محمد الأمين علال
أنا ابن أرض الهقار أو الأهقار في الجزائر والتي تمتد على مدار السرطان الوهمي تمثل لي ولغيري من أبنائها واقعية جمالية، هي الأرض الصحراوية والجبلية صاحبة التاريخ العريق والعميق في زمنه الخاص وممراتها الساحرة والخلابة.. وفي هذه الأرض بمكنك أن ترى أجمل شروق وغروب للشمس.
أرض الحبــــو
سارة الجاك
الأرض تعرفت على أثرها في ركبتي
من الحبو كانتا أغمق قليلاً من بقية لون البشرة.. إذن الاحتكاك بها هو أول علاقة الإنسان بها.. ترشده بعدها لكيفية تثبيت خطواته الأولى عليها.. يتلمسها يتحسسها.. يسألها عن كنهها فتجيبه بأنها أمه وإليها يعود.. ما هي إلا ذرات أقاربه السابقين الذين عادوا إلى حضنها.. احتوتهم.. روتهم من حنها.. حللت أجسادهم التي هي أصلها فتراكمت …
الحبو هو إعادة تعريف بين الإنسان والأرض.. تتسع دائرة التعرف عليها بالمشي في المحيط المحدود البيت.. تتعداه إلى خارجه بالمعايشة.. تتعداه إلى الوطن ثم القارة والعالم.. بالمعارف والاطلاع إذن يتطابق مفهوم العالم مع مسمى الكرة الأرضية وحتى عندما تم اتساع الفهم وشمل درب التبانة والفضاء كان السؤال عن ماهية الكواكب الأخرى قياساً بها..
الأرض المكان الذي تقوم عليه الحياة تشكلها حسب مكونها البيئي.. إن كريمة ذات عطاء تربى ابنها الإنسان على كرمها وعطائها وسعة صدرها وتقبلها للآخر.. أو إن كانت شحيحة تربى ابنها على الشدائد وإدارة الموارد بشكل مختلف من ذلك.. فيكون ذا فراسة شعاره سوء الظن من حسن الفطن..
نحن أسعد البشر إطلاقاً لأننا أبناء أرض معطاءة وكريمة هباتها لا محدودة ولا منتهية
يقال إن ماما أفريكا أقدم أرض وأتلد أم في القارات السبع.. اتسمت بالحنو والحب الذي تمنحه إلى أبنائها.. وقبولها للآخر الذي جاءها غازياً ومحارباً.. لم تعلم أبناءها الشك والتوجس منه حتى يأخذوا حذرهم منه.
لماذا يحذرونه؟.. لأنه سيحاربهم..
لماذا يحاربهم؟.. لأنه يريد أخذ خيرات أرضهم.. الخير كثير لا داعي للحرب.. بالحب خذ ما تريد وهبنا بعضاً مما عندك من حب وعلم سبقتنا للحصول عليه..
لكن أبناء الأرض الشحيحة كانوا غير قادرين على العطاء.
أرض الفنييق
غادة بشير
الأرض من خلال تجربتي أنا كسودانية مولودة في لبنان المعروفة إنها أرض الفينيق وهو ذلك الطائر الأسطوري الذي كان رمز التجدد وما زال.. ولعل أكثر ما يكسب الفينيق شهرته التي تبلغ الآفاق حينما يحترق ويظن من يراقبه بتشفٍ أنه اندثر إلى الأبد.. فتكون المفاجأة بأن ينهض من جديد ويحقق فكرة البعث التي تتحدى النواميس حتى بعد اجتيازه المواجهة ضد أحلك قوى الطبيعة وأكثرها جبروتاً وشراسة ونهماً للتدمير وتلذذاً بعدم الإبقاء على شيء حي، إنها النار أياً كان نوعها أو مشعلها أو درجة شدتها.
