التظاهرات العفوية التي خرجت بعد ظهر أمس الجمعة بشكل تلقائيّ من مساجد العاصمة السودانية الخرطوم وعدد من الولايات، مؤشر جديد يؤكد تصميم الشعب السوداني على الإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير، وتُكذّب تصريحات قيادات الحزب الحاكم بمن فيهم البشير نفسه الذين يزعمون أن المظاهرات تقوم بها فئة قليلة محسوبة على أحزاب اليسار.
والجموع الهادرة التي خرجت تلقائياَ بعد هتافات قوية من مسجد الشيخ عبدالحي يوسف في ضاحية جبرة ومن مساجد أخرى في أمدرمان والجيلي وغيرها، ردٌ مباشرٌ على أحاديث البشير ورموز حزبه وتأكيد جديد على حالة الكراهية التي وصل إليها النظام من قِبل المواطنين السودانيين.
فشلت كل تصريحات وخطوات عمر البشير الهادفة لاحتواء الانتفاضة التي انطلقت من مدينة عطبرة شمالي البلاد منذ ال19 من ديسمبر/ كانون الأول، خاصة وأنه استخدم اللغة ذاتها التي استخدمها من قبل، الزعماء العرب الذين أطاحت بهم ثورات الربيع العربي مثل القذافي وصالح، فقد أساء البشير للمتظاهرين الذين خرجوا من أجل الحرية والعدالة والتغيير قائلاَ بأنهم “خونة، ومرتزقة، وعملاء سفارات”، بل مضى إلى أسوء من هذا حين شبههم ب”الفئران”.
على ما يبدو أن عمر البشير يتعامى عن الحقيقة ولا يريد الاعتراف بها، فما يزال حتى اللحظة يتحدث عن تحسين أوضاع الناس والتزامه بتوفير العيش الكريم للمواطنين، فيما تُنادي كل المظاهرات السلمية التي خرجت حتى يوم أمس الجمعة بإسقاط النظام وتنحي الرئيس شخصيًا.
يتعامى الرئيس والحزب الحكام عن أن حديث الثورة وشعاراتها وصل إلى كل مكان، حتى صالات الأفراح والمناسبات السعيدة فقد وصل إليَّ أكثر من مرة عبر تطبيق الواتساب مقطع فيديو لزفة عرسان بهُتاف الثورة المفضل: الطلقة ما بتكتل (تقتل).. بكتل (يقتل) سُكات الزول، بينما أضحت ساحات المساجد تضج بعبارة “تسقط بس” أي الحكومة.
والمظاهرات الحاليّة عمّت معظم مدن السودان، ولذلك تتجاوز كلمة “احتجاجات” التي ما يزال إعلام الداخل يرددها لوصف ما يدور في البلاد، فهي ترقى لأن توصف بالثورة الشاملة إذ إن المّد الكاسح دفع بالحكومة إلى إغلاق المدارس والجامعات، وحجْب مواقع التواصل الاجتماعي، لكنّ هذه الإجراءات لم تفلح في كبح جماح الشباب الذين تحايلوا على حجب المواقع باستخدام تطبيقات لكسر الحظر الذي فرضته السلطات، وفيما فتحت الحكومة المدارس بصورة جزئية تحت ضغط من وزارة التربية فإن استمرار الجامعات مغلقة يهدد تقويم العام الجامعي.
والسلطات السودانية في مأزق لا تحسد عليه في هذا الجانب بالتحديد، إن أبقت الجامعات معطّلة هذا يعني ضياع العام الدراسي الجامعي وفي الوقت نفسه يدفع بالطلاب للمشاركة على نطاق واسع في المظاهرات التي تنتظم أحياء العاصمة والولايات، وإن قامت بفتحها ستقدم خدمة العُمر للثوار فجامعات النيلين والسودان والخرطوم على مرمى حجر من بعضها البعض ويدرس فيها آلاف الطلاب، وعلى الضفتين المقابلتين للنيل تقع جامعات أخرى مثل أمدرمان الإسلامية وأمدرمان الأهلية وبحري، فضلاَ عن عدد كبير من الجامعات والكليات الخاصة، لو أعادت الحكومة فتح هذه الجامعات مؤكد أن هؤلاء سيملؤون ميادين وسط الخرطوم وشوارعها بالهتافات المضادة للنظام من أول يوم.
السودانيون كسروا حاجز الخوف، فما عاد يرهبهم وعيد البشير وتحذيراته بجعل السودان سوريا أو ليبيا جديدة، فقد واجهوا بشجاعة نادرة وصدور عارية طلقات الرصاص الحي الذي أودى بحياة أكثر من 40 شخصاَ حتى الآن، ولم تخيفهم حملات الدهم والضرب والاعتقال حتى امتلأت السجون عن آخرها بالمعتقلين ظلماَ وجوراَ رغم أنهم خرجوا في مسيرات سلمية يكفلها الدستور والقانون.
