الخرطوم – الزين عثمان
بجلبابه ناصع البياض يجلس على يمين الصحافي عادل كلر (اليساري) المسبوق بتوصيف الواحد الصحيح.. عم صديق يسرد قصة عمرها سبعة وثمانون عاما وما زال بطلها يتجول في الأسواق ينتسم ريحة التراب ويغازل الأمنيات في إقامة مجتمع اشتراكي يتساوى فيه الجميع، ينادي بتغيير النظام حتى لا تسقط الرأسمالية بكل قبحها على أجساد المعدمين والفقراء. ساعتها كان عادل كلر يجاهد في الابتعاد بمحاوره عن السياسة التي ظلت لصيقة بالضيف لما يزيد عن ستين عاماً سلبته فيها حريته وأبعدته عن أسرته لكنه ظل مثل كل الشيوعيين السودانيين يوزع ابتساماته كلما وجد الفرصة سانحة.
عقب إبحارها في العوالم الخفية لخليفة الترابي إبراهيم السنوسي الأسبوع الفائت كانت خيمة الصحفيين وفي برنامجها بفندق ريجنسي تفتح صفحات حياة الشيوعي صديق يوسف وتترك له المساحة ليتجول في عوالمه بذاكرة متقدة.
1
في فبراير من العام 1931 كانت أم درمان تستقبل نجما سودانياً جديداً، ساعتها لم يكن يدور بخلد والده القاضي الشرعي أن هذا الطفل سيكون حاضراً في اللجنة المركزية لأحد أعرق الأحزاب الشيوعية في المنطقة وفي بلاد تجعل من الشيوعي (ملحداً) وإن اصطف الإسلاميون خلفه في برش الصلاة.. يقول يوسف أنه في بداية عمره تنقل بين عدة مدن سودانية بسبب مهنة والده وهو ما جعله يبدأ الدراسة في مدينة ويختمها في أخرى إلى أن وصل إلى المرحلة الثانوية حيث انخرط في مدرسة وادي سيدنا بأم درمان قبل أن يبدأ دراسة الهندسة في المعهد الفني ويكملها في الولايات المتحدة الأمريكية ويصبح الرجل المسبوق بتوصيف المهندس.
2
رغم أن الرجل جاب معظم أنحاء السودان إلا أنه ظل مفتوناً مثل رفاقه بالحبيبة أم درمان التي يرى فيها صورة الوطن المصغر وينفي أن يتم نسبها لأي من الاتجاهات السياسية أو العرقية فأم درمان كانت وستظل مدينة كل السودانيين لدرجة أنه حين جاء السؤال عن الخرطوم قال إنهم كأمدرمانيين ينظرون لسكانها بأنهم أجانب، بل إن يوسف لا يرى في العبارة الخاصة بالانضمام لمنتدي أبناء أم درمان تطرفاً وهي التي تقول (يعرف الأمدرماني بأنه ذلك الكائن المقيم في المدينة قبل الأول من يناير للعام 1956) ويردف أن كل أول في هذه البلاد انطلق في الأساس من البقعة فأول طالبة جامعية كانت أمدرمانية وأول سيدة مثلت في البرلمان كانت من أم درمان وأصل الفن في أم درمان والكرة في أم درمان وهو ما جعل منها حاضنة رئيسة لكل اختلافات السودانيين وتنوعهم.
3
يحكي عم صديق تفاصيل زواجه من ابنة عمه في ستينيات القرن الماضي حين يقول إنه في ذلك التوقيت كانت معظم الزيجات تتم في إطار الأسرة وأضاف ضاحكاً: “لم يكن هناك مجال لرؤية فتيات أخريات وما كان في شارع نيل”، وقال إن ظروف إيقافه من العمل في ذلك الوقت “ساهمت في توفير نفقات الزواج حيث كان الموقوف يصرف نصف راتب ولما انتهت لجنة التحقيق إلى أنني لم أكن مذنباً تمت إعادة الراتب كله فحصلت على مرتب ثلاثة أشهر لكن حرمت من قضاء شهر العسل لأن تكليفاً من العمل قضى بذهابي إلى كردفان من أجل توصيل كهرباء أم روابة وكادوقلي والنهود”..
