السودان الان

تظهر الخارجية الروسية كما لو أنها تعوزها المعرفة الكافية بالسودان وطبيعة تكوينه السياسي.. فهل يلفق لافروف دبلوماسياً لأجل عيون الأسد؟ “تصورات موسكو الجديدة”

مصدر الخبر / صحيفة اليوم التالي

الخرطوم – حاتم إلياس
فى المؤتمر الصحفي الذي جمع وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف بنظيره الأمريكي ريكس تريلسون، حملت الأخبار تصريحا يتعلق بـ”صفقة أبرمت بين الحكومتين الروسية والأمريكية لإقناع الرئيس البشير بقبول انفصال جنوب السودان مقابل تجميد ملف المحكمة الجنائية الدولية”، وقال سيرجي لافروف إن الحكومة الأمريكية طلبت من روسيا التدخل لإقناع الرئيس البشير بهذه الصفقة، أي قبوله بنشوء دولة جديدة مقتطعة من السودان، مقابل تحييد الولايات المتحدة الأمريكية وجعلها تغض النظر عن مطالبتها الملحة السابقة بمحاكمة البشير أمام المحمة الجنائية.
بالنسبة لوزير الخارجية إبراهيم غندور، فإن فصل الجنوب كان في الأساس مؤامرة (لم يسم أطرافها) لكن الحكومة قبلت بها، وعلى أصحابها رؤية نتائج تلك المؤامرة ويتحملون وزرها كاملاً.
وأوضح غندور في تصريحات صحفية أمس أن “الرئيس البشير لم يوافق في يوم من الأيام على انفصال جنوب السودان، لكنه أكد قبوله بنتائج الاستفتاء التزاماً باتفاقية السلام الشامل”. لافتاً إلى أن وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، لم يقل إن “إدارة أوباما طالبت حكومة عمر البشير الموافقة علي تقسيم السودان إلى جزئين لمعالجة مشكلتها مقابل عدم تقديمه الي المحكمة الجنائية الدولية”.
وأضاف، “إنما قال الأمريكان أشاروا إلينا أن القصد من المحكمة الجنائية هو الضغط على الرئيس البشير كي لا يتراجع عن قبول فصل جنوب السودان”. وزاد، “ما عناه لافروف أنها كانت وسيلة للضغط علي السودان كي لايتراجع”.
المتابع لتطور الأحداث في السودان بعد اتفاقية نيفاشا إلى رحيل دكتور جون قرنق قائد الحركة الشعبية إلى لحظة إعلان انفصال جنوب السودان يعرف أن خيار انفصال جنوب السودان الذي تمَّ بإجماع كاسح من مواطني جنوب السودان يعرف تماماً أنه لم يكن هنالك خيار أمام الرئيس البشير حتى يستخدم ورقة رفض انفصال الجنوب لتحقيق مكاسب دولية في هذا الاتجاه؛ لأن المد الجنوبي الشعبي المرتفع لأقصى درجة في مطلب انفصاله لم يكن يتيح مجالاً للالتفاف عليه من أي ناحية، وهو أمر لم يكن يقع في الضفة الأخرى التي يقع فيها شعب جنوب السودان، بل كان مواطنو البشير أنفسهم في الشمال قد بدأوا في تهيئة أنفسهم بشكل كامل، إن لم يكن غالبيتهم يستعجلون وقوع هذا الحدث الذي يقسم البلاد إلى شطرين؛ فلم تكن هنالك حماسة وسط القطاعات الشعبية يمكن أن تعتمد عليها السلطة من أجل مماطلة الجنوبيين؛ فقد كانت الحروب الطويلة وتاريخ انعدام الثقة الذي عززته أحداث الثاني من أغسطس والتي سميت بـ(أحداث الاثنين الأسود) بعد وفاة د. جون قرنق في حادثة تحطم الطائرة، كانت هذه الأحداث بمثابة المشهد الأخير لتأكيد قنوط ويأس قطاعات شعبية واسعة من إمكانية التئام المستقبل.
عليه، كان المشهد الداخلي في السودان مهيأ بشكل كامل في مستوييه الوجداني والسياسي لفض هذه العلاقة باتجاه ذهاب الجنوبيين.
