النشء الذين يتعلمون التعليم الرسمي في السودان (أساس، ثانوي ) عندما يتلقون دروساً تاريخية عن قدير فإنها عبارة عن أسطر قليلة تحكي تاريخ قدير الكبير، فالدارس السوداني ينهل من تاريخ منهجي تم فيه تغييب تاريخ منطقة، وشخصيات شهدت طرح ثوري وتنفيذ واقعي لثورة، ثم من خلالها مورست هذه الثورة حتى بلغت مقصدها، وهو التحرر من الاستعمار، حيث دفعت قدير بخيرة رجالها للمهدية، ولكن حضورها في سطور التاريخ لم يكن بقدر الدور الفعلي الذي قامت هي ومكها بوش، كل هذا جعل أهلها في مزاج نفسي لونه السخط والتذمر من هذا التغييب التاريخي لمنطقتهم ومكها، ويشكو الأستاذ أحمد حسن بوش، من الهضم التاريخي لدور قدير والمك بوش، قائلاً: عملت منذ فترة السلم التعليمي المايوي (ابتدائي ـ متوسط ـ ثانوي) مدرساً في المدارس فلذلك اطلعت على كتب التاريخ المنهجي، ومنذ تلك الفترة وحتى الآن أرى قديراً في أسطر قليلة مقارنة بدورها في احتضان ثورة كاملة وتزويدها بالرجال والعتاد ويضيف محدثي : لم أجد شخصية المك بوش، في التاريخ الذي يتم مدارسته في المدارس، وحتى المصادر التاريخية التي أرَّخت لتاريخ السودان لم يُحظ فيها المك بوش، ببضاضة مداد تكون وفاءً وتقديراً لدوره العظيم في تحرير السودان آنذاك .
قدير تمثل نصف استقرار السودان
ويمضي الأستاذ حامد بوش، في هذا الصدد قائلاً: قدير تمثل نصف استقرار السودان في ذلك الوقت، لأنها كانت بمثابة المدينة المنورة حينما جاء إليها الرسول الكريم وصحابته، وهم مستضعفون فقويت شوكتهم فبنوا دولة إسلامية جابت بصولاتها وجولاتها مشارق الأرض ومغاربها، وبنفس الحال جاء المهدي بثورة إسلامية إلى قدير، وهو مستضعف فأمطرت عليه مكوكية قدير وابل القوة والجبروت من مده بالرجال الأقوياء وتخصيص أراضي قدير لتكون مضماراً لتدريب المجاهدين، وأردف محدثي فيأتي التاريخ ويقول قدير ” كانت هجرة المهدي ” كأنه أتى بها عابر سبيل، ويقول الأستاذ الهادي علي النويري رئيس الشباب بالمنطقة: هناك مصادر تاريخية تناولت قدير في كتاباتها التاريخية، ولكن لم تكن بالقدر الذي يكافئ دور قدير في بناء الثورة المهدية.
هناك شخصيات تم تلميعها بعامل جهوي وقبلي وطائفي
التاريخ مجّد شخصيات وعمل على ذيوع صيتها بين الأجيال وعندما تغوص مستقرئاً أدوار هذه الشخصيات التي بُجحت في التاريخ تجد أدوارها لا تستحق سكب كل هذا الألفاظ، مع وجود شخصيات قامت بأدوار في الحركة النضالية للسودان أكبر من أدوار الشخصيات الملمعة ولكنها لم تحظ بسطور تعبِّر عن أدوارها التاريخية التي صاغتها بمجهودات جبارة، وذلك يُفسر أن كثيراً من شخصيات السودان التاريخية تم تلميعها بعامل جهوي وقبلي وطائفي، فكتبوا تاريخها بذهنية الحمية والتحيز، الحديث كان للأستاذ أحمد حسن بوش، أستاذ وعمدة في قدير، وطالب العمدة بإعادة كتابة التاريخ .
لماذا تعرضت قدير لظلم تاريخي بتغييبها عن التأسيس التاريخي؟.
سؤال طرحته لباحث في العلوم الإنسانية وأكاديمي الأستاذ الفاضل أمير حامد، فجاءت إجاباته متعددة استعرض خلالها عدة أسباب واقعية حملت غياب تام لدور المك بوش، في الثورة المهدية وغياب شبه تام لمنطقة قدير كالآثار والمعارك التي دارت فيها.
