القاهرة – صباح موسى
العاشر من رمضان ذكرى يوم رسمت نفحاته بحروف من نور في التاريخ العربي، كان يوما للنصر والمفخرة والانتماء، كان رمزا للوحدة العربية وتماسكها، لم تكن مصر وحدها في حربها على العدو الصهيوني، إذ كان التضامن العربي مثالاً جسَّد نموذجاً نحتاج إليه هذه الأيام.
سجل الشجعان
في يوم السبت السادس من أكتوبر عام 1973، الموافق العاشر من رمضان 1393هـ، والذي صادف سبت أمس الأول بدأت الحرب العربيّة الإسرائيليّة الرابعة، وقد شارك الرئيس البشير فيها، بمعيّة عدد كبير من الضباط السودانيين، الذين نقشوا بأحرف من نور أسماءهم في سجل الشجعان، النزال سبقته سنوات من التوتر والمناوشات في ما عرفت تاريخياً باسم (حرب الاستنزاف)، أو (حرب الألف يوم)، كما أطلق عليها بعض الإسرائيليين، والاستنزاف هو مصطلح أطلقه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر على الحرب التي بدأت أحداثها عندما تقدمت المدرعات الإسرائيلية صوب مدينة بور فؤاد المصرية، بهدف احتلالها يوم 1 يوليو 1967، فتصدّت لها قوة من الصاعقة المصرية بنجاح في معركة (رأس العش).
نماذج سودانية
بحثنا عن نماذج سودانية شاركت مصر في حربها ضد الكيان الإسرائيلي، والتقينا المقدّم صلاح عبد العال مبروك قبل رحيله، وهو أحد الذين شاركوا الجيش المصري في حرب الاستنزاف، تحدث معنا عن ذكرياته في هذه الفترة، واجتهد في أن يملكنا عصارة المرحلة التي مثلت نموذجاً فريداً للوحدة العربية والنضال العربي، وتاريخاً ذهبياً للعلاقات بين البلدين، عبد العال من منطقة النيل الأزرق قال لـ(اليوم التالي): جدّي كان ضابطاً بالجيش المصري، وأنجب عبد العال مبروك وعبد الله مبروك بالسودان، فكان جدي سودانياً متزوجاً من مصرية أنجب منها محمد وسيد وست البرين من المنوفية، ولدي أولاد عمي مباشرة مصريون، كما أن زوجتي أصولها مصرية. كنت ضابطاً في القوات المسلحة السودانية، ومن الدفعة الثانية التي ذهبت إلى مصر أيام حرب الاستنزاف، وكان قائدنا اسمه بشير النقر، وتعاقب على قيادة الفرقة السادسة في مصر محمد فائق البوريني، وأحمد حلمي ثم تولى قيادة الجيش الثالث الفريق عبد القادر حسن في عام 1969، وكنا في منطقة (كسفريت)، منطقة فايد الملاصقة لخط بارليف، كنت وقتها برتبة رائد، وتعرضنا لغارات إسرائيلية في ذلك الحين، كانت هناك فرق متتالية من الجيش السوداني تذهب إلى مصر، وكانت الفرقة الأولى بقيادة محمّد عبد القادر، واشتركت في (رأس العش)، وبعد ذلك تعاقبت الدفعات أيام الحرب، تأخذ الدفعة في مصر قرابة السنة ثم تعود، ومشاركة سودانيين مع مصريين أيام الحرب كانت شيئا جيداً جداً، لأن السودان ومصر بلد واحد، وتعاقبت الدفعات حتى حدثت الحرب، وتحدث لنا عن ذكرياته في هذه الفترة قائلاً: قضيت (11) شهراً متواصلة في منطقة (كسفريت)، وكنا حريصين جداً على مشاركة الإخوة المصريين في الحرب، ولكن يشاء الحظ أن الدفعة التي بعدنا هي التي اشتركت في أكتوبر، أما أنا فحضرت حرب الاستنزاف، وكانت القوّات المصرية فيها تجهّز لكيفية استرداد الأرض، وكان جمال عبد الناصر – رحمه الله – قد قال في بيان له يوم 30 مارس من عام 1969: “سنسترد أرضنا شبراً فشبراً”.
