جوبا – أميرة الجعلي
لعدة أيام صحف الخرطوم مليئة بالأخبار والتقارير التي تصور انفجار الأوضاع في جوبا، عاصمة جنوب السودان، وتتوغل الأخبار لتعكس حالة من تفشي الفوضى والقتال في الشوارع والانتقام على الهوية القبلية والعرقية، تواترت الأخبار ولَم يعد أحد يحفل باختبار صحتها، لكثرة تشابه قصص الاعتداءات الوحشية؛ خاصة بعد إقالة بول ملونق رئيس أركان الجيش الشعبي.. وصلتُ إلى جوبا وأنا مليئة بالهواجس والشكوك، وتخيلت أن الجثث تملأ الشوارع وتبادل إطلاق النار هو سيد الموقف، لكني فوجئت بمدينة هادئة، وتم استقبالنا بابتسامات عريضة، وكان مظهر الطائرات والحركة الجوية منتظماً، حسب جدول الرحلات المعلنة، وكانت هذه أول إشارة مبكرة بأن ظنون ومزاعم الاضطرابات ليست صحيحة على الأقل في الزمان والمكان الذي أتيت فيه إلى جوبا.. كان مرافقي من جوبا يذكرني كل مرة بأن الأزمة بين الخرطوم وجوبا هي سوء تفاهم عابر؛ لأن المصالح والعلاقات أكبر. كان مفاجئاً بالنسبة لي وجود سلسلة من الفنادق ذات الخدمات الجيدة التي تستقبل الضيوف من خارج جنوب السودان، مما يشير إلى كثافة حركة الزائرين وخدمات الفندقة للدولة الوليدة.
بول ملونق إطار الصورة :
قبل وصولي إلى جوبا، كنت على قناعة ويقين بأن بول ملونق هو الحاكم الفعلي لجنوب السودان، لقيادته للجيش الشعبي الذي لا يدين بالولاء إلا لقائده، وقد شهدنا في مقاطع الفيديو عقب الصراع بين الرئيس سلفا كير ونائبه السابق رياك مشار، أن الجنود كانوا يصرخون ويتصدون لهذا الهجوم مع توجيهات لتأمين حراسة منزل ملونق أكثر من سلفاكير، وظلت الاضطرابات في جوبا في صحف الخرطوم دائمة الارتباط بملونق، وأبرزت أيضاً عند إقالته أن الجنوب يشتعل، لكن المؤكد أن ملونق كان قوياً في السيطرة على الجيش بل استخدمه لتحقيق مصالحه الخاصة، حيث أجمع عدد ممن تحدثوا لـ(اليوم التالي)، على أنه كان بالفعل يتطلع لخلافة سلفاكير في رئاسة الجمهورية، لكن سلفا كان أسرع بإقالته، وكذلك إعادة تقسيم الجيش الشعبي وتأسيس هيئة قيادة مشتركة تخضع لوزير الدفاع، منعاً لتكريس ولاءات عسكرية جديدة، وأكد سلفا في مؤتمر صحفي أن بول ملونق حاول في البداية أن يقاوم حين غادر جوبا، إلا أنه استطاع أن يقنعه بالتراجع والعودة إلى جوبا مرة أخرى، ولعل الخبر الصادم بالنسبة للحكومة السودانية هو أن ملونق حاول أن يدق أسفينا جديدا بين الخرطوم وجوبا، عندما أسرع بإرسال قوات إلى أبيي بدعوى أن السودان ينوي إرسال قوات أيضا، لكن تدخلت القيادة السياسية في جوبا وأمرت بسحب القوات بسرعة، وانتشرت بعد إقالته قصص كثيرة تشير إلى تهوره؛ خاصة وأنه يعمل منفرداً دون تنسيق مع وزير الدفاع ولا يخضع لتعليماