيوبية بأنها طالبت بإبعاد السودان من التفاوض في ما يتعلق بسد النهضة الإثيوبي، وقالت إن المصريين يتعاملون مع السودان باعتباره طرفا أصيلا في قضية المياه، لكن نفي الخارجية شككت فيه مصادر إثيوبية تحدثت عن تكرار الطلب لأربع عشر مرة وهو ما يعزز الاتهامات بأن ثمة نية مبيتة في اتجاه الإضرار بمصالح السودان في مياه النيل.
بعيداً عن النفي والتأكيد، فإن الاختلاف حول ما يجري في ملف مياه النيل ليس خافياً ومثله حالة عدم الرضاء المصري عن اتخاذ السودان طريق بعيداً عن القاهرة، يسميه وزير الخارجية البروفيسور إبراهيم غندور (طريق مصلحتنا)، ما يبدو أنه قد زاد من حدة الاختلافات بين الخرطوم والقاهرة، وبالتالي جعل من المواجهة وكأنها النتيجة الحتمية في سبيل سعي كل طرف لتحقيق مكاسب والحفاظ على استقرار بلاده.
(4)
بالنسبة للكثيرين فإن الاختلاف حول التعاطي مع قضايا الإقليم وتعدد الأحلاف وتباين وجهات نظر الخرطوم مع القاهرة فيها كان عاملاً مؤثراً في زيادة حدة التوتر وارتفاع الشعور بأن كل طرف يضمر شيئا إزاء الآخر، فالقاهرة لا تبدو واثقة من شكل علاقة للخرطوم بعدو حكومة السيسي اللدود جماعة الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية ذات التوجهات السياسية، وبالتالي فإن معركتها مع الأخيرة هي محاولة للحفاظ على استقرارها الداخلي وهو ما يفسر حالة الغضب من زيارة أردوغان لكن آخرين يقولون بغير ذلك حين يستدعون ما يعتبرونه رفضا مصريا لرفع العقوبات الأمريكية عن السودان في خطوة أشبه بالاستهداف ويقرأها الآخرون بأنها سعي للحفاظ على مكاسب كانت تحققها القاهرة من كون الخرطوم محاصرة أمريكياً.
الخلاصة أن الشعور الذي يسود لدى بعض المعارضين لتوجهات مصر، أن الحكومة المصرية تعمل في أجندة ضد مصالح السودان، وقد بدأت مثل هذه الاتجاهات تسري في الأوساط الشعبية وهو إحساس يجد في التاريخ ما يدعمه وبشدة ولا يعدم الجوانب الاجتماعية حين يشير البعض إلى حالة التعامل بأسلوب (الأخ الأكبر) التي يتعاطى بها بعض المصريين مع السودانيين.
(5)
هذه العوامل مع عوامل أخرى تزيد من حالة التصعيد الشديد بين الخرطوم والقاهرة بل إنها تجعل من خيار المواجهة واردا، وربما ما حدث من استدعاء للسفير السوداني من هناك ما هو إلا عبارة عن مقدمة لما يمكن أن يأتي لاحقاً، فالاختلافات الإقليمية والاختلافات حول السد والتعبئة الإعلامية المتزايدة والهمس حول وجود حشود عسكرية والأرض المحتلة في حلايب كل ذلك مدعوم باستعداد شعبي لقبول هذا النوع من التكتيكات، يدفع بقوة نحو الخيار غير المرغوب أو الخيار الذي لم يحدث سابقاً بين البلدين الشقيقين.
(6)
كل ما سبق غير مستبعد، بيد أن لآخرين رؤية مغايرة، فالبلدان يواجهان مشكلات داخلية خصوصا على جانب الاقتصاد، وأسعار الصرف في البلدين في ارتفاع مع عملتيهما المحلية.
هذا الاتجاه يبدو تفسيرا مريحا للمعارضين في السودان، الذين يرون في التصعيد السوداني إزاء الوضع مع مصر، إلهاء عن مشكلات محلية مرتبطة بمعاش الناس، مشيرين إلى الأزمة الاقتصادية الطاحنة والتي برزت في عودة صفوف الرغيف وارتفاع أسعاره وهو الأمر الذي يرجح احتجاجات شعبية في مواجهته أسوة بما حدث في سبتمبر.
بالنسبة للمعارضة، فإن ما يحدث الآن على الصعيد الخارجي، يشير إلى فشل سياسات الحكومة وتكتيكاتها الداخلية واستخدام سياسة إنتاج العدو أو (الفزاعة) الخارجية رغم أنها سياسة قديمة لكنها دائماً قابلة للتحديث والابتكار، وهي لعبة تعشقها الأنظمة السياسية المأزومة داخليا كلما ضاقت الخيارات، فيتحول الانتباه عن الأمور الداخلية إلى مشكلات خارجية.

يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة اليوم التالي

عن مصدر الخبر

صحيفة اليوم التالي