تنطوي صفحات التأريخ عاماً بعد عام والذكرى تأبى أن تمحو ذكرى عنبر (جودة)
ورفات ضحاياها ترقد بسلام في مقابر شهداء جودة على بعد عدة أمتار من مدينة كوستي، أعاد العم العبيد موسى على مسامعي ذكرى ذلك اليوم المشؤم وهو يرويها تفاصيلها بكل دقة، كأنها حدثت أمس.. واحد وستون عاماً مضت.. عاماً تلو العام.
قال العبيد وهو يلخص عظم المأساة: قضينا أربعة أيام دون أن تبتل عروقنا بنقطة ماء، والعرق السائل منا يزحف عبر فتحات الباب، والمزارعون في الداخل يصرخون دونما استجابة، والحرس في الخارج تجرد من كل معاني الإنسانية لم يفتحوا الباب إلا بعد أن سكت صراخ من في الداخل .. لكن كان سكوتا إلى الأبد.
تحقيق: زينب أحمد
ملخص الحلقة الثالثة
في الحلقة الماضية كنا قد تناولنا تصريح مفتش المركز لصحيفة السودان الجديد بعد أن تطورت الأحداث، انتهاء بموت المزارعين في حامية الجيش بكوستي، بيّن فيها المفتش ما قام به في سبيل معالجة القضية إلى جانب البيان الصادر من وزارة الداخلية، الذي يؤكد تطور الأحداث، وتقرير التشريح الذي تم بواسطة ثلاثة من الأطباء، الذي يؤكد أن سبب الوفاة هو الاختناق الناتج عن انعدام الأوكسجين، وضربة الشمس، والوقفة التي قام بها المحامون مطالبين
بتنفيذ العدالة على الجاني، أياً كان منصبه، إلى جانب مطالبتهم باستقالة الحكومة، وتحميلها مسؤولية ما حدث.
الخطوة الأولى
أثار الموقف الذي اتخذه القضاة والمحامون- حماة العدالة- قريحة إبراهيم عوض فنظم قصيدة يصف موكب المحامين الواردة في صحيفة الصراحة الصادرة صبيحة يوم 2ـ3ـ1956 بقوله:
أرأيت موكبهم يسير وقد تحلى بالوقار
غشَّى الأسى سيماهمُ فتفجرت لهبا ونار
فكأن نعشا للعدالة طافح الأحزان سار
وكأن في خطواتهم عزما يروع من أغار
ساروا فسار الحق منبلجا كرابعة النهار
ساروا وفي أعقابهم شعب يردد في انفجار
المجد للشهداء طرّا.. ولهم أكاليل الفخار
والموت والهول المروع والمشانق والدمار
للشاربين دم الشعوب السافكين دم الصغار
خسئوا فإن الشعب رغم البطش والإرهاب ثار
هذي مواكبه تعبّر عن أمانيه الكبار
وغدا سيقذف بالطغاة مصيرهم بئس القرار.
بيان أصحاب المشاريع
بدأت البيانات تتوارد من الاتحادات والنقابات من مختلف ربوع السودان ومن خارج السودان؛ حيث أصدر أصحاب المشاريع الزراعية في منطقة كوستي بيانا قالوا فيه: نأسف أشد الأسف على تلك الأحداث الدامية التي حدثت في مشروع جودة، وراح ضحيتها نفر كريم من المزراعين، وينعون بقلوب ملؤها الأسى والحزن أولئك الشهداء الذين فاضت أرواحهم البريئة في السجون.. لقد خلقت هذه الحوادث أثرا سيئا في نفوس أصحاب المشاريع، وأثارت سخطهم، واستياءهم.
