السودان الان السودان عاجل

الجميل الفاضل يكتب المهدي لن يعودَ للخرطوم معصوب العينين

مصدر الخبر / الراكوبة نيوز

تسعةُ أشهرٍ تكفي لأن تضعَ كلُ ذاتِ حَملٍ حملها، لو أنّه وقعّ ليلة خروجِ “المهدي” الأخير الي منفاه

إنها ثلاثمائة يومٍ، يَكّتُبَ الآن فصلها الخِتامي.. هذا الزعيمُ التاريخيُ الكبير – آخر العنقودِ الجميل لدينا – من جيلٍ كان يصنعُ الحدثَ بإمتياز.. يعود هو هذه المرة من بلدٍ يقول الروائي الطيب صالح: (تموتُ من البردِ حِيتّانها).

هي ثلاثمائة يوم حلّقَ فيها “نسرُ المنابرِ” علي طيفٍ من المنافي لا يُحصي ولا يُعد، حفظت خلالها وقعُ خطاهُ غالب مطارات الدنيا، ورددت صدي صوته وكلماته بكّلِ لسانٍ حي، قاعات العرب والعجم، من القاهرة وعَمانَ، الي مدريد ولندن، وأديس وباريس، ومدائن أخري لا يقفُ عِندها العد.. لم يُضّنِي جسده الرياضي الفارعُ النحيل السّهرُ ولا السّفرُ، بل ولم يعتّريِ روحه رغم الغُربةِ والبُعاد يأس ولا ضجر.

إذن فإن عودة “السندباد” رئيسُ أكبرِ حزبٍ في ميزانِ آخر الديمقراطيات، ورئيس آخر الحكومات الشرعية المنتحبة دون شك، الي وطنهِ ليست حدثاً عابراً تعدو به الريح كيفما إتفق.. خاصة وأنها عودة تأتي في يوم شهدَّ قبل ستين عاماً ونيف، مولدَ بلد كان إسمهُ السودان بلا زيادةٍ ودون نقصان، خرج كالمُعجزةِ الحيّةِ من تحت قبة برلمان صغير بشارع الجمهورية، توحدت بين جنباته علي نحوٍ مفاجيء حينها إرادةُ وكلمةُ أهل هذه البلاد.. جنوبها وشمالها علي خياري الوحدة والإستقلال.

المهم يبدو أن القدر قد إختار لحكمة يعلمها الله.. ألا يأتي الإمام الصادق في ذكري أول ثورةٍ شعبيةٍ ناجحةٍ في تاريخ هذه المنطقة التي هّبت عليها رياحُ ربيعٍ كاذبة.. حسبتها شُعوبها حديثة العهد بالثورات ربيعاً، هي ذكري ثورة الحادي والعشرين من إكتوبر المجيدة.

ليُخّبيء ذات القدر ربما شيئاً من رمزياته ذات الدلالات الموّحية، طيَّ تاريخٍ آخر إختاره المهدي وأجهزة حزبه عنواناً لعودته المرتقبة، هو التاسعُ عشر من ديسمبر.. يوم إعلان الإستقلال الذي تّم عبرإجماع مدهش خرج من داخل البرلمان كالصاعقة، رغم أنف من أرادوا كذلك قطع طريقِ تلك القافلة.

فالمهدي الذي يعود في هذا التاريخ، هو المهدي الذي أراد له متربصون به خروجاً مُذّلاً من عاصمة “المُعز”، لترمي به الأقدار الي عاصمة أُخري خيرها زائد، أحالت خسارة القاهرة الي مكّسبٍ عاجلٍ، وغنيمةٍ باردة.

ولا عجبَ بالطبع.. فقد إعتاد الإمام الصادق الا تأتيه المِنّنُ سوي في طّي المِحّنِ، والا تُقبل عليه المزايا في غير أثواب البلايا.

إن رجلاً كهذا لن تقتله الحسرةُ لو أن حصان “أمبيكي” سقط أو حاد عن خارطة طريق، فهو بشفافيته المعهودة يقول في آخر رسائله الإسبوعية التي درج علي بثّها من تحت ضبابِ لندن: (هناك مجهودات لإتخاذ قرار دولي يُلّزمُ القوي السودانيةِ جميعاً بالإقبالِ علي عمليةِ السلام.. النهج الصحيح هو أن تحدد الأسرة الدولية بصورةٍ عادلةٍ، ما هي إستحقاقات عملية السلام في السودان، إنطلاقاً من الإلتزام بخريطة الطريق الموقع عليها، ومطالبة كافة الأطراف أن تقّبلَ هذا الحوار.. أما مجرد الضغط علي القوي السياسية السودانية للإمتثال لرؤي حكومية فليس مجدياً ولا عادلاً).

“ليس مجدياً” عبارة تقول للحكومة وللوسطاء.. أن المهدي لن يعود الي الخرطوم كما يظن البعض معّصوبَ العينين.