وبوجودي في لبنان أصقلت شخصيتي وأصبحت لي شخصية متفردة في طبيعتها المتشربة من أرض نهر الليطاني.. قوية لا أقبل الهزيمة أقع واقف من جديد مثل الشعب اللبناني الذي تحدى الحروب الأهلية ورجع أحسن مما كان عليه، في أحلك الظروف تجد الشعب اللبناني محباً للحياة (شعب عييش) بلهجتهم الدارجة، هذا فضلاً عن الحريات التي يتمتعون بها، حرية الرأي والتعبير وحرية المعتقد والحرية الشخصية، فكل واحد له دينه وشعائره ومع الاختلاف فهم متعايشون مع بعضهم البعض كل فرد في حاله، أما عن الحرية الشخصية فإنهم لا يحكمون على الشخص من لبسه أو لونه أو من مظهره الخارجي، بل يحكمون عليه من خلال تعاملك معه، فلا تتحاشاه بل اخترقه ولا تنتظر منه أن يخترقك، والاختراق يتم من خلال العمل على شخصيتك بما يتناسب مع تفكيرهم بالاعتناء بمظهرك وثقافتك وإشراكهم في هذه الثقافة.
وبالرجوع إلى السودان فإنني اختصر أرض السودان بوالدي الذي جمع صفات السودان في شخصه الكريم من التعاون والتكافل والتعاضد والارتباط الوثيق بالعائلة والتواضع والبساطة وعزة النفس من غير تكبر، والكرم والأمانة وحسن معاملة الآخرين وحسن النية، فحبب لي السودان وتشربت عشقي للسودان من خلال عشقه ووفائه لأرض السودان، فحب الوطن هو بتقديس كل ما على أرضه من حجر وشجر وبشر، وبانتمائنا لوطن عريق، فالوفاء له يكون بحمل اسمه في كل أرض نطأها ، نتحدث عنه بكل حب وفخر حتى لو كان هذا الوطن صحراء جرداء، الوفاء يكون بتحلينا بدماثة الأخلاق وطيب المعشر أمام الشعوب الأخرى، ليقال إن هذا الإنسان النبيل، لا ينجبه إلا وطن عريق. وبهذا أكون قد دمجت في شخصيتي أرض لبنان مع أرض السودان.
بيت الشعر في السودان يبدأ حلقة النقد الأولى
بدأ بيت الشعر في الخرطوم التابع لدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة من الخميس 20 أبريل 2017 سلسلة حلقاته للنقاد الشباب الذين تواثقوا على خوض تجربة جديدة في عالم النقد متخذين من فجوة الحركة النقدية في السودان منصة لفاتحة أعمالهم، وهم بهذا يرسمون طريقاً سريع الوصول ليواكبوا حركة النقد العربية.
وكانت أولى حلقات النقد بمشاركة 10 نقاد، كما قدم الشعراء: د.مزمل الركابي، أ.أسامة تاج السر، أ.الواثق يونس، أ.أبوبكر الجنيد، د.الحسن عبدالعزيز، أ.حاتم الكناني، د.محمد عبدالله عبدالواحد وأ.حامد يونس أوراقهم النقدية.
هذه الحلقة متصلة وفق ما أعده الدارسون من موضوعات تبدأ بالنقد العربي على مدى عصوره القديمة، مروراً بالمدارس الحديثة من بنائية وسيميائية وأسلوبية وتفكيكية، ثم إجمال لموضوعات أخرى تتعلق بالنقد الثقافي والنفسي والاجتماعي وأيدولوجيات ومدارس ونظريات النقاد.
وهذه الخطوة التي باركها بيت الشعر تجئ ضمن أهدافه الكبرى لتقديم الأفضل للحركة الأدبية في السودان ودفع عجلة النقد لتوازي الحركة الشعرية ونهضتها.
الجدير بالذكر أن ما يميز هذه الحلقة أن النقاد الدارسين هم الشعراء الشباب الذين حملوا لواء النقد وعكفوا على معالجة الخلل والفجوات ليقدموا لأنفسهم وللساحة النقدية أسماء وروافد تضيف لمسيرة النقد أصواتاً جديدة.
كما استضاف بيت الشعر في الخرطوم المغني حمد الريح، وذلك بحضور أدباء ونقاد سودانيين، فضلاً عن مرتادي البيت من طلاب جامعيين ومحبي الشعر.
واستهل الريح الأمسية بقصيدة (يا مريا) من كلمات الشاعر صلاح أحمد إبراهيم، ومن قصائد الشاعر نزار قباني، فقد وقع اختياره على قصيدة (حبيبتي).
وقدم مدير بيت الشعر د.صديق عمر الصديق عرضاً عن علاقة الشعر (القريض) بالغناء، وتاريخ الغناء الفصيح في السودان، وإضافته للحركة الغنائية.