* يا ملهم الأجيال يا معنى الكفاح
عبد العال والى نثر حكاياته لـ(اليوم التالي) بقوله: كانت هناك قوات كويتيّة وجزائريّة وسودانيّة موجودة مع القوّات المصريّة، وأتذكر عندما قال عبد الناصر هذه المقولة، كانت هناك منافسة بين القوات من الناحية الفنية، وكان هناك نشيد يردد هذه المقولة كتبته أنا، وأقول فيه: “يا ملهم الأجيال يا معنى الكفاح.. يا بارقاً في شرق والنصر لاح.. قسماً بشعبي بالدموع وبالجراح.. وبكل حرّ قد تشرّد في البطاح.. سنخط بالدم في كتاب الخلد سطراً.. وغداً سنحرّر أرضنا شبراً فشبراً…”، وكان هذا النشيد يُغنّى في إذاعة ركن السودان.
* حكاية عمّ النور
يمضي محدثي بالقول: كنا أيام عبد الناصر نتحدث عن الوحدة العربية، وكان ناصر أملاً لكلّ الشعب والعسكريين بالذات، وتابع عبد العال: كان أخونا النور الطيّب غبوش من زملائي بالدفعة، وعندما أتى جمال عبد الناصر لزيارة الوحدات السودانية في عام 1969، وأطلّ علينا بقامته النبيلة، بكى كلّ فرد في القوات المسلحة السودانية، وسلم ناصر على زميلنا غبّوش، وأمسك يده مدّة طويلة، وعندما سأله عن اسمه، قال له: “غبوش يا سيدي الرئيس.. أنا اسمي النور الطيب غبوش، وكل الأولاد بالجيش يسمّوني (عمّ النور)، فياريت تقول لي أنت أيضا (يا عمّ النور)”، فقال له: “حاضر (يا عم النور)”، فقال له النور: “منذ أن تجندت في الجيش منذ الأربعينيات، وأنا أحلم بأن أشارك في الحرب ضد إسرائيل، وأرجو أن تعلن الحرب.. الحي حي، والميت ميّت”، وناصر – كما يسترسل عبد العال – أخذ يده برفق وقال له: “حاضر يا (عمّ النور) إن شاء لله سيحدث، وسنسترد أرضنا شبراً فشبراً”، ووواصل عبد العال عندما وصلنا مصر كنا نأخذ تعييناتنا من معسكر اسمه معسكر (حبيب الله)، وهو قريب من منطقة كسفريت، فسألنا: “من أين أتى هذا الاسم”، فهو اسم شائع بالسودان أكثر من أنه مصري، فعرفنا أن (حبيب الله) هذا كان ضابطاً سودانياً، استشهد في مدفعه في حرب 1956، ولذلك خلّدوه، وهذا دليل على شعور كان وسيظلّ قوياً جداً، لأنّنا أقرب شعبين لبعضنا البعض، وبيننا علاقات متينة، مضيفا كنا عايشين كوحدة واحدة، وأذكر من الضباط المصريين ضابط إشارة يدعى مصطفى علّام، وحسن الخطيب (مدرّعات)، وكانت علاقتنا قوية جداً، وكان قائد الفرقة اسمه خيري حسين، بعده أحمد حلمي، وعبد القادر حسن، وكانوا دائماً على إتصال بالقوّات السودانيّة.. لا أعلم من هو الحي فيهم ومن توفي الآن، لكن جميعهم، بروح واحدة، كانوا يريدون أن يحرّروا الأرض، وكنا دائماً نتناقش حول القضيّة الفلسطينيّة، وكيف نضع يدنا مع بعض، حتى نحرّر فلسطين، وكنا نتدرّب داخل القوات المسلحة المصرية كأنّنا جيش واحد، وكانت هناك عمليّات تتم، ولكننا لم نشارك فيها، كان هناك زملاء لنا يقطعون البحيرات لتنفيذ عمليّات ويعودون في إطار حرب الاستنزاف والتي كانت من ناحية فنيّة لاستنزاف وإزعاج إسرائيل، وإجبارها على أن تعرف أن الشعب المصري بالرغم من أيّ شيء ثابت، وبالرغم من الهزيمة هو ثابت.
