الخرطوم ــــ رندا عبد الله
كان الأمر أشبه بالمفارقة يخرج وزير النفط من تحت قبة البرلمان عاجزاً عن وضع الإجابة على المسألة المستعجلة التي قدمها النواب في ما يتعلق بأزمة الوقود، يرفض الرجل الإجابة على أسئلة الصحفيين تحت حجج استعجاله لحضور اجتماع في مجلس الوزراء الذي ما يزال الرجل محتفظاً بوجوده فيه رغم أن الأنباء تقول بعودة أزمة المشتقات البترولية لولاية الخرطوم مرة أخرى. بعدها كانت القبة على موعد مع وزير الخارجية إبراهيم غندور الذي لم يكتفِ بالإجابة على مسألة حلايب بتأكيد سودانيتها، وأنه لا تنازل عن شبر من الأرض، بل أضاف لها كشف ما يدور من مشكلات داخل وزارة الخارجية، مستنجداً برئيس البرلمان لحل المشكلات التي تحيط بوزارته. غندور خرج ساعتها متبوعاً بتصفيق النواب واستحسانهم لما قاله.
1
كانت ليلة واحدة تفصل ما بين إعفاء وزير الخارجية إبراهيم غندور من منصبه في ساعات متأخرة من مساء الخميس بعيد حديثٍ أدلى به أمام البرلمان يوم الأربعاء، صوّب خلاله بحدة تجاه البنك المركزي محملاً إياه مسؤولية ما وصفها الأوضاع المأساوية التي تعاني منها السفارات بالخارج، فمضت التكهنات حول أسباب الإقالة صوب انتقاداته تلك، بالطبع كان الموقف الحكومي بإقالة وزير الخارجية من منصبه مدخلاً للتساؤل حول المؤسسية في إدارة الشأن العام، السؤال حول المؤسسية يتجاوز النتيجة التي انتهى إليها مصير غندور الذي تولى حقيبة الخارجية في يونيو من العام (2015)، خلفاً للوزير السابق علي كرتي، وقد عرف الرجل على نطاق واسع بالدبلوماسية وعدم المصادمة، غير أن جدل إعفائه ربما لا يمكن من تجاوز تقييم علاقات السودان الخارجية خلال فترته إلى سؤال آخر يتعلق بمدى مؤسسية الرجل في عرض مشكلات وزاراته.
2
يرى البعض في استنجاد وزير الخارجية السابق بالبرلمان لحلحلة مشاكل وزارته سلوكا مجافيا للمؤسسية، وبالطبع يخلو من الدبلوماسية، بحجة أن القضايا التي ترتبط بالأمن القومي لا يمكن معالجتها في الهواء الطلق، بل إن الكثيرين انخرطوا في انتقادات كثيفة لموقف الرجل وإعلانه ما يمكن النظر إليه باعتباره إعلان إفلاس الدولة، ويرى البعض أن المؤسسية المتعارف عليها كانت تتطلب منه مناقشة مثل هذا النوع من القضايا مع مؤسسة الرئاسة دون اللجوء لمثل هذا النوع من الخيارات، التي تصور الدولة ومؤسساتها وكأن كل جزء فيها يعمل في اتجاه منعزل عن الجزء الآخر، بالطبع وقتها يشير البعض إلى التداخل بين النقابي والدبلوماسي في مطالب الوزير المقال، وهو ما جعل ذهابه في نهاية المطاف القرار الأكثر مؤسسية، بحسب ما يرى كثيرون.
3
واستنجد غندور في آخر كلمة له أمام المجلس الوطني برئيس وأعضاء البرلمان، للتدخل وحل مشكلة عدم صرف رواتب السفارات والبعثات الدبلوماسية في الخارج، التي قال إنهم يعيشون أوضاعا مأساوية بسبب البنك المركزي، وإن أسر السفراء تعاني في الخارج، منوهاً بأن البعثات لم تصرف رواتبها ولم تسدد إيجارات مقار البعثات لمدة (7) أشهر، وأوضح غندور أمام البرلمان أن عددا من الدبلوماسيين أخطروا وزارة الخارجية برغبتهم في العودة للبلاد بسبب الظروف التي يعيشونها وأسرهم، وفسر مراقبون تولي إبراهيم غندور لوزارة الخارجية قبل أكثر من عامين ونصف العام وقتها، بأنه كان بمثابة المكافأة بعد جهوده المبذولة في انتخابات 2015، حيث يتولى منصب نائب الرئيس للشؤون الحزبية، وشكلت إقالة الوزير مفاجأة رغم أن الكثيرين كانوا يتوقعونها، كرد فعل طبيعي للدولة عقب تلك التصريحات. كان البعض يمضي في تحليلاته لوضع الأزمة في إطار البعد الشخصي وأنها شخصانية أكثر من كونها مؤسسية.