الحقب المظلمة لقدير
يقول الأستاذ الفاضل أمير حامد: إن التاريخ السوداني دوَّنه المؤرخون الأجانب، فلذلك تعرضت كثير من المناطق التاريخية في السودان خاصة في غربه لظاهرة الحقب المظلمة، أي عدم معرفة التاريخ في فترة من الفترات من قبل المؤرخين، وبذلك غياب الأحداث عنهم، وهذا ماحدث في قدير. وأضاف محدثي: البيئة الجغرافية صعبة الاختراق وقتذاك في مناطق جبال النوبة المتمثلة في وعورة الطرق وكثافة الغابات، بالإضافة إلى أنها كانت مناطق مغلقة تنعدم فيها حركة التنقل والتداخل مع الأقاليم الأخرى وقانون الطوارئ كان قيد التنفيذ. ويواصل محدثي: كل هذه العوامل شكَّلت حقبة مظلمة أحال دون تمكن المؤرخين لإدارك الحقائق التاريخية من قلب الحدث .
سياسية النخب الاقصائية
ويمضي الأستاذ الفاضل حامد أمير، مستعرضاً عوامل تغييب تاريخ قدير ومكها بوش، قائلاً : النخب الحاكمة في السودان تستخدم سياسة إقصاء الآخر بإخفاء أدواره التاريخية وتلمع أدوارها هي فقط، بغرض توسيع قاعدتها الجماهيرية حتى تنال من قاعدتها موضع تبجيل وتقدير، وذلك مافعله حزب الأمة، بالإضافة إلى أمية المواطن الموجود في تلك المناطق وذهنيته غير الواعية لقيمة التاريخ ساعدت على تغييب تاريخه.
الحكومات المتعاقبة قصدت تغييب تاريخ تلك المناطق
ويواصل الأستاذ الفاضل أمير حامد، إفادته قائلاً: الحكومات التي تساوقت على حكم البلاد تعلم تماماً أن التاريخ لم يكتب بصورة دقيقة خاصة في مناطق الغرب، فاكتفت بتلميع شخصيات معينة ويضيف محدثي من واجب الحكومات بعد علمها بأن مدونو التاريخ أجانب ولم يصلوا إلى موقع الأحداث ليتحروا الدقة، كان على الحكومة توجيه لجان مؤرخة تذهب لتلك المناطق وتكتب جلية التاريخ .
الشقاء البشري على أرض قدير
الداخل إلى المنطقة (قدير) يظنها قاحلة جادبة من الموارد الاقتصادية ولكن شأنها شأن السودان الدولة يمتلك المقومات الاقتصادية والبشرية التي تجعل منه دولة ذات سيادة سياسية ودبلوماسية في الإقليم الأفريقي والدولي، ولكنه يتبوأ مقعد البؤس والشقاء والاحتراب، فظل بتلك العوامل جليس التأخر والتخلف يصارع ثالوث الموت (الفقر ـ والجهل ـ المرض).
فقدير زاخرة بالموارد الاقتصادية الطبيعية كالرصيد المساحي الكبير من الأراضي الزراعية والرعوية والسعات الغابية الواسعة والتي تنبت فيها الأشجار المثمرة (الهجليج، التبلدي، الطلح، الهشاب)، فضلاً عن تكفل محمولها الرعوي بملايين الرؤوس من الأنعام، بالإضافة إلى الطبيعة الخلابة المتمثلة في السلاسل الجبلية المكتسية بالأشجار والحشائش والتي تكون على سبيل التوقع متجراً سياحياً يمد إناء مملوء بالمال السودان.
السطور التالية نقلت فيها مناخات الشقاء البشري في جزء من أجزاء بلدي الحبيب، أن كان هناك تنشيط وتفعيل لتلك الخدمات الاجتماعية والسياحية والمائية لنعم إنسان قدير والسودان عموماً .