إن النكبة التي حلت بمزراعي مشروع جودة نكبتنا جميعا، ومصيبتهم مصيبتنا، وكارثتهم كارثتنا.. كيف لا وهم شركاؤنا في العمل، وسواعدنا في الحقل، وإخواننا في الدين، والقضية. إن رخاء المزارع رخاء لنا ولبلادنا، وفي ارتقاء مستواهم ضمان لإنتاجنا وبلادنا، وفي تطوره وتطلعه تطور لمجتمع واقتصاد البلاد، وإذا ما هبّ المزارع يطالب بما يراه حقا من حقوقه فيجب أن تبحث مطالبه بالنسبة لواجباته، وعلى قدر الواجبات تقاس الحقوق.
إننا كنا دائما وأبدا حريصين على حل مشاكل المزراعين بطرقنا الخاصة على الرغم من الأوضاع السيئة التي تكتنف العمل في المشاريع من عدم الإنتاج بالنسبة لحداثة عهد المزراعين بالزراعة، وقلة خبرتهم، وللطريقة العقيمة التي تتبعها الشركات في التسويق؛ مما يترتب عليه تأخر الحسابات بالنسبة لنا وللمزراعين، غير أنه في الأيام الأخيرة تدخلت بعض العناصر المخربة فأثارت المزراعين، وخلقت نوعا من سوء التفاهم بين المزراعين وأصحاب المشاريع، وسمموا أفكار الزراع، وصوروا مطالبهم بصورة مشوهة مخالفة للحقيقة فانعدمت الثقة بين الشركات، وأصبح لا مجال للتفاهم.
إن مطالب المزراعين محل عطفنا جميعا؛ فهم شركاء لنا ما لهم وعليهم ما علينا، وعلى الحكومة أن تبحث مطالبهم بواسطة لجان محايدة تقدر واجبات صاحب الرخصة والتزاماته على أسس عادلة ترضي الطرفين وعلى الحكومة أيضا أن تنظم التسويق، وتراقب مسألة الفرز، والبيع، وتأخذ الحسابات التي جاءت ضمن مطالب المزراعين، فهي ليست في أيدينا بل كانت ولا تزال تقوم بها الشركات الممولة في مماطلة وتسويف، ويمكن للحكومة أن تضع حدا لها بالطريقة التي تراها في صالح الشريكين.
الأثر الخارجي
عكس اتحاد الطلاب السودانيين في المملكة المتحدة في بيانهم الموقع باسم طه بعشر رئيس الاتحاد الواقع السيء للحادثة خارجيا خاصة أن الحكومة الوطنية ما زالت تتلمس خطواتها الأولى في الحكم جاء فيها: كان للحوادث المؤلمة التي جرت في كوستي وقع سيء في نفوسنا، وصدى بعيدا في الدوائر العالمية التي كانت تراقب السودان في عهده الجديد، وقد كانت خيبة الأمل عظيمة للحادبين على مستقبل السودان، وللشعوب المستعمرة التي تتطلع إلى الحكم الوطني، واتخذ منها الذين يكيدون لجمهورية السودان الوليدة مادة خصبة للتشهير؛ فشنت الصحافة البريطانية حملة مسعورة في صدر صفحاتها، وتحت العناوين المثيرة، وفي أسلوب ينبعث منه الحقد، وسوء القصد، وما كان في وسعنا أن نرد على ذلك الهجوم، وتلك الأسئلة الساخرة المدبرة التي نجابه بها في كل مكان؛ لأن بشاعة الفاجعة لم تترك سبيلا للتعليل، هذا وقد رجعنا إلى الأحداث المشابهة التي وقعت من قبل كحوادث الأول من مارس، وحوادث الجنوب، ومأساة كوبر، وتبين لنا أن هناك تقصيرا واضحا، وإهمالا ملاحظا من جانب المسؤولين في معالجة هذه المشاكل التي انتهت إلى نتائج وخيمة، وكنا نأمل أن تأخذ الحكومة من هذه الحوادث عبرة بالغة حتي لا تتكرر مرة ثانية بهذه الصورة، وإننا نناشد الحكومة أن تجري تحقيقا شاملا ودقيقا، وتسرع في إطلاع الرأي العام على الحقائق، وتحاسب نفسها أمام البرلمان حتى تحدد المسؤولية، وتتخذ الإجراءات اللازمة، ونرى- أيضا- أنه قد آن الأوان للحكومة الوطنية وقد انتهت من مشاكلنا السياسية أن تلتفت إلى مطالب الفئات المختلفة، وتعمل على حلها بالطرق الديمقراطية السليمة، وتحاول أن ترفع عن كاهل الهيئات الظلم الذي لحق بها، وأن تنتهج سياسة حكيمة بعيدة عن العنف والقوة حتى تحسم جذور مشاكل الشعب، وإننا مع ذلك نهيب بالشعب السوداني أن يتخذ الوسائل السلمية في أخذ حقوقه، وأن يتعاون مع حكومته الوطنية؛ حتى يجتاز هذه المرحلة الدقيقة، ويعم البلاد الاستقرار، والرخاء.