* أيام الوزارة
وقال عبد العال: في عام 1974 كنت أوّل وزير لشؤون مصر في السودان لمدة عامين، في عصر الرئيسين السادات ونميري، وكان نظيري في مصر الدكتور عثمان بدران، والسادات كان رجلاً يحسب الحسابات بدقة، وكان مؤمنا بالوحدة بين مصر والسودان، وقتها شكلنا (8) لجان لتدبير العمل السياسي بيننا، وأذكر أن لجنة كانت برئاسة ممدوح سالم، ولجنة برئاسة عبد العزيز حجازي، وعدد من الوزراء مثل محمد حسين الذهبي، ويوسف السباعي، حتى نضع أسسا لربط البلدين، وكنا نجتمع مرّة في مصر ومرّة في السودان في إطار هذه اللجنة التكاملية، وعملنا عملاً كبير وقتها، وكنت أذهب إلى مصر ربما كل أسبوع تقريباً.
بكائية على قبر ناصر
وعن عبد الناصر قال عبد العال: لم نبكِ أحداً بمثل الدمع الذي ذرفناه على ناصر، كان يمثل الشباب والوحدة الوطنية والعربية وكان رمزاً، وعندما توفي ذهبنا بوفد كبير برئاسة نميري، حيث كان يجهش هو الآخر بكاءً، وأتذكر أنّنا ونحن في طريقنا للاتحاد الاشتراكي بالقاهرة، وجدنا رجلاً كبيراً في السن يبكي، وقال مخاطبا الرئيس نميري: “يا جعفر.. الملك هيرجع”، وكان هذا تفكير الكثير من الناس وقتها، ويضيف: كنت دفعة (11) في الجيش، والبشير كان دفعة (18)، كنت في الإشارة وهو في المظلات، وكانت بيننا علاقة، والكل يعرفه أنّه سوداني أصيل مائه في المائة.. طبعاً الرئيس البشير عندما كان يراني كان يأتي ويسلم عليّ ويقول لي: “سيادتك”، وهو رئيس! وذلك لأنّني أقدم منه، فالبشير من هذه الناحية رجل أصيل، وهو يمثل كل السودانيين، فربّنا يوفقه.
وبكائية على التكامل
عبد العال أنهى حديثه معنا بالقول إن التكامل بين مصر والسودان تراجع كثيراً جداً بعد الرئيسين السادات ونميري، فقد كانا حريصين على تحقيق التكامل بين البلدين، وكان عملنا بتوجيه مباشر منهما، وكل سنة كان السادات ونميري يجتمعان لتقييم ما تمّ من عمل، لدرجة أتذكر معها أنّنا كنّا في دورة تدريبية بألمانيا، وكنا نفطر كطلبة أجانب، والميجر الألماني سأل الضابط المصري: “أين تفضلون الجلوس؟”، فقال له: “هل هناك سودانيون؟”، فردّ بالإيجاب، ليقول له الضابط المصري: “إذن هذا مكاننا بجوارهم”، فهكذا كانت العلاقة، وهكذا ينبغي أن تكون.
لتنتهي حكاية المقدم عبد العال مبروك كأحد الأبطال السودانين الذين شاركوا في رسم ملحمة البطولة المصرية، ولكن العلاقات بين مصر والسودان لن تنتهي وستظل باقية خالدة بخلود النيل وإرادة شعب وادي النيل، فمهما كانت الخلافات بين البلدين فمصيرها دائما كسحب الصيف، فالتاريخ والروابط والدم والبطولات التي جمعت الشعبين ستظل نبراسا مضيئا مهما كانت العتمة.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة اليوم التالي