أيّاً كانت قيمة هذا الكشف الروسي العلني من وزير خارجيتها، فهو لا يعكس إلا احتمالات محدودة هنا، إما أنه حدث فعلاً وتم إبرام هذا الوعد بتحييد الولايات المتحدة الأمريكية وإبعادها عن ملف الجنائية، مقابل القبول بفصل جنوب السودان، وهو في واقع الأمر إن حدث ينم عن ذكاء سياسي سوداني لمؤسسة الرئاسة وطواقم إدراة الشأن السياسي الخارجي في حكومة السودان، وذلك عبر استخدامهم لملف لا يملكون إدارة التأثير عليه في ذلك الوقت، وهو إمكانية منع انفصال جنوب السودان, حتى قبل اتفاقية نيفاشا ووسط الإجراءات التمهيدية باتجاه إبرام اتفاقية نيفاشا كان التجمع الوطني الديمقراطي في مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية عام (1995) قد وصل إلى اتفاق حول حق تقرير مصير جنوب السودان ولم تكن ردة فعل الحكومة وقتها، وهي في وسط صراعها السياسي والعسكري ضد التجمع الوطني الديمقراطي والحركة الشعبية قد استخدمت بند حق تقرير المصير الذى أقره مؤتمر أسمرا كوسيلة للتشنيع بمعارضيها في التجمع، بحجة مسهم بالثوابت الوطنية؛ فقبلها كان قد أقر هذا الحق في الاتفاقية التي سميت باتفاقية (الخرطوم للسلام) عام 1997 مع الفصيل المنشق من الحركة الشعبية بقيادة رياك مشار ولام أكول، كان حق تقرير المصير حاضرًا في هذه الاتفاقية، مما يؤكد أن الحكومة لم تكن خالية الذهن السياسي إزاء تجربة حدوثه عمليًّا في المستقبل.
الأمر الآخر في تحليل الدوافع من وراء تصريحات سيرجي لافروف هو التحولات التي حدثت في موقف السودان من النظام السوري والأحداث الجارية هناك، وتبني الحكومة السودانية بشكل علني موقفا داعما لدول الخليج وموقفها مما يجري في سوريا، وهو أمر يحسب للعلاقات الخارجية السودانية بغض النظر عن الجدل حول نسبة الموقف للخطأ أو الصواب ضمن خطوط التجاذب والتناحر بين الأفكار والأيدلوجيات التي تدعي كلها شرعية الموقف مما يحدث هناك وتقسيم التحالفات والمواقف وفق ذلك. وهذا التصريح الروسي إن كان يعكس عدم الرضا الروسي من موقف حكومة السودان الحالي من الأحداث في سوريا، ووقوفها إلى جانب دول الخليج في رؤيتها لكيفية حل الأزمة السورية بذهاب الأسد وحكومته، ودعمها لقوات المعارضة المعتدلة سياسيًّا وماديًا في مواجهتها لنظام الأسد؛ فإن ذلك يعني ميلادا جديدا لوجود إقليمي مؤثر للسودان في دعم وترجيح الموازنات الإقليمية، وبذلك تصبح الخرطوم بعد تصريح سيرجي لافروف مركزًا إقليميًا مؤثرًا يوضع في الاعتبار.
أما الوجهة الأخيرة لتحليل دوافع هذا التصريح الروسي فهي تتعلق بأن الخارجية الروسية تعوزها المعرفة الكافية بالسودان وبعض دول أفريقيا والشرق الأوسط وطبيعة تكوين السودان السياسي والاجتماعي والماكينزمات المختلفة التي تساهم فى صناعة القرار السياسي فيه، وربما يشمل نقصان المعرفة الروسية هذا دولا أخرى في أفريقيا؛ وربما يرجع تفسير ذلك إلى أن التاريخ الروسي (الاتحاد السوفييتي السابق) بنى علاقاته مع هذه الدول إبان الحرب الباردة، بناءً على صيغ ايدلوجية اشتراكية واقعة تحت تأثير صراعات الحرب الباردة بين القطبين، الغربي الرأسمالي ودول المنظومة الاشتراكية. كانت عقلية العلاقات الخارجية للاتحاد السوفييتي السابق واقعة بشكل كامل تحت المتطلبات الملحة التي يفرضها في ذلك المناخ الدولي، روح التنافس العسكري مع الغرب وصراعات البروبقاندا السياسية بين القطبين وصراعهما على تحديد مناطق النفوذ الدولي الإقليمي وفقاً لذلك, ثم جاء انهيار التجربة الاشتراكية لتجد السياسة الخارجية لروسيا نفسها، وفي شروط دولية جديدة تحاول فيها روسيا تقديم نفسها كدولة ذات تأثير عالمي في عالم اليوم وهي بالفعل كذلك؛ دولة تبني من جديد تصوراتها وسياساتها للعلاقات الخارجية الدولية وقياس نفوذها وتأثيرها؛ لكن يبدو أنها معرفة غير كافية إطلاقًا، تكشفها، بوضوح، مثل هذه التصريحات.

يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة اليوم التالي

عن مصدر الخبر

صحيفة اليوم التالي