لكن ماذا يفعل رجلٌ بّحَ صوته الي حد الإنفجار الذي دوّت به صفحات جريدة “الجريدة” قبل أيامٍ قائلاً بعنف لم يعرف عنه: (قلناها ونكررها للصّم والبكم والعمي، موقفنا هو أن الحكم والسلام والدستور.. قضابا قومية تتّم عبر إتفاق قومي لا يَعزلُ أحداً، أما هؤلاء الذين يريدون جَرّنا لمعارك جانبية فأقول لهم مقولة ابو الطيب:

وأتّعبُ من ناداك من لا تُجيبه
وأغّيظُ من عاداك من لا تُشّاكل).

ومن غرائب الأشياء هنا.. ربما أني لا أجدُ شيئاً واحداً، تتفقُ عليه الحكومة وبعض المعارضة الي حد التطابق، كإتفاقهما علي إزهاقِ روح النُبّلِ في هذا الرجل الذي درج مُتعجّلو الخطي وسمه بالتقاعس والتردد.. يفسرون نواياه الحميّدة بأخبثِ ما يكون علي هواهم لأغراض يصعّبُ تفسيرها هي نفسها كذلك.
وكأنما يطابق حاله أبياتاً لمحمود درويش لو أني حوّرتها علي هذا النحو لعانقت المعني الذي أريد:
من اليمين الي اليمين الي الوسط
شاهدت مشنقة فقط
شاهدت مشنقة بحبل واحد
لقطع هذا العنق

فالمهدي الذي تعّرضَ لمحاولات إغتيال معنوي متكررة، من غير جهة واحدة.. يبدو عندي في صورة شهيد حي لم يبق في جسده شّبرٌ ليس فيه ضربة سيف أو طعنة رمح.

فإن هذا المزيج الفريد الذي يُكّونُ شخصية الإمام الصادق، لا تراه أعينُ الساخطينَ إلا في صورة أشلاءٍ ممزقةٍ بين الجزيرة أبا وإكسفورد كما تظنّي مثقف كبير مثل منصور خالد.

يخالجني سؤال يحيّرني، قفز الي ذهني وأنا أقرأ مقالاً لصديقي عبدالله الشيخ وهو يجّتر في توقيت يشبه توقيت حملة، ذكري “الباب والجمل” يقرأ عبدالله من سطحِ الحدث ما شاء أن يقرأ.. يُحّيكُ بإنتقائية بارعة سبحةً من خرز حكاياتٍ بعيدة ليطرّز منه صورة كولاج تشيّطنُ الرجل.

يحاصرني السؤال.. لماذا نُحبّهُ؟ ولماذا يكرهونه الي هذا الحد؟ يغمزون في كل شيء، حتي في طريقة كلامه الساحرة، يتفقون ضّد أفضل ما يظهره من قدرات، فبمثلما إستوقف عبدالله الشيخ اسلوب الرجل في الحديث وهو يقول: (هذه المسبعات هي بعض مقارباته، إذ سيأتي غداً في ذكري إعلان الإستقلال من داخل البرلمان!.

سيأتي لإقتناص السعد في مقابلات الفصول، وفي خزعبلات الحروف والأرقام).

وتوافق عين سخط عبدالله التي تعّيب علي الإمام حتي مجرد شكليات تتصل بالحروف والارقام، عين الكاتب الإسلامي موسي يعقوب الذي لم يبعد كثيراً عن التصويب علي مثل هذه القشور وهو يصف طريقة المهدي بذات العتبات الشهيرة.

فالإمام الصادق الذي يقف اليوم علي أعتاب عامه الثالث والثمانين، لا زال رجال من أقصي اليمين، الي أقصي اليسار، يجردون في معارك تشبه معارك طواحين الهواء، أقلامهم والسنتهم لتقطيع أوصال شخصيته الباهرة، بجهد جهيد، وعمل منظّم لا تخطئه عين، يؤكد مدي عمق وأثر وحيوية وجود هذا الرجل، أطال الله بقاءه.

فان هذه المعركة المتطاولة لإغتيال شخصية المهدي، لم تبدأ في الإعلام اليوم، ولن تنتهي بالطبع غداً، فلو أنه غادر البلاد لأي سبب من الأسباب، قالوا أنه هرب وترك ميدان المعركة، ولو أنه عاد قالوا كما يقولون لماذا هو الآن يعود؟ أيعود لنثر خزعبلات الحروف والأرقام؟ هكذا دواليك تذهب آلة الحصاد الجهنمية، الي التشكيك في كل شيء حوله، أو موقف يصدر عنه، يأتيه أو يدعه.

تأكيداً لحقيقة لا تقبل جدال، تجسدها في أصدق مثال حكمة يابانية تقول: “إن قطاً ميتاً لا يُرّكل”.

سودان تربيون

اقرا الخبر ايضا من المصدر من هنا عبر صحيفة الراكوبة نيوز

عن مصدر الخبر

الراكوبة نيوز