الأطراف الخاسرة من التغيير تغذي العوامل المؤدية إلى تجذير الفتنة من خلال الإمعان في مضاعفة الارتباكات في الشارع وإجبار المواطنين على الدوران في حلقة مفرغة.
العرب اللندنية – بعد أكثر من شهر على إطاحة الجيش بالرئيس السوداني عمر البشير في أبريل الماضي، يبدو مشهد نقل السلطة من المجلس العسكري إلى سلطة مدنية، ضبابيا في ظل تواصل تعثر المفاوضات بين أعضاء المجلس وتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، وهو تعثر تغذيه الأطراف الخاسرة من التغيير.
راجت التحركات التي توحي بأن الشعب السوداني، الذي نجح في عزل الرئيس عمر حسن البشير، أصابته انقسامات سياسية جديدة وكأنه لم يعد مكتفيا بما فيه من تشرذم تقليدي، بغرض تحميل المؤسسة العسكرية وتجمع المهنيين وأطياف أخرى من المعارضة مسؤولية ما يحيق بالبلاد من أخطار.
ازدادت النبرة العازفة بقوة على هذا الوتر خلال الأيام الماضية، ولم تعد الأحاديث المتداولة تتوقف كثيرا عند تفاصيل الخلافات في وجهات النظر بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير وطريقة إدارة المرحلة الانتقالية، وتتعمد التلويح بأن هناك هوة شاسعة تصل إلى حد صعوبة التوافق بين الطرفين، بما يؤدي إلى اتخاذ تدابير متشددة من كل جانب تعرقل كل بارقة أمل للتفاهم حول قواسم مشتركة تخرج السودان من أزمته المتشابكة.
نشطت الجهات الساعية إلى تكريس الفجوة والمستفيدة من تباعد المسافات بين القوى السودانية، للإيحاء بأن سقوط حكم البشير كان خطأ استراتيجيا سيندم عليه الشعب، لتخفيف حدة الانتقادات الموجهة إلى أتباعه في حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية وجميع مؤسسات الدولة البيروقراطية، ومنع محاولات تقويض حضورهم سياسيا من خلال الإمعان في مضاعفة الارتباكات في الشارع وإجبار المواطنين على الدوران في حلقة مفرغة.
يتسق هذا التوجه مع الخطوات السلبية التي اتخذتها أنظمة عربية سقطت عبر انتفاضات وثورات شعبية، بهدف هَزْم الإرادة والعزيمة، وعدم تعزيز قناعات تعاظم الخطايا التي ارتكبت، ورفع الغطاء المعنوي عن الأطراف الباحثة عن نظام حكم رشيد.
“عملية الإيحاء بتحويل السودان إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية تساهم في الضغط على المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير”
تدرك قيادة المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير هذه المعضلة، لكن عملية تجاوزها ليست هينة، فالأيام تمر والحوارات تنفضّ ومن دون تفاهمات نهائية، وكل طرف يسير في طريق يصطدم برغبات وطموحات الآخر، وهو ما ظهرت تجلياته في عدد من المحكات الرئيسية، فقد لوّح الفريق الأول (المجلس العسكري) باللجوء إلى خيار الانتخابات المبكرة، وأعلن الثاني (الحرية والتغيير) عن خطوات تصعيدية ترمي إلى إصابة الحياة بالشلل.
لم تكتف الجهات المحسوبة على نظام البشير بتغذية العوامل المؤدية إلى تجذير الفتنة، وسعت إلى زيادة معالمها عبر تواتر الحديث عن رغبة الحزب الشيوعي وقوى اليسار في السيطرة على مفاتيح الحل والعقد في تحالف الحرية والتغيير، كقائد للمعارضة، في إشارة تنطوي على نكران فاضح لدور القوى المنتمية إلى أي من الألوان السياسية الأخرى. والأخطر تجاهل الحشود الشعبية التي خرجت بصورة تلقائية ويصعب تصنيفها بين يمين أو يسار، وتمثل ثقلا كبيرا ووازنا في المعارضة.
بند الشريعة
اتخذ ما يسمى تيار “نصرة الشريعة” بقيادة الإخواني عبدالحي يوسف مسألة إسقاط الشريعة من التفاهمات المبدئية بين المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير، ذريعة لنشر الفتنة في الشارع وتحريض المواطنين على القوى اليسارية، واتهامها بـ”الإلحاد” وبأنها تقف وراء هذه “السقطة”، في محاولة لإيجاد فضاء رحب يصعب تحجيمه، ومواجهات مستمرة تساعد على تقوية الحركة الإسلامية التي فقدت جزءا كبيرا من حيويتها، بما يعيد إليها الاعتبار وسط الحركات والأحزاب التي أصبحت أرقاما محورية في المعادلة الجديدة بالسودان.
فشل التركيز على بند الشريعة في إثارة شجون وعواطف السودانيين وخطب ودهم حيال التيار الإسلامي الذي بدأ يعيد ترتيب أوراقه ويجد مدخلا له في الغموض الذي يخيم على المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، وتعلن بعض الدوائر القريبة منه دعمها للجيش صراحة، أملا في تكريس انطباعات سابقة بأن هناك قيادات فاعلة في المجلس لا تزال تدين بالولاء لفترة حكم البشير، ما يراكم التحديات في طريق المفاوضات وقد يصيبها بالتكلس والانسداد ويضاعف الهواجس حول ما يعرض على طاولتها. تسير ملامح الفتنة على أكثر من مستوى بهدف عدم الخروج من نفق الخلافات وتحويلها إلى انقسامات يصعب فك شفراتها السياسية، ويبدو العمل على توسيع الارتباك والمواجهات على الساحة السودانية من الأساليب التي باتت تستثمر فيها مواردها وتبذل فيها طاقتها جهات تابعة للسلطة البائدة، وتتمنى العودة إلى ما كانت عليه، ولم تجد وسيلة سوى تسويق الشائعات وتفتيت ما ظهر من تماسك داخل هياكل المؤسسة العسكرية، بعد أن تمكنت من تخطي الكثير من العقبات التي وضعت في طريقها.
