جاءت التطورات الأخيرة في السودان لتضع عقبات جديدة على طريق المفاوضات بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري. فقد شهدت الخرطوم، صباح الاثنين، ما اعتبر أسوأ أعمال عنف منذ الإطاحة بحكم الرئيس عمر حسن البشير في أبريل 2019، وذلك على خلفية اقتحام قوات الأمن السودانية لموقع اعتصام في وسط الخرطوم.
أظهرت لقطات تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار في الفضائيات مشاهد لأشخاص يركضون في الشوارع وسط العاصمة السودانية مع تردد أصوات لإطلاق النار. جاءت هذه اللقطات ضمن تغطية التصعيد الحاصل في الخرطوم على إثر اقتحام قوات الأمن، في ساعة مبكرة من صباح الاثنين، موقع اعتصام في وسط العاصمة.
ترددت أنباء عن مقتل عدد من السودانيين. وبينما اتهمت قوات المعارضة المنظمة للاحتجاج المجلس العسكري الحاكم بفض الاعتصام بالقوة، قال المجلس إن قوات الأمن استهدفت عناصر إجرامية قرب منطقة الاعتصام، “باتت تشكل خطرا على أمن المواطنين”.
مهما كانت الأسباب التي دفعت قوات الدعم السريع إلى استعمال القوة المفرطة والدخول إلى ساحة المعتصمين في الخرطوم ووقوع ضحايا، فإنها عززت موقف قوى تحالف الحرية والتغيير للتمسك بعودة المحتجين إلى مكانهم أو أماكن أخرى، باعتبارهم يمثلون الخط الأحمر والورقة الرابحة لإجبار المجلس العسكري الانتقالي على القبول بمطالبهم.
أرادت قوات الدعم السريع التي تصدرت عملية الفض تأكيد قبضة المجلس وعدم رضوخه للابتزاز السياسي، واختبار إرادة المعتصمين وصمودهم، وقياس سقف الطموح لدى قيادتهم، وجس نبض بعض الجهات التي تترقب بحذر مصير التطورات، لكن ربما تحصد نتيجة سلبية لأنها اقتربت من قضية تدغدغ مشاعر الناس من
دون ترتيبات محكمة وتهيئة متقنة للأجواء.
يمثل سباق دوائر خارجية كثيرة إلى إدانة تصرف الدعم السريع نقلة نوعية، كأنها تلقفت الحدث لتبرئة ذمتها حاليا ومن الصمت طويلا على التطورات في السودان، وعلى تصرفات المجلس العسكري الذي لم ينتبه جيدا لهذا الملـمح وخطورته في هذا التوقيت، واعتقد لأول وهلة أن غض الطرف بمثابة قبول ضمني يشجع على قيامه بالحد من نفوذ تحالف الحرية والتغيير.
العنف يقلب المعادلة
تمزقت خيام المعتصمين أمام مقر وزارة الدفاع، غير أن قيادتهم حصلت على دفعة سياسية قوية جراء تصرفات قوات الدعم السريع، ربما تقلب الدفة لصالح الفريق الأول الفترة المقبلة، بعد أن تمكن المجلس العسكري من تسجيل عدد من النقاط المهمة الأسابيع الماضية خفضت مستوى الإدانات المتعلقة بعملية عزل الرئيس عمر حسن البشير وعدم التركيز على تسليط الأضواء عليها بحسبانها “انقلابا عسكريا”، وجذبت إليه شرعية إقليمية كان بحاجة إليها في مواجهة العديد من القوى المناوئة.
بدت تبريرات التدخل غامضة وأخفقت التفسيرات، لأنه أوقع عددا من الضحايا، وعندما تسيل الدماء في هذا الخضم تتراجع الحجج السياسية والدواعي الأمنية.
وقد تخسر قوات الدعم السريع، التي تصدرت المشهد، جانبا من رصيدها بعدما أعلنت وقوفها بجوار الثورة مبكرا، وانحازت ضد رغبة البشير ورفضت الانصياع لأوامره في قمع المتظاهرين، وأثبت رئيسها الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) أن دوره يزداد أهمية في المعادلة السودانية.
أعاد تصدر العنف العلاقة بين المجلس العسكري والمعارضة إلى نقطة الصفر، وتيقن الرافضون للتفاهم مع الجيش بشروطه أنه يتحفّظ فعلا على تسليم السلطة لحكومة مدنية، وما حدث من انسداد خلال الأيام الماضية كان مقصودا به إجبار تحالف الحرية والتغيير على القبول بأية صيغة تطرح عليه، ليس من ضمنها الغلبة في المجالس السيادية المقترحة.
ينحاز الوجدان الشعبي تلقائيا، في السودان وغيره، إلى الجهة التي تتعرض للعنف، مهما كان الموقف منها. ويتم تصوير الجهة التي تقف وراءه على أنها “وحشية ودموية” وخسارتها فادحة، الأمر الذي لم يدركه المجلس العسكري، وتغافل التمهيد له داخليا وخارجيا، وخاض التجربة في وقت تتنامى فيه كفة المعتصمين دوليا، والتي يرى فيها البعض نموذجا لقوة الإرادة والتحدي والصمود.