شباب السودان فضحوا أكاذيب قيادات النظام الذين وصفوا المتظاهرين بالمخربين والخونة، فعَن طريق تقنية البث المباشر صاروا يوثقون تظاهراتهم خطوة بخطوة، وكيف أن كبار السن من الجنسين يخرجون معهم ويرددون شعارات الثورة على شاكلة “تسقط بس″ و”حرية سلام وعدالة”، و”يا عنصري ومغرور.. كل البلد دارفور” والأخيرة إشارة إلى رفض السودانيين استهداف أبناء دارفور من جهاز الأمن بمزاعم أن عناصر من حركة عبدالواحد محمد نور كانوا يستهدفون المتظاهرين والمنشآت العامة.
وفضح شباب السودان بالمستندات، زيف التظاهرة المصنوعة التي سيّرها أتباع البشير الأربعاء الماضي، بإجبار كل موظفي الدولة على تعطيل دولاب العمل والحضور قسراَ للساحة الخضراء، إلى جانب حشد منسوبي الأجهزة الأمنية وبعض البسطاء لأجل رفع الروح المعنوية للبشير.
هؤلاء الشباب وحتى العديد من كبار السن يريدون أن يروا سوداناً آخر غير الذي يسيطر عليه البشير وحزبه بالقبضة الحديدية، فهُم يأملون في أن تنعم البلاد بالحرية والديمقراطية وحكم المؤسسة لا الفرد، ويريدون أن يعود السودان منتجاَ ومُصدّراَ للغذاء لا متسولاَ يستجدي مساعدات الدول الشقيقة حفنةً من الدولارات أو شحنات القمح التي من العار أن ترسلها بلدان قاحلة مهما كانت ثرية لبلدٍ به 200 مليون فدان صالحة للزراعة وبه أكثر من 9 أنهار وروافد مائية عذبة كان قبل مجيء حكومة البشير المحسوبة على الإخوان المسلمين والتي دمّرت البنية التحتية ومشروعات الزراعة الكبرى مثل مشروع الجزيرة وامتداد المناقل يُصدّر أجود أنواع القطن والصمغ العربي والمنتجات الزراعية.
والشباب الذين خرجوا ويخرجون منذ 19 من ديسمبر/كانون الأول سئموا من خطابات البشير ونظرية المؤامرة والشعارات الدينية التي يكررها منذ 30 عاماَ، لذا هم يتطلعون إلى أن يقود بلادهم رئيس شاب مستنير يفتخرون به ويخاطبهم بذات اللغة التي يفهمونها، لا بلغة العنتريات والوعيد ولا بالمنِّ عليهم بقليلٍ من الإنجازات الرديئة مثل الطرق غير المطابقة للمواصفات العالمية وسد مروي الذي أثبت فشله بدليل استيراد الكهرباء من الجارة إثيوبيا.
انتفض الشباب السوداني لأنهم يريدون رئيساً مؤهلاَ يستطيع الجلوس إلى نظرائه في أوروبا وأمريكا وليست عليه قيود سفر دولية وليس متهماَ بالتورط في جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، تجعله مقيد الحركة وغائب عن الفعاليات العالمية المهمة مثل الجمعية العامة للأم المتحدة.
ويتطلع الشباب السوداني وعامة الشعب إلى أن ترفع بلادهم من قائمة الدول الراعية للإرهاب بسبب سياسات نظام البشير واستضافته لأسامة بن لادن وتورُّط حكومته في محاولة اغتيال حسني مبارك، وليس لأن السودان مستهدف كما يقول.
سودانيو الداخل والخارج الذين توحّدوا كما لم يحدث من قبل رغم محاولات زرع الشقاق والخلاف، يحدوهم أمل كبير في مستقبل زاهر لجيل الغد بعيداَ عن الفساد والمحسوبية والظلم ودمار البلاد وتشرُّد أكثر من 8 مليون مواطن سوداني إلى أصقاع أوروبا وأمريكا والخليج، وحتى دول الجوار الإفريقي.
الحلقة تضيق على البشير فهو ــ لأول مرة تقريباَ ــ يجد نفسه محاصراً بهذا الشكل ويمتنع عن السفر خارج البلاد لفترة تقارب الشهر خوفاَ من حدوث انقلاب أثناء سفره، في ظل ضغوط مستمرة من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمنظمات الحقوقية والإدارة الأمريكية إلى جانب الاتحاد الإفريقي وانتقاداتهم لحالة القتل والقمع والاعتقال للمتظاهرين السلميين.
ورغم محاولات تثبيط الهمة والتخويف بالمجهول وانزلاق البلاد إلى مصير سوريا وليبيا واليمن تستمر الانتفاضة السِّلمية السودانية لحين تحقيق أهدافها، فمؤكد أن القوات المسلحة ــ التي تراقب الوضع حتى الآن ــ ستتدخل في نهاية المطاف إذا استمرّ الحراك الثوري وارتفعت وتيرته، فقط هناك حاجة إلى ترتيب تسوية للبشير وضمانات بعدم الملاحقة الدولية والداخلية لتسهيل انتقال السلطة إلى حكومة تكنوقراط انتقالية تعبُر بالبلاد إلى انتخابات تؤسس إلى تحول ديمقراطي حقيقي.
صحفي متخصص في الشأن الأفريقي
اقرا الخبر ايضا من المصدر من هنا عبر موقع المشهد السوداني