وجد أصحاب المصالح في قوات الدعم السريع ورئيسها محمد حمدان دقلو (حميدتي) فرصة سانحة لإحداث شرخ داخل الجيش بإعادة النغمة السابقة بأن هذه القوات ليست عسكرية خالصة، وجرى تشكيلها لأهداف معينة في إقليم دارفور، وارتكبت تجاوزات يعاقب عليها القانون الدولي، ردا على الدور الذي لعبته بجوار المتظاهرين، والانحياز مبكرا إلى خطوة عزل البشير، وعدم التهاون في تصفية الجيوب السياسية والمسلحة التابعة له.
رغم أن الضربات المتتالية التي تعرض لها الفريق أول حميدتي لم تفت في عضده، وربما زادته صلابة، فإنه يتم اجترارها من وقت لآخر بهدف تكسير عظام قوته وحض قيادات في وحدات الجيش المختلفة على رفض وجوده، كرجل ثان في المجلس العسكري، ومنع التفكير في تصعيده مدنيا الفترة المقبلة.
امتدت خيوط الفتنة إلى التشكيك في الدعم السياسي والاقتصادي الذي تقدمه كل من مصر والسعودية والإمارات، وتحاول الدوائر الظاهرة والكامنة التابعة للبشير الترويج لوجود أهداف غامضة لدى هذه الدول، والعمل على إخراج الدعم الشريف من سياقه الصحيح، والخاص بالحفاظ على وحدة الدولة السودانية واستقرارها. وتصوير الأمر برمته على أنه ضمن سياق تقويض حلفاء تركيا وقطر في المنطقة، وليس ضمن عملية مكافحة الإرهاب واجتثاث التنظيمات المتطرفة التي أتاحت لها الخرطوم وأنقرة والدوحة التصرف بمرونة كبيرة إبان حكم البشير، وانعكست التأثيرات السلبية وقتها على الكثير من دول المنطقة، ولذلك تتخذ موقفا حاسما منها.
ساحة لتصفية الحسابات
تساهم عملية الإيحاء بتحويل السودان إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية في الضغط على المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير وعرقلة مسارهما السياسي، وتوجيه الدفة نحو جهة بعيدة عن الأزمة الحقيقية للبحث عن ارتباكات جديدة، والسعي وراء ممارسة ضغوط شعبية لفرملة جهود توطيد العلاقات مع الدول الثلاث، وبالتالي عرقلة الحصول على مساعدات مادية ومعنوية سخية، بما يفضي إلى مواصلة حلقات الانسداد وعدم مبارحة خندق الأزمة الاقتصادية التي خلقها نظام البشير، وقادت نتائجها إلى سقوطه.
“محاولات زرع الفتن في مجالات مختلفة، وتتبناها قوى وشخصيات تدافع عن حكم البشير وذيوله المتباينة ترمي إلى إجهاض مشروع الثورة الهادف إلى القضاء على الفساد وأركانه”
يريد من يقفون خلف هذه الرؤية تحجيم تحركات المجلس العسكري ومساعيه للتخلص من إرث البشير مع كل من تركيا وقطر وحرمانهما مما حصلتا عليه من مزايا نوعية، ومنع تأكيد منطق الدول الثلاث في أن السودان أصبح ملاذا للكثير من المتشددين والدول المارقة لتجنب مساءلة بعض المسؤولين، وطرد المتطرفين، وهي المشكلة التي وعد الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري بوأدها عند زيارته للقاهرة السبت الماضي.
ترمي محاولات زرع الفتن في مجالات مختلفة، وتتبناها قوى وشخصيات تدافع عن حكم البشير وذيوله المتباينة، إلى إجهاض مشروع الثورة الهادف إلى القضاء على الفساد وأركانه، وعدم هدم الجدران العالية التي شيدتها الحركة الإسلامية، ووقف بناء نظام مدني ينهي الظواهر السلبية التي انتشرت في ربوع السودان، وأبرزها السلوك الانتهازي الذي اتبعه البشير وأدى إلى فقدان الدولة لمصداقيتها أمام دول كثيرة في العالم، ووضعها في خندق قاتم جعلها بحاجة إلى شفافية وأدلة تثبت حسن النوايا.
يستلزم طي الصفحة الماضية التخلص من إرهاصات الفتن التي لا تتوانى بعض الأوساط المتضررة عن غرسها كل يوم، والتوجه إلى الأدوات اللازمة لتسوية الأزمة وتجنب الوقوع في الفخاخ التي تعمل على إطالتها وتثبيت العراقيل التي تحجب الرؤية السليمة للقوى الوطنية وجرها إلى قضايا جانبية لعدم تمكينها من القبض على مفاتيح الأمور الجوهرية، وفي مقدمتها تجفيف منابع الحركة الإسلامية.
محمد أبوالفضل
كاتب مصري – جريدة العرب اللندنية
اقرا الخبر ايضا من المصدر من هنا عبر موقع المشهد السوداني