نبدأ أولاً بتحية الشعب السوداني العظيم ممثلاً في تجمع المهنيين الذي قاد البلاد إلى إحداث تغيير كبير في السلطة كان يبدو مستحيلاً، وكان سلاحه الوحيد شعارات السلمية مما أكسبه تعاطف وتأييد الغالبية العظمى من المواطنين السودانيين ومن المجتمع الدولي.. لا يمكن أن لا نترحم على الشهداء الشباب الذين قدموا أرواحهم في بسالة نادرة وعزيمة لا ولم تلن، المجد والخلود لكل الشهداء والصحة والعافية لكل الجرحى والصبر والسلوان لأسرهم المكلومة.
في كرة القدم هناك قاعدة ذهبية لكسب المباراة وهي أن تحترم خصمك بمعنى لا تستهين به إذا كان في إمكانيات أقل، وقد حدث في إحدى مباريات الدوري السوداني أن قابل فريق الهلال بطل الدوري فريق (أبو سعد) الصاعد إلى الدرجة الأولى.. لم يحترم الهلال (أبو سعد) إذ أن الفرق في الإمكانات المادية والفنية كان كبيراً انتهت المباراة بفوز (أبو سعد).
تقرير:عمر البكري أبو حراز
عندما بدأت ثورة الشباب في 19 ديسمبر 2018 بقيادة تجمع المهنيين وانضمت اليه فيما بعد أحزاب قوى الإجماع، قوى التغيير وحزب الأمة وعدد من التنظيمات الأخرى، لم تحترم الحكومة ولا الحزب الحاكم حزب المؤتمر الوطني خصمها وقابلت التظاهرات باستعمال القوة المفرطة مما أدى إلى سقوط شهداء وجرحى وكل ذلك لم يوقف التظاهرات التي قابلها المجتمع الدولي بالاحترام مطالباً الحكومة الكف عن الاستعمال المفرط للقوة، وقابل المؤتمر الوطني هذه التظاهرات بكثير من الاستخفاف والتقليل منها ومن أثرها وتواصل الإستخفاف بها بوصف المتظاهرين بشذاذ الآفاق وبأنهم شيوعيون وبعثيون ولن يستطيعوا إحداث أي تغيير إلى أن تبين أن المتظاهرين من الشباب المثقفين المتعلمين رفيعي الآفاق، وأن تجمعاتهم الضخمة تضم كل ألوان الطيف السياسي والعقائدي من الوطني الاتحادي والشيوعيين والبعثيين والإسلاميين في مختلف أحزابهم المنشقة عن المؤتمر الوطني ومن عامة المواطنين المستقلين، والقاسم المشترك لكل المتظاهرين هو جلهم من الشباب المتعلمين ومن أسر عريقة كريمة محترمة بعيدة كل البعد عن الوصف القبيح بشذاذ الآفاق.
استمرت التظاهرات في الأحياء دون توقف خاصة في أحياء بري وشبابها الجسور، وأحياء أم درمان أبو روف وسوق الشجرة والعباسية وبانت والثورات، وفي الخرطوم في الكلاكلات والديوم وفي أحياء بحري العريقة وغيرها من أحياء العاصمة، استمرت دون توقف في نظام وانضباط والتزام بالسلمية.
وفي بداية أبريل 2019 دعا التجمع إلى اعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة وعقب هذه الدعوة زادت وتائر عدم احترام الخصم ومحاولة التقليل من نجاح الاعتصام، حتى قال أحد قادة المؤتمر الوطني في 4 أبريل (كلها يومين دعونا نشوف حجمهم قدر شنو) وحدثت المفاجأة إذ اعتصمت منذ السادس من أبريل حتى الآن حشود غير مسبوقة في تاريخ السودان، قُدرت في لحظة من اللحظات بأكثر من ثلاثة ملايين تزيد إلى خمسة وتنقص إلى أكثر من مليون.