التيجاني حاج موسى
الأرض تعني للإنسان كل شيء.. الإنسان من تراب إلى تراب عاده..
ما يصنف وطنه الصغير الذي ولد فيه.. وتمتد هذه الأرض جغرافياً لمساحة البلد الذي به منزله ثم تتسع رقعة هذه الأرض ويتسرب الحب على الوطن كله.. ولذلك تفنن الشعراء وكتبوا عن أرضهم وصديقنا إسحق الحلنقي خلد أرض كسلا في عدد من قصائده.. وأيضاً الشاعر توفيق صالح جبريل.. كما كتب شعراء الجاهلية ومجدوا الأرض التي ينتمون لها.. هذا الحب نجم عن فطرة طبيعية للإنسان لحبه لوطنه وكثير من الأبيات الشعرية التي تجري على ألسنة الشعراء.. إذا تفحصنا الشعر الجاهلي في محبة الأرض يشكل الآلاف من الأبيات الشعرية.. الشاعر لا ينفعل انفعالاً مصنوعاً وإنما حقيقي يمثل حب الوطن والأرض.. أما أنا من الدويم وهي الأرض المحببة لي بشكل عميق.. لأنها شهدت ميلادي حتى يصل الأمر إلى وطني الذي أحبه وأهوى أرضه ولا أرى أرضاً أخرى على امتداد العالم تشبهه.. أنحاز إلى أرضه تماماً.. أنا لا أخشى ولا أهاب العودة لها.. وهذه سنة الحياة.
ســـــــر الأرض
أرض يحفها الحمام
اكتُشف قبل أعوام أن هناك كوكباً اسمه غليسي
يمكن أن نهرب إليه في حال ضاقت بنا البسيطة وهي عادة ما تضيق على ساكنيها، في حال انعدمت أسباب الحياة، الكوكب الجديد لا يحتاج غزاة وجيوشاً تحارب.. يمكن أن تكون سعيداً طالما أن فيه شمس وماء لن تكون هناك ديون أو أمراض.. في اللحظة التي كنت أفكر في هذا الكوكب هبط سرب من حمائم على أرض وسط الخرطوم – آتيني- والشيء الوحيد الذي يغري ويجذب كائناً رقيقاً مثل الحمام هو صورة الحبائب جالسين.. وهذا ما يجعله مطمئناً لأن الحبيب لن يهش الحمام.
سألت جالساً جواري عن ميقات وصول الحمام.. فقال لي بعد أن يستقر الجميع في مجلسهم كأنما يحرسهم ويرعاهم أي الحبائب
بدأت أتابع هذا السرب.. لاحظت أن هناك حمامة تائهة دخلت وسط السرب فقد كانت حركتها صامتة حذرة لا تسير.. بل تقفز إلى أعلى.. أحياناً تحلق تحليقاً خفيفاً.. كانت على عجلة من أمرها لم تك تعلم مكانها من هذه الأرض.. الناظر إليها سيشعر أنها لم تهبط هبوطاً ناعماً كعادة الحمام.. بل سقطت وستعود متسلقة كأنها في هاوية
في لحظة صرخ شاب ينادي آخر.. أفزعتها الصرخة فطارت لكنها ظلت تحلق في نفس الدائرة بعد برهة عادت وتركت وراءها الخوف.. بدأت تتحرك وسط السرب.. اندمجت معه.. كان السرب رحباً مضيافاً في أرضه.. اختارت ذكراً كان ينفصل ويعود إلى السرب مرة بعد مرة.. ابتسمت لأنها وجدت رفقة
تغيرت مشيتها أصبحت أكثر ثباتاً على الأرض.. لكن هذا الثبات المطمئن لم يدم طويلاً.. لأن الرفيقة القديمة ظهرت
فأصبحت ضئيلة لا تُرى.. ساكنة لا تتحرك.. طار السرب فأصبحت وحيدة.. تمنيت لو أخفف عنها.. وفي غمرة انشغالي بها لاح في الأفق نسر ضخم..
ارض المغني
أثناء انشغالي بإعداد شاي، وجدتني أردد لحناً غنائياً أشعرني بالطرب، وفي تلك اللحظة إذا سئلت عن فناني المفضل لقلت أنا فنان نفسي المفضل، أما إذا جربت غناء أي لحن آخر سأكتب عند الناس (اشتر)، ولن أغالط.