قدير جاذبة للسياحة، ولكن هيهات
المعطيات التاريخية المادية التي شاهدتها بعيني من غار ودرع ونحاس وأطلال منزلية قديمة بالإضافة، إلى مسارح المعارك وماخلفته من أشواك الحديد للخيول ودروع في أرضها تجعل من قدير قبلة سياحية جاذبة للسياح، ولكن انعدام المقومات السياحية من تعبيد للطرق واستراحات ومتاحف ومنظومات إعلامية وحتى موروثاتها التاريخية منذ عهد دولة الفونج كالنحاس والكرنك تحتاج إلى صيانة وترميم، أما موروثات المهدية في قدير مثل المدفع الخشخشان والدرع والغار والبيوت تعرضت للصدأ والخراب بعوامل كر السنين وتعاقب الجديدين.
300 ألف جنيه تحافظ على هذه الموروثات من الاندثار
عندما رأيت هذه الآثار المهملة على أرض قدير والتي لم تجد العناية الكافية من الحكومة، إلا عناية يد تفتقر للإمكانيات والمهنية والمنهجية التي تجعل هذه الآثار في حالة عنفوان شبابي تقاوم تقلبات الدهر، وجهت سؤالاً إلى عمدة المنطقة الأستاذ أحمد حسن بوش، عن مبلغ مالي يحافظ على هذه الموروثات، فأجاب : 300000 جنيه، تحافظ على هذه الآثار من الدمار وإنشاء محميات أثرية لها حتى تظل بصورة جيدة.
نعاني من الهجرة الداخلية
أوضح الأستاذ الهادي علي النويري، رئيس الشباب بالمنطقة : إن هناك هجرة إلى الخرطوم بسبب انعدام العمل والمشاريع الإنتاجية التي تكفل استقرار الشباب، وأضاف : الشباب في المنطقة زمن استقرارهم خريفاً فترة الزراعة وبعد الحصاد تجبرهم البطالة للشروع في هجرة داخلية إلى العاصمة تستمر زهاء الثمانية أشهر، وعن الوصفة العلاجية لأبطال سرطان الهجرة من أجل كسب ما يعول قال النويري : قدير منطقة زراعية إذا وفرت لها آليات زراعية حديثة يمكن تكبح هجرات الشباب .
عدم وجود مدرسة ثانوية أحال الطلاب دون إكمال تعليمهم
يستطرد رئيس الشباب معدداً إشكاليات الشباب الاجتماعية قائلاً: ليس لدينا في المنطقة مدرسة ثانوية تحتضن الطلاب الناجحين فيضطر الناجح أو الناجحة للذهاب إلى كالوقي، وهناك لاتوجد داخليات تأويهم، وعندئذ يحدث عزوف عن مواصلة التعليم لدى معظم طلابنا، وشكا العمدة أحمد حسن بوش من عدم وجود مدرسة ثانوية بقدير، وأضاف: كثير من أبنائنا لا يواصلون تعليمهم بسب ذهابهم إلى منطقة كالوقي ليلتحقوا بثانويتها فيصطدموا بمسألة السكن، فيحدث مالا يسرنا وهو مغادرة التعليم ومضي عمدة المنطقة، مطالباً من يهمهم الأمر بإنشاء مدرسة ثانوية بقدير.
لدينا مدرسة أساس تفتقد الكادر والصيانة
وصلت إلى مدرسة قدير للبنين فوجدت بها بعض الحجرات الدراسية وتبدو عليها علامات الكهولة وعندما اختلست النظر نحو اليمين أدركت على لافتتها تاريخ تأسيسها مكتوباً بالأرقام الرياضية ويرجع إلى عام 1972م، وعندما استنطقت مديرها أحمد حسن بوش، فقال: تأسست هذه المدرسة منذ نميري الرئاسية، وكانت مرحلة ابتدائية، وأضاف : والآن هي مرحلة أساس، وعبارة عن خمسة فصول فقط، وليس لديها كادر تعليمي وسكن للمعلمين والمدرسة تحتاج إلى أعمال ترميم لأنها شاخت. ثم تحركت معه إلى مدرسة رابحة الكنانية للبنات فوجدنا بها نفس المعاناة من نقص في الكادر(المعلم) وسكنه، بالإضافة إلى حاجة المدرسة الملحة لترميم . وجهت سؤالاً لإحدى طالباتها عن نقص المدرسة، فأجابت : النقص متمثل في المعلمين والكتاب المدرسي، وأضافت بسبب نقص المعلمين فإن المواد الدراسية لم ندرسها إلى آخرها ويأتي الامتحان ونجلس على دروس بسيطة.