يبدو يوسف ممتناً لزوجته وصبرها عليه رغم أنها لا علاقة لها بالسياسة ويؤكد أنه لولا التزامها لما وصل أبناؤه لما وصلوا إليه الان ويقول: “أنا مدين لها بالشكر على كل ما قدمت”.
4
عم صديق وكونه شيوعياً من أسرة قد تبدو لدى الكثيرين في سياق الطرف الآخر من المعادلة يحكي ما اعتبرها طرفة حيث أنه أثناء ما كان مع والده في سوق أم درمان أوقفهما سائل وحين منحه والده بعض النقود دعا له قائلا: “ربنا يخلي ليك وليداتك فرد والده هو ستالين خلى لي ولد؟”.. لكن كونه في الضفة الآخر من نهر السياسة السودانية المحتقن فإنه لم يعن أن ينطلق من نقطة العداء للإسلاميين بل يحكي أنه في إحدى الفترات كان مسجدهم ملتقى لاجتماعات الإسلاميين بزعامة الراحل الترابي وأنه كان يقوم بواجب ضيافتهم بالشاي والقهوة في الفترة بين المغرب والعشاء وسط ضحكاته وقوله إنه يعلم بأن ما يجري اجتماع وليس جلسة للتلاوة أو التفاكر في شؤون الدين..
في هذا السياق يحكي الباشمهندس أن الشيخ الترابي قبل وفاته بأسبوع كان قد زاره في المنزل للتفاكر معه في شأن الحوار الوطني وأنه بعد انتهاء الاجتماع عمل (حركات الشيوعيين) بأن كتب ما جرى بينه والشيخ وعرضه في اجتماع كانت نتيجته الخروج بحوار حوله في صحيفة (الميدان) لكن بعد وفاة الشيخ الترابي أصدروا قرارهم بعدم النشر.
في الخيمة كان صديق يوسف يبدي سعادته بأن شباب المؤتمر الشعبي كانوا قد أقاموا وقفة تطالب بإطلاق سراحه من المعتقل اختاروا لها عنوان (وقفة العم صديق) وهي ما كان لها أثر إيجابي عليه باعتبار أنها تأتي من أعدائه في المشهد السياسي وليس ممن يشاركونه الخيار الواحد.
5
يحكي عم صديق تفاصيل حياته مع الاعتقالات التي ابتدرها في العام 1950 حين كان طالباً في مدرسة وادي سيدنا حين أقاموا مظاهرة للتضامن مع طلاب المؤتمر وصلوا بها لأم درمان وتحديداً نادي الخريجين وحملوا الزعيم الأزهري على أعناقهم وخرجوا هاتفين بسقوط الاستعمار وهو ما أدى في نهاية المطاف لتوقيفهم من قبل الشرطة حيث تم الحكم على أزهري بثلاثة شهور سجنا بينما تمت محاكمتهم كطلاب بغرامات (جنيهين) على كل طالب تم دفعها من قبل تجار سوق أم درمان بعدها بدأت سيرته مع الاعتقالات التي تجاوزت الاثني عشر عاماً جزء منها كان حوالي أسبوعين في حقبة نوفمبر وخمس سنوات في العهد المايوي وست سنوات في عهد يوليو.. يقول تعليقاً على الاعتقال إن اعتقال السياسي ليس عقوبة ضد السياسي وإنما عقوبة ضد أسرته خصوصاً الأطفال الصغار.