اللحن الذي جعلني أطرب لنفسي وربما سأطرب آخرين من حولي، كان أغنية للفنان عاطف أنيس وهو بعنوان (شكراً) ألبوم صدر قبل 10 أعوام، فسألت نفسي أكثر من مرة عن سر هذا اللحن، فوصلت إلى أن الملحن أراد للأغنية أن تكون طروبة وبأي صوت، وتصلح للغناء الفردي والجماعي، كحال كثير من أغنيات عاطف أنيس الذي أكد لنا جميعاً مساء أمس الأول وأثناء حفله في دار الخرطوم جنوب أنه فنان يبسط صوت موسيقاه ويجعلها تضحك وتطرب هي نفسها، كما أن له قدرة هائلة على فتح (طاقة) حب بينه والجمهور مستمدة من طاقة الفعل الإيجابي للغناء، وبدأت أسمع أكثر من إيقاع في لحظة واحدة، وعادة التعدد والتنوع هو من أسباب الغنى غنى التجارب الفنية، فقد تسمع (التم تم والجراري والسامبا وكثيراً من الإيقاعات المفضلة، لأن المغني هنا وضعك موضع الشريك الأصيل في العملية الفنية، لا مجرد متلقٍ، هو قال ذلك في واحد من الحوارات التي أجريت معه مؤخراً (قدمت غناءً قوبل برحابة أذهلتن، كما لاحظت تعطش الجمهور للغناء الجاد، لأن الساحة امتلأت بظواهر غنائية وثقافية ماخدة جينات تغبيش الوعي والوجدان)، والآن تقع على عاتقه مهام كبرى لأنه صاحب مشروع ثقافي وفني فيه الجمالي والمادي والمعرفي، نفترض فيه الارتقاء بذائقة الناس وله في ذلك رأي شماعة (أن الجمهور دايماً عايز كده والغناء السائد) مبرر، كل هذا ينم عن روح منهزمة وهي التي تستخدم ميكانيزم لقفل الأبواب والفضاءات للتغيير والإضافة لكل المجالات بما فيها الغناء، وواجب المغنين والشعراء عدم الالتفات لهذه الأصوات بجرأة مطلوبة.
(والجرأة تتطلب دائماً الإصغاء إلى تجارب الآخرين والتفاعل معها بوعي رفيع وحيوية وحس نقدي صارم، ما يتيح لمشرعه فرصاً واسعة من التطور والارتقاء، لاحظ أن خلال حفله قدم أعمالاً لشعراء يتقاطع معهم في نفس الهم الإنساني والوجداني، لذا جاء الناتج عملاً فنياً متماسكاً ومترابطاً شديد الصلة ببعضه وبسامعه الذي التحم معه وغناه وزاد من ثرائه.
أرض مظلمة
عبدالعظيم محمد أحمد
هناك حكاية شعبية قديمة طريفة تقول بأن هناك شخصاً أضاع خاتمه في ليلة ما فأخذ يفتش عنه تحت مصباح الشارع.. مرّ صديق وسأله عما يفتش، قال عن خاتم عزيز أضعته، فسأله هل أنت متأكد أنك قد أضعته هنا.. فقال: لقد أضعته هناك في الظلام، ولكن لا يوجد مصباح هناك، لذا أفتش عنه هنا، وهذا هو حال من من يعتقد أن ما لديه ليست له قيمة، وأن جلّ ما يستطيع عمله هو تقليد الآخرين واللهاث وراء رموز وألقاب تعطيه قيمة مصطنعة، هذه القصة مع طرافتها تكشف لي سر جنون ذلك المغترب الذي يجسد أحد مظاهر الغباء الذي تخلقه المدنيّة الحديثة! حينما هجر أرضه في قريته الريفية وجاء ليدفع حصاد غربته مليارات الجنيهات بحثاً عن حلم وشقة سكنية في زحام المدينة تحت أنوار حداثتها الزائفة.
أرض من رواية شواء الفرح
كلتوم فضل الله
الأرض تتشقق وتتفتح، بل تتفطر في موسم الجفاف ويمور في داخلها الزيت، يغلي ويسخن، لسوادها سر الخصوبة ومن خصوبتها احتضنت في داخلها الخام الأسود مثل بويضات تنضج وتستعد.