أطراف عديدة تتربص بالسودان، تجد في التطورات فرصة للتأثير على مساراتها المعتدلة
لم يلجأ تحالف الحرية والتغيير إلى المتاجرة بالمظلومية السياسية وتعمد أن تكون تحركاته بعيدة تماما عن رؤية الحركة الإسلامية، بل مخالفة لها، غير أن عملية التدخل قدمت هدية للحركة البارعة في توظيف هذا النوع من القضايا، والباحثة عن موطئ قدم لتبييض وجهها والانخراط في تحالف الحرية والتغيير.
أفضى تزايد عدد الضحايا إلى توسيع نطاق التأييد للخطوات التي سيقدم عليها المعتصمون، وبينها العصيان المدني والسياسي، بعد أن نجحت خطوة الإضراب الأسبوع الماضي، وهو ما سينجم عنه حرج شديد للمجلس العسكري بما يجبره على إعادة النظر في إجراءاته السابقة، أو مبادلة التصعيد بآخر، وتدخل البلاد دوامة قاتمة من العنف، وهو السيناريو الذي ينقذ فلول البشير من المحاسبة، إذا لم يتمكنوا من العودة إلى السلطة.
أخفق المجلس العسكري في قراءة النتائج التي تمخض عنها الإضراب العام، وأكدت أن قيادة التحالف تحظى بحضور شعبي يتجاوز ساحات الاعتصام في الخرطوم وغيرها من المدن السودانية، ويجعلها تزداد تشبثا بأهدافها، لأنها حشرت قيادة المجلس في زاوية ضيقة لن ينقذه منها سوى التسليم بجزء معتبر من المطالب الرئيسية لقوى الحرية والتغيير.
وحتى الدول التي بدت داعمة للفريق أول عبدالفتاح البرهان ورفاقه ستجد نفسها مجبرة على اتخاذ مسافة بعيدة عنه، من هنا أعلن البعض انحيازه إلى ما يختاره الشعب السوداني، في إشارة ترمي إلى عدم خسارة جبهة المعتصمين، المتوقع ارتفاع وزنها السياسي.
إعادة توزيع الأدوار
مرجّح أن تؤدي المعطيات الأخيرة إلى انقسامات لافتة في صفوف المجلس العسكري، ربما تصل حال ارتفاع التصعيد إلى حد تحميل قوات الدعم السريع مسؤولية أحداث العنف التي وقعت الفترة الماضية كطوق للنجاة، ما يقلل من أهمية الدور السياسي لقائدها الفريق حميدتي، الذي اعتبره كثيرون من الشخصيات التي يمكن أن تلعب دورا محوريا في مستقبل السودان. يعزز هذا الاستنتاج تسريبات بثتها عناصر الثورة المضادة ووجدت أصداء لدى المعارضة الأخرى، وداومت على التشكيك في انتماء الرجل أصلا إلى المؤسسة العسكرية، وانضمامه جاء في ظروف استثنائية تخص الأزمة في دارفور وتوابعها الاجتماعية والإقليمية.
قد تكون هناك فرصة لخصوم حميدتي داخل الجيش لتقويض نفوذه. إذا كانت تطورات صباح الاثنين تضفي مصداقية على خطاب المعتصمين، فإنها أيضا يمكن أن تحدث شرخا بين التيار الواقعي داخلهم والتيار المتشدد في طموحاته، بشكل يمنح الفرصة لزيادة ملامح الارتباك بين أعضائه، ويوفر غطاء لدخول عناصر إسلامية تحت عباءته، ويفتح كوة لتأثير الأجندات الخارجية على مواقفه.
تمكنت قيادة التحالف من الحفاظ على استقلاليته، وقاومت إغراءات قطرية وتركية حضت بعض الشخصيات على الانحياز إليهما، لكنها قد تجد نفسها قريبة، دون أن تقصد، من تصورات الدوحة وأنقرة، اللتين وجدتا في وقوع ضحايا فرصة لانتقاد المجلس العسكري، بعدما أثبت أنه لا يميل إلى تكرار أخطاء حكم البشير، ولم يقبل أن يكون السودان سفينة في أسطول قطري- تركي- إيراني طويل يريد هز الأمن والاستقرار في المنطقة.
دخلت الأزمة مرحلة خطيرة من الغموض، لأن هناك أطرافا عديدة تتربص بالسودان، تجد في التطورات الدامية فرصة للتأثير على مساراتها المعتدلة التي حافظت عليها خلال الأسابيع الماضية، ومحاولة شق التماسك الذي ظهر على أداء تحالف الحرية والتغيير، وحشر دوائر تحكمها أفكار عقائدية، وجر المجلس العسكري إلى معارك لإجباره على تليين موقفه من الأحزاب والدول ذات التوجهات الإسلامية، وربما يضطر إلى وضع قادة المعتصمين أمام مسؤوليتهم التاريخية في منحهم التفوق في السلطة، لأن كثرة الفتاوى السياسية والاجتهادات غير الواقعية يمكن أن تعيد إليه الكرة وتسجيل جملة من الأهداف بأريحية أكبر.
يواجه المجلس العسكري صعوبات للبقاء على رأس السلطة منفردا، وعليه أن يدخل قوى الحرية والتغيير في المحك والمعترك السياسي مباشرة، ويختبر مدى قدرتها على الإدارة، وعندما تفشل حتما سيقوم الشعب باستدعائه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
كتب : محمد ابوالفضل
جريدة العرب اللندنية