قال صديق حول ما جرى في أحداث يوليو إن الحزب الشيوعي كمؤسسة لم يقر قرار الانقلاب على نظام نميري، وإن كل ما حدث هو قرار اتخذه العسكريون الشيوعيون بضرورة إطاحة نميري وحين نجح الانقلاب لم يكن في مقدورهم رفضه وإعادة السلطة لنميري. يقول إنه وقتها كان معتقلاً في سجن كوبر وأثناء ما كانوا يمارسون (قيم شطرنج) أعلنت الإذاعة عن “بيان هام من هاشم العطا فترقبوه وكان بيان الثورة الذي تحول كوبر بعده لساحة احتفال كبيرة فيما تساءل البعض عن توقيت إطلاق سراحنا.. في اليوم الثاني كانت الإذاعة تعلن عبر بيان آخر لهاشم إطلاق سراحنا عقب إعلانه في يوم 20 يوليو بعدها قمت بالذهاب لمكان عملي في الكهرباء فأخبرني قلندر بالاستعداد للسفر لبورتسودان لإدارة مشروع لتوفير المياه من خور أربعات فقلت له اتركني لأستمتع بالثورة فوافق على إعطائي أسبوعا لكن في اليوم الثالث عاد نميري للقصر وعدت أنا لسجن كوبر”.
6
بالطبع لا يمكن أن يكون رجل مثل صديق يوسف موجودا في مؤانسة من دون أن تأتي حكاية ما حدث في الديمقراطية الثانية والقرار الذي انتهى بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان.. يطالب صديق يوسف حزب الأمة بضرورة الاعتذار عما حدث ليلتها والاعتراف بسلوكه غير الديمقراطي وتجاوزه لقرارات القضاء مما أدى لاستقالة رئيس هيئة القضاء وذلك عقب اعتراف صاحب المداخلة في المعهد العلمي بأنه لم يكن ينتمي ساعتها للحزب الشيوعي.. يسرد تداعيات ما حدث بعدها في ظل تلك المعركة التي كان هدفها الرئيس هو الوقوف أمام التمدد الخاص بتيارات اليسار عقب أكتوبر من قبل القوى الأخرى. وهنا يحكي تفاصيل مظاهرة انطلقت من مسجد الأنصار بود نوباوي و”كان هدفها الرئيس مهاجمة المركز العام للحزب الشيوعي في شارع الأربعين ولكنها توقفت في دار الزعيم الأزهري الذي خاطبها وأخبر المحتجين أن هناك شيوعيين قريبون لينا في بيت المال مما أدى للهجوم على الدار وخضنا معركة انتهت بأن كسرت رجلي”.. يواصل دون أن يتوقف عن ابتسامته.
7
يؤكد أنه ليس ثمة تناقض بين الإسلام والشيوعية وأن الأمر محاولة للحرب الدائرة ضد العدالة الاجتماعية، قال إنه واثناء ذهابه للحج برفقة زوجته تمت المناداة على اسمه بواسطة المايكرفون وقال: “فقمت بتسليمها كل متعلقاتي وقلت ليها الجماعة دايرني لكن لما طلعت برة لقيت أهلي مرسلين لي حاجات”.. ينفي صديق يوسف سيطرة الشيوخ على اللجنة المركزية للحزب الشيوعي مثلما ينفي تماماً وجود صراع بينهم والشباب، مؤكدا أن “القدرة على الأداء لا ترتبط بالعمر وباب اللجنة مفتوح امام الجميع بل إن هناك اعضاء في اللجنة أعمارهم اقل من 40 سنة” بالطبع يرى يوسف أن من حق الجيل الحالي اختيار ما يناسبه من لبس أما بالنسبة لهم فهم “خلاص بقوا ناس جلاليب وطواقي”.. يقول صديق ضاحكاً إنه يتناول وجبة واحدة في اليوم و”عندنا جماعة في البيت بنتظروني متين اقوم من الصينية عشان يلقوا راحتهم ويقولوا الحمد لله الزول الما بياكل دا قام شان نستمتع” غادر المنصة بعدها تاركاً المايكرفون ليغني الفنان أبو بكر سيد أحمد منهياً مؤانسة ممتعة وجالبة للطرب كان بطلها العم صديق يوسف.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة اليوم التالي