ردود الفعل السياسي
قررت إدارت النقابات بعد اجتماعها إعلان الإضراب العام لجميع العمال لمدة نصف ساعة داخل وخارج العاصمة احتجاجا على حوادث كوستي، وقد سافر وفد من اتحاد العمال إلى مدينة كوستي، ووفد آخر من هيئة الدفاع عن الحريات، وبعثت كذلك الأحزاب المؤتلفة وفدا من أعضائها.
في المقابل لم يجتمع مجلس الوزراء المسؤول عن سلامة المواطنين إلا بعد عدة أيام، كان وقتها النقابات والهئيات تخرج إلى العلن تنادى بإقالة الحكومة، وتكوين حكومة ديمقراطية تحترم حريات الناس، وتراعي حقوقهم.
الأزهرى يعتذر
في يوم 23ـ 2 ـ1956 اجتمع مجلس الوزراء للمرة الأولى بعد حوادث النيل الأبيض؛ لبحث تطورات أحداث كوستي، وبعث بالوزيرين أمين السيد، وزيادة أرباب إلى كوستي، وذهب إليها رئيس القضاء محمد أحمد أبو رنات، وعادوا في نفس اليوم، واعتذر السيد إسماعيل الأزهري عن الذهاب إلى كوستي بعدما طلب منه ذلك بوصفه وزيرا للداخلية، ورفض أن يكون أحد أعضاء الوفد الزائر إلى كوستي.
عند اجتماع مجلس الوزراء الذي تأخر كثيرا لمناقشة تطورات أحداث كوستي، والتي لاحت بوادرها منذ الأول من فبراير 1956 أضاع أعضاؤه معظم الوقت في الحديث عن الشيوعيين على أساس أنهم هم السبب في الحادثة، وذهب تفكير البعض إلى سن قانون (النشاط الهدام) عن طريق أمر مؤقت، ومعاملة المتظاهرين معاملة قاسية، لكن حتى نهاية الجلسة لم يصل المجلس إلى قرار.
معاملة سيئة
فيما يلي المعاملة السياسة للمتظاهرين التي دعا لها مجلس الوزراء في جلسته فقد طبقت بالفعل حيث تم نقل الأساتذة حسن الطاهر زروق، ومحمد السيد سلام، والوسيلة من كوستي إلى سجن مدني بعربة مكشوفة طوال سبع ساعات تحت حرارة الشمس، واتجهت السلطات إلى إبعاد بقية السجناء من كوستي إلى المحاجر، والسجون البعيدة.
التظاهرات تشتعل
أقامت الجبهة المعادية للاستعمار ليلة سياسية عن حوادث كوستي، وبعد انتهائها خرج المجتمعون في تظاهرات، وفي نفس الليلة اعتقل البوليس سبعة منهم، وفي تمام الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي مباشرة قدموا إلى محكمة إيجازية سريعة حيث قضى عليهم بالسجن شهرا وشهرين، وهم أحمد عثمان، وإسماعيل محمد أحمد، وحسن محمود، وعبد الرحمن عركي، وأرباب سعيد يوسف عبد الله، وعبد الرحيم جبارة.
فيما خرجت تظاهرة في الخرطوم قوامها نحو (200) شخص تهتف بسقوط قتلة المزراعين، وتحيي حياة كفاح المزارعين، والعمال، والشعب، وهتافات أخرى، من أمام نادي العمال حتى نادى الخريجين؛ حيث توزع المتظاهرون داخل النادي، واشتركوا مع الحاضرين في مهرجان الشباب، وكان البوليس يتابع التظاهرة، ثم هددهم باستعمال القوة، الأمر الذي لم يحدث.
صبيحة اليوم الثاني خرجت تظاهرات الطلاب عند الثانية ظهر الأربعاء؛ حيث خرج طلاب المعهد الفني، وخرج الطلبة الديمقراطيون من اتحاد كلية الخرطوم الجامعية، وكذلك طلبة كلية الأقباط، ومدرسة الخرطوم الثانوية، ومن أم درمان خرج طلبة مدرسة الصناعات، وساروا حتى وسط الخرطوم؛ حيث التقوا بزملائهم، وكان عددهم جميعا نحو (800)، وقد انضم إليهم عدد من الأفراد والجمهور، وفي ميدان التاكسي ظلت مواكب نقابات العمال تفد بعد الساعة الثانية ظهرا حاملة اللافتات تلبية لقرار اتحاد العمال القاضي بسير جميع العمال في تظاهرة بعد ساعات العمل الرسمية؛ استنكارا للظلم، والقتل، والإرهاب ضد مزارعي النيل الأبيض، وما هي إلا دقائق حتى اكتظ ميدان التاكسي، وامتلأت مكاتب اتحاد العمال بجماهير العمال، وعدد من المواطنين، وهتفت التظاهرات بسقوط الحكومة.
عريضة باستقالة الحكومة
تواصلت التظاهرات فبعد أن خرجت مواكب العمال التي قدرت في الخرطوم بسبعة آلاف، وفي عطبرة بأربعة آلاف، خرج في يوم 28 فبراير موكب طلبة العاصمة، الذي ضم الكلية الجامعية، والمدارس الثانوية، وكان أضخم حشد في تأريخ السودان؛ إذ قدر بنحو خمسة آلاف طالب، وطاف العاصمة، ثم إلى مجلس الوزراء مطالبا باستقالة الحكومة، وترددت هتافات داوية بسقوط الحكومة، تزامن ذلك مع خروج عمال السكة حديد المضربين بالخرطوم في تظاهرة صاخبة إلى مجلس الوزراء تهتف بسقوط الحكومة، وفى اليوم الثاني- أي يوم الإثنين 29 فبراير، وعند الثانية ظهرا خرج موكب المعلمين، والموظفين، الذي دعت له نقابات المدرسين، وعدد من نقابات الموظفين، وكان عددهم ضخما، تردد الهتافات، مستنكرة قتل المزراعين، وكبت الحريات، ومحملة الحكومة المسؤولية، وسلم الموكب رئاسة مجلس الوزراء عريضة تطالب باستقالة الحكومة.
الصحف تحتجب
قرر رؤساء تحرير الصحف أن تحتجب صحفهم عن الصدور يوم 28 فبراير 1956؛ احتجاجا على مأساة كوستي، التي أودت بحياة (195) من المواطنين نتيجة للإهمال، واحتجاجا على مسلك البوليس في معاملة الصحفيين، وذلك باعتقالهم، وتفتيشهم؛ بدعوى حملهم منشورات، كذلك تضامن متعهدو الصحف مع الصحفيين؛ فلم يعرضوا الصحف الخارجية، وكانت الترابيز صبيحة يوم 28 فبراير خالية تماما من الصحف.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة التيار