4
لكن المحلل السياسي الرشيد محمد إبراهيم يستبعد البعد الشخصي للأزمة، وقال إنها أزمة سياسية من الدرجة الأولى متعلقة بصلاحيات وتوجهات السياسة الخارجية وكيفية إدارة ملف العلاقات الخارجية، لافتا إلى أن متأخرات السفارات نفسها تقع ضمن عملية إدارة السياسة الخارجية، لجهة أنها تمثل رأس الرمح فيها، وأشار إلى أن غندور تحفظ على منهج إدارة السياسة الخارجية وعبر عنه بالاستقالة عندما تصادمت رؤيته مع رؤية رئاسة الجمهورية، وتراجع عنها، بيد أنه من الواضح لم يتراجع عن رؤيته في إدارة العمل الخارجي، وبالتالي عندما يطرح القضايا بشكلها المعروف في المجلس الوطني، فإنه يمثل رؤية ووجهة نظر، وعلى الرغم من أنه لديه تفسير للمصارحة التي تمت في البرلمان، لكن رئاسة الجمهورية اعتبرتها نوعا من الانكشاف المعلوماتي الذي أضر بالأمن القومي السوداني، وهذا هو جوهر الأزمة ما يمكن من القول بأنه قال الكلام الصحيح ولكن في غير موضعه وغير بعيد عن مطالبة نقاد ينتمون إلى حزب المؤتمر الوطني بإقالة إما محافظ البنك المركزي حازم عبد القادر بسبب عجزه عن توفير استحقاقات السفارات، أو وزير الخارجية لوقوفه على رأس وزارة بلا فائدة، حسب وصفهم.
5
لم تخلُ التوقعات من إقالة وزير المالية أو محافظ المركزي، ربما لجهة أن تصريحات غندور التي سلط خلالها الضوء على أوضاع السفارات والبعثات بالخارج امتداد لعكس الأوضاع الاقتصادية العامة مع الأخذ في الاعتبار المطالبات المتزايدة بإعفاء الوزير والمحافظ اللذين يحملهما مراقبون مسؤولية تدهور الاقتصاد إلى مستوى كبير، وارتفاع تكلفة المعيشة إلى حد كبير، وانهيار العملة السودانية أمام الدولار، ولكن الإشارة تجدر إلى أن إعفاء غندور قد لا ينفصل من سياقات الحديث عن توتر علاقاته مع جهات عليا بالدولة، وما تردد عن تقديمه استقالته في يناير الماضي بسبب رفضه تقسيم ملفات وزارته وتوزيع مسؤولية بعضها من أمثال عوض أحمد الجاز وطه عثمان أو غيرهما، وهو الاتجاه القريب من تفسير استفهامات حول عدم إقالة الوزير الركابي والمحافظ حازم، كما أنه إلى جانب الإشارة لما تردد حول اتجاه الوفود الأمريكية إلى الالتقاء برئيس الوزراء القومي بعد رفع العقوبات، لكن في ظل حدوث خيار إقالة وزير المالية أو محافظ البنك المركزي فإن سؤالا آخر ستجد الحكومة نفسها في مواجهته، وهو السؤال المتعلق بمؤسسية الاختيار نفسها، وهو أمر يتجاوز الرجلين للغوص في تفاصيل حكومة الوفاق الوطني برمتها مع تزايد الأصوات المطالبة بتغييرها.
6
اللافت أن النائب البرلماني عيسى مصطفى محمد، الذي كان سببا في استدعاء غندور للبرلمان يوم الأربعاء، رفض في تصريح لـ(اليوم التالي) قرار الإقالة، معتبراً القرار غير موفق، مضيفاً “كان من المفترض أن يتم إعفاء من يقفون عقبة أمام وزارة الخارجية والدبلوماسية السودانية”، وقال نشهد لغندور بالمقدرة والعطاء، وأنه رجل المرحلة، وحقق نجاحات في وزارة الخارجية والعلاقات الخارجية ليس لها مثيل من قبل، وربما لا يكون لها مثيل من بعد، وأنه الوزير الوحيد الذي ينال إشادة البرلمان كلما دخل إليه، وهي إشادة نالها عن استحقاق وجدارة، وهو الأمر الذي يؤكد على أن ثمة حلقة مفقودة في ما يتعلق بالمؤسسية وإدارة الدولة، وهو أمر لا تخلو منه الخارجية نفسها في معادلة تعاطيها مع القرارات، سواء كان ذلك في عهد الوزير المقال أو في العهود السابقة له، ويمكن أن ينطبق حتى على طبيعة علاقتها بالبنك المركزي في ما يتعلق بالتحويلات المالية.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة اليوم التالي