تقرير: اشراقة الحلو
لم تكن هي زيارتي الأولى للولاية الشمالية لكنها الأولى من نوعها والأكثر إثارة ودهشة، بل أن دهشتي خرجت عن المألوف، كنت أعلم أننا نمتلك أثراً حضارياً وتراثاً وآثاراً ممتدة منذ عصور ضاربة في التاريخ، لكن كما يقولون من رأى ليس كمن سمع، انطلقت رحلتنا التي جاءت ضمن مبادرة إعلامية أطلق عليها (السودان أصل الحضارة) للترويج والتعريف بالآثار السودانية، تحركت البصات التي ضمت إعلاميين ومهتمين وفنانين، بالإضافة الى شرطة السياحة عند الصباح الباكر، وكنت خالية الذهن عما سنشاهده هناك، الجو كان حاراً ،الصحراء مترامية على مد البصر خالية من الحياة أو هكذا تبدو، إلا من بعض الشجيرات هنا وهناك، الأجواء تبدو مختلفة تماماً، اختلطت فيها البداوة بحضارة سادت في هذه المناطق ثم اندثرت، مخلفة آثاراً تحكي عنها وتكشف عن مكنون من عاشوا في تلك الأزمان من ملوك وعظماء، في داخل البص ساد هدوء ممزوج بالترقب خاصة للذين يزورون تلك المناطق للمرة الأولى.
كسر الصمت:
سرعان ما تحول هذا الهدوء الى حالة ضجيج عندما بدأ أعضاء المبادرة في التعارف كسراً للصمت وانشغالاً عن مشقة السفر، طوت البصات المسافات الطوال الى أن بلغنا مشارف محلية الدبة، عند الملتقى كان الاسقبال حاشداً وكان في مقدمة المستقبلين وزير الصناعة والاستثمار والسياحة جعفر عبد المجيد، ومعتمد محلية الدبة العميد أحمد ابوزيد وعدد من القيادات، ورحب المعتمد بالوفد الزائر للولاية الشمالية وقال: إن الزيارة جاءت في توقيت غير عادي ومكان غير عادي، ووصفه باليوم المشهود للإعلان للعالم اجمع عن نهضة انتظمت كل الولاية، وقال: المحلية استقبلت العديد من الاستثمارات التي جاءت من مستثمرين عرب وأجانب وخيرين بجهد ومثابرة من وزارة الاستثمار والسياحة، مؤكداً أن السودان أرض الحضارات، وقال إن الولاية بما تحتويه من أراضٍ خصبة وطقس ونيل ومياه جوفية تؤهلها لإنتاج الخيرات التي يستفيد منها السودان والوطن العربي، وزير الاستثمار والسياحة جعفر عبد المجيد بدا متحمساً لزيارة الوفد الإعلامي، وأشار الى سعيهم لجعل الولاية الشمالية قبلة لكل السواح بما تحويه من تاريخ وحضارات بالإضافة الى السياحة الدينية والعلاجية.
جداريات الكرو:
ومن ثم اتجه الوفد نحو منطقة الكرو بمحلية مروي، رغم ارتفاع درجات الحرارة، إلا أن الاجواء كانت مفعمة بالإثارة خاصة عندما نزلنا الى داخل مدافن الملوك الكوشيين الأوائل، المكان يبدو مهيباً يشعرك بهيبة وعظمة من عاشوا في تلك الحقب، واحتوى المدفن على جداريات قمة في الروعة تصور محاسبة الملك في العالم الآخر، حدثنا بروفيسور عباس زروق عن الموقع، وقال إنه شهد تردياً خلال المائة سنة الماضية، ولكن قبل عامين وبدعم من دولة قطر بدأت جامعة دنقلا ممثلة في قسم الآثار بمحاولات لإعادة ترميمه والتنقيب والتأهيل.. ويوجد في نفس الموقع معبد جنائزي يحتوي على غرفتين يحضر إليه الجثمان وتتم طقوس معينة قبل أن ينقل الى المدفن.
الجبل المقدس:
جبل البركل الذي كتب عنه ابو التاريخ هيردوت أنه الجبل المقدس، والمكان الذي تتجمع فيه الآلهة، تحت سفحه يرقد معبد الإله آمون، الجبل بقمته المسطحة تمكنك من الوقوف عليها لتعلن للعالم أن السودان أرض الحضارات، وبالقرب من الجبل توجد إهرامات البركل الشهيرة، وقفنا أسفلها ودرنا حولها واستمتعنا بمنظر غروب الشمس لتعلن انتهاء زيارتنا للموقع.