لم تفلح كل جهود الأجهزة الأمنية في فض الاعتصام وذلك بسبب صلابة وقوة المعتصمين ووقوف قواعد القوات المسلحة معهم، والوقوف القوي الشجاع من قائد الدعم السريع حميدتي وجنوده مع المتظاهرين حتى أعلنت قيادة الجيش يوم الخميس 11 أبريل الإستيلاء على السلطة بقيادة النائب الأول لرئيس الجمهورية ووزير الدفاع الفريق أول عوض بن عوف ونائبه الفريق أول كمال عبد المعروف.. لم يرض المعتصمون بهذا الانقلاب الذي فيه استمرار ومواصلة للنظام السابق وتعالت الهتافات وزاد حجم المعتصمين يوم الجمعة 12 أبريل إلى قرابة الخمسة ملايين، وانحاز الفريق أول حميدتي بشكل واضح وجريء إلى مطالب المعتصمين ورفض أن يكون جزءاً من المجلس العسكري وزاد ضغط كبار الضباط والقيادات الوسيطة والصغيرة والجنود حتى أعلن الفريق أول عوض ابنعوف في كلمة مؤثرة تحمل رسائل سامية وفي نبل ووطنية وتجرد تنازله ونائبه من رئاسة المجلس العسكري بل ورشح الشخص المقبول لكل الأطراف لقيادة المجلس العسكري وهو الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
الأسباب الرئيسية التي أدت إلى هذا التغيير:
أولاً: سياسة الاقصاء الكامل التي مارسها نظام الإنقاذ منذ تسلمه السلطة حتى بداية الثورة وفيها تم إحالة الآلاف من الموظفين والضباط في المؤسسات العسكرية إلى التقاعد، وفيهم كانت كفاءات نادرة في كافة المجالات واستبدالهم بأصحاب الولاءات قليلي التجربة والخبرة والتعليم والكفاءة ومنذ ذلك الوقت بدأ انهيار الخدمة العامة وانهيار الاقتصاد.
ثانياً: تنامى الفساد بدرجة غير مسبوقة مما زاد الأعباء على الميزانيات وتم ابتداع سياسات التجنيب التي حجبت أموالاً طائلة عن إشراف وزارة المالية وزادت من حجم الفساد، إذ توقفت تماماً العطاءات الحكومية الشفافة وأصبحت المشاريع الضخمة تقام دون مناقصات عادلة.
ثالثاً: انفصال الجنوب تحت ضغط واستفزاز بعض قيادات المؤتمر الوطني للجنوبيين ودفعهم إلى خيار الإنفصال بعد أن كان زعيمهم الراحل د. جون قرنق ينادي بالوحدة.
رابعاً: التحالف مع أحزاب وفصائل معارضة ضعيفة غير مؤثرة في المجال السياسي والميداني مع تشجيع تقسيم الأحزاب التقليدية.
خامساً: فشل كل السياسات الاقتصادية بسبب نقص الكوادر المؤهلة القادرة على الإبداع، وبسبب التجريب العشوائي في النظريات الاقتصادية حتى فقدت العملة الوطنية قيمتها تماماً وارتفعت الأسعار بصورة جنونية، وانعدمت السلع الضرورية وزادت أسعار الخدمات الأساسية خاصة في الصحة والتعليم.
سادساً: أهمل المؤتمر الوطني الحاكم الشباب ولم يقدم لهم أي برامج تناسب قدراتهم وتطلعاتهم بل زاد عليهم التضييق في الحريات الاجتماعية والترفيهية والثقافية.
سابعاً: السياسات الخارجية ومحاولة الوقوف في المنطقة الرمادية التي أفقدت السودان أي دعم أو منح أو قروض إقليمية أو دولية.
كنا في كل مقالاتنا الأخيرة نشير إلى قرب الوصول إلى النقطة الحرجة وتكوين العقل الجمعي وفي آخر مقال ذكرنا أن السودان يقترب من المرحلة الخامسة والأخيرة من مراحل الانهيار الاقتصادي وهو الخروج الجمعي للشارع وقد كان.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة آخر لحظة