وتتشقق أرض الجنوب مثل عاشقة جسدها كله عطش ونداء، فما كانت إلا إبر الريح الجافة تنفخ فتتسع الشقوق لحملها وتمتص ضوء الشمس الساطعة وهي مظلمة الجوف إمعاناً في سواد داخلها نادى الكارثة، فتارة يأتي الماء يملأ الشقوق كأنما يكشط كتابتها الهيروغليفية يساوي نتوءها فتبرز كتلة التربة مثل مغناج ترفع وسطها في الوطء، ثم تهبط للهواء تارة في المواسم مثلما رفعها الماء.
أثناء ركضنا، نختفي في النهارات المشمشة، لأن الغابة قد أحرقت أعشابها قنابل الجيش فانكشفت، أصابت قنبلة الطيار المعدة هذا الوقت انتظرنا التي كانت تتهيأ بطول قامتها لزواجها، وما أن سقطت على الأرض وصاحت حتى جرينا نحوها تتلبد برماد الأعشاب الأخيرة، القنبلة أصابت ذراعها في تصويبها الأخير نحو الأرض، تصايحنا وعاد الذين سبقونا مسافة.. عادوا نحونا، حملناها وثقلت يدها التي تنبع نافورة من الدم ترشنا، ثم ثقلت ذراعها التي ترشنا وتلون أجسادنا وما كدنا نحملها ونحمل ذراعها إلا أن صاح دينج ضعوها على الأرض لنخلص ذراعها، وهل كان ذلك ممكناً في نظري، تتسارع الأفكار في انشطار سام ربما مفيد ربما مخل، جلسنا على الأرض حولها في منظر السجود المسكين، وأخرج ديو تديو من جيبه مطواة حادة الشفرة، انتحيت جانباً كي لا أرى المنظر، وبكل خبرتي في الجراحة البيطرية وسعيي الذي مضيت فيه للتخصص أبتعدت قليلاً، جلست أغطي أعيني بكفي ولكن حواسي كانت ترى، بقيت أبكي لهم وبحرقة حتى خلصوا ذراعها، التي بها علم السودان المغزول من سكسك، يمسك بها بعض جلد وعصب، خلع ديو قميصه ولف به مكان اليد المبتورة ثم حملناها ويقاطع أنينها صوت القنابل المتفرقة وفرقعات النار التي أوقدت ما تبقى من الأعشاب، ونحن نعبر وهي تئن ما بين الغيبوبة مرة وما بين الأنين المتفرق ودمها يغسلنا، ونحن نعبر أيضاً الغابة تلو الغابة ننتهج في السير أغزر الأمكنة شجراً وقناطير لنتخفى بالوديان من الطيار الحصيف، وعندما نزفت رجينا آخر قطرات دمها أنزلناها على الأرض وهي تسترخي في هدوء وسدناها يدها الواحدة ثم مضينا، وقلت الوردة الجافة تحلم بلونها الأول الذي دونته في ذاكرة الريح.. وأنا بدوري ألتصق بيدي من تصبب الدم علم السودان الذي غزلته لي..هل كنت أنا الذي أحمل رجينا أم مشاعري التي اختلطت بمشاعر ميان ثم أصبحت أنا هو في تصاعد شعوري لا يوصف، على عنقي وأنا أحملها لا أحس بثقل جسدها.. بل كانت تنهدتها أثقل وزن حملته الكرة الأرضية، كان أنينها ودمها يغسل اتساخنا ولا حيلتنا ونحن نتبادلها يحملنا أحدنا ثم يسلمها للآخر وهي في استسلام لنلحق بها أي مشفى كان ربما مشفى بيوت الجن في قصص السحر والأكذوبة مشفى تجلس علينا في طريق بري عابر، تتنزل من السماء، لا شيء من هذا، وتساءلت كيف تنبت لي أجنحة فأطير بها نحو ميان الذي سبق الركب مع نساء حاملات البذور في أحشائهن ونساء ينتح من صدورهن الحليب ونساء أخريات تخضبن بدمائهن استعداداً للوقت الحميم.. كنت أحملها وهي تنفق مثل عصفور صغير جلبه الشتاء ناحية المنفى، لم يكن مشفى.. بل كانت الأرض منفى.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة آخر لحظة