دعامة الاقتصاد:
ومن ثم توجهنا صوب مصنع كريمة لتعليب الخضر والفاكهة الذي دبت الروح في جسده من جديد، ودارت ماكيناته بعد توقف دام 30 عاماً حسبما قال مدير المصنع بالإنابة عوض سيد احمد، الذي أشار الى أن المصنع تمت إعادة تأهيله بشراكة بين المستثمر السعودي طارق القحطاني والولاية الشمالية برأس مال 15 مليون دولار.
واعتبر وزير الاستثمار والسياحة جعفر عبد المجيد المصنع دعامة حقيقية للاقتصاد، مشيراً الى أنه ينتج 400 طن في اليوم، وقال إنه ضمن برنامج التطوير الصناعي المستمر.. وأشار الى أن هناك 5 مصانع متوقفة بدأ العمل في تأهيلها.
دوحة البركل:
ومن ثم توجهنا الى دوحة البركل، حيث يوجد معمل لترميم الآثار السودانية.. وفي قلب سد مروي كان الاستقبال حافلاً على إيقاع الطمبور والدليب، حيث أمضينا الليلة هناك، ثم تحرك الوفد صباحاً لاهرامات نوري، حيث يرقد الملك الكوشي تهارقا بن بعانخي الذي هزم الامبراطوريات في تخوم فلسطين والبحر الأبيض المتوسط وأبناؤه وأحفاده الملوك وزوجاتهم وأمهاتهم، ثم كان التحرك الى دنقلا العجوز المسيحية، زرنا كنيسة دنقلا ومسجد عبدالله بن ابي السرح، وتناولنا وجبة الإفطار في ضيافة أهلها، ومن ثم زرنا مشروع أمطار الزراعي بمحلية الدبة، الذي وصفه وزير الاستثمار والسياحة بأنه من أميز المشاريع الزراعية الاستثمارية.. مشيراً الى أن الولاية يوجد بها عدد من المشارع الناجحة على رأسهما مشروع الراجحي، وألبان الصافي والمراعي وغيرها، وأوضح أن مساحة المشروع الكلية تبلغ 130الف فدان زرع منها 15 ألف فدان، وقال مايميز المشروع تقليل استهلاك المياه بنسبة 25%، والكهرباء بنسبة 24%، وأشار الى أن المشروع سيدخل الإنتاج الحيواني بحوالي 100 ألف رأس.
وكذلك من ضمن المناطق التي زرناها مروي لاند، الخندق التي ترقد على ضفاف النيل مبانيها القديمة، تعكس تاريخ تلك المنطقة، تحدث وزير الاستثمار جعفر عبد المجيد كاشفاً عن وجود 80 الف معدنٍ يعملون في الولاية، منهم تجار آثار يتبعون الى منظمات وأشخاص محترفين في سرقة الآثار يهددون السياحة في الولاية، وأقر بوجود سرقات وقتل ونهب للحياة البرية، مقراً باختفاء عدد مقدر من الغزلان وصقور الشاهين، وطالب المركز بالتدخل لجهة أن حماية الآثار تفوق سيطرة الولاية الأمنية.
سرقة الآثار:
الوزير جعفر عزا انتشار سرقة الآثار لاتساع الصحراء وانتشار التعدين العشوائي، وأشاد بالروح الوطنية لشباب الولاية، وإرجاعهم لقطع أثرية رغم المغريات التي قدمت لهم من جهات متخصصة ومحترفة في سرقة الآثار، وأشار الى عرض مبلغ تراوح بين مليون وخمسمائة الى 2 مليون دولار لشراء قطعة أثرية.
حضارة كرمة:
وغنت نانسي عجاج (بلدا هيلي انا) بطلب من أهل المنطقة على ضفاف النيل، وفي ليل ساحر كان العشاء والمبيت في دنقلا في ضيافة حكومتها التي أحسنت استقبالنا، في الصباح الباكر تحرك الوفد صوب محلية البرقيق، وكان اللقاء جميلاً وزرنا محجر تمبس الاثري، والشلال الثالث، ثم تحركنا مع زخات المطر وروعة الطقس الى منطقة كرمة مهد حضارة كوش، واستقبلتنا فرقة عصافير الشمال بأغنية خصصت لنا من شاعرة ومغنية صغيرة من المنطقة، وزرنا الدفوفة وتجولنا بالمتحف وشاهدنا تماثيل ملوك الأسرة 25 التي حكمت السودان ومصر.
تحركنا بعدها الى جزيرة مروارتي وكان الاستقبال اسطورياً من داخل النيل اصطفت عشرات المراكب تقل المغنيين وأهل المنطقة، استقبلونا بحفاوة وعلى ضفاف الجزيرة خرج كل أهل مروراتي لاستقبالنا أطفالاً وشيوخاً ونساءً وشباباً بالشعارات والأعلام، وكرم الضيافة وبرنامج غنائي حافل، وغنى وردي الصغير وفرقة مروارتي ونانسي عجاج قبل أن نغادرها عائدين الى الخرطوم.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة آخر لحظة