مسجد قدير يريد أن ينقض، مَن يقيمه؟
دلفت في تحقيقي هذا إلى مسجد قدير العتيق، فوجدته بصورة رديئة، وبه شروخ تحكي عن قدم تأسيسه وبه مبنى ملتصق به مكون من الحشائش يستخدمنه النساء لأداء الفريضة الجماعية (الصلاة) فتحدثت إلى إمامه الشيخ حمد إسماعيل، سائلاً إياه “من هو المقصر في عملية ترميم المسجد ” فأجاب: لقد قمنا بدورنا حيث أبلغنا حكومة المحلية والولاية عن متطلبات المسجد فأمرونا بتشكيل لجنة تُقيم مبلغ إعادة بناء المسجد، ويضيف محدثي: قيَّمنا مبلغاً لبناء المسجد ورفعناه للحكومة، ولكن التقصير كان منهم. ويسرد الإمام حكايته مع المسجد قائلاً : تعيَّنت في هذا المسجد إماماً منذ عشر سنوات، وفي فصل الخريف سقف المسجد لن يحدر الماء من النزول داخل المسجد. وأضاف: إن هذا المسجد تأسس منذ الرئيس السابق نميري وطالب الإمام ومجموعة من أولياء الأمور بإنشاء خلوة بالمنطقة لتحفيظ القرءان الكريم.
معاناة أهل المنطقة من العطش
شكا كل مواطن في قدير استنطقته في جولتي هذه، من معاناة العطش، وقال العمدة أحمد حسن بوش : في قدير أكثر من ثمانية آلاف نسمة، بالإضافة إلى آلاف الرؤوس من الماشية تتشاطر حصة مائية نتحصل عليها من حفير بالقرب من المنطقة، وعدد قليل من طلمبات الضخ المائية (المضخات) مما جعلتنا نعيش في دوامة من العطش .
لدينا خزان مياه صغير ومياهه ملوَّثة
تحدث إليَّ بلولة عبد الرحمن كومي، كاتب بالشؤون الهندسية قسم المياه الجوفية عن معاناتهم بسبب العطش، قائلاً: لدينا خزان مياه صغير (حفير) بالقرب من المنطقة، وفي فترة تجمع المياه فيه في الخريف، فإن المياه التي تتجمع فيه هي مياه خارجة من المنطقة حاملة معها القاذورات فأصبحت ملوثة بنسبة كبيرة، ولكن يجبرنا العطش لاستخدامها في الشرب والطبخ والغسيل. وعن مدة انتهاء مياه الحفير يمضي محدثي بلولة والإمام إسماعيل حمد إسماعيل، إنها تمسك الناس من العطش لفترة شهرين وتنتهي . ويقول محدثي مطالباً السلطات: لدينا روافد موسمية تأتي بالكثير من المياه، ويضيف: إذا حُصدت هذه المياه بإنشاء شبكة مياه نيلية (سدود وحفائر) لزالت مشكلة العطش في قدير.
المياه الجوفية في قدير بعيدة حلها يتم عبر شبكة المياه النيلية
ويمضي الكاتب في الشؤون الهندسية الأستاذ بلولة عبد الرحمن كومي، ناقلاً لنا ما ثقفه من فترة عمله في القسم الهندسي بالمياه الجوفية، قائلاً : إن مياه قدير الجوفية بعيدة جداً والدليل على ذلك تم حفر عدد من (الدوانكي)، ولم تضخ أي مياه وبعد دراسات أجريت على أرض المنطقة اتضح أن المياه الجوفية في أعماق بعيدة، فلذلك علاج هذا العطش يتم بإنشاء شبكة المياه النيلية.
الصحة العلاجية لا توجد
زرت مركز صحي قدير ووجدته أقل بكثير من عدد سكان قدير ويفتقد المعمل والدواء والكادر الطبي فتحدث إليَّ عمدة المنطقة عن هذه الرداءة الصحية بالمنطقة قائلاً: قدير عبارة عن وحدة إدارية تحتاج إلى مستشفى وكوادر طبية مؤهلة. وأضاف: نحن نعاني من عدم وجود الدواء وأجهزة الفحص، وتقول كلثوم علي وعجوبة صالح ممرضتان بمركز قدير الصحي : إن المركز يفتقد الدواء والمعمل وأقل حالة مرضية تُحوَّل إلى منطقة كالوقي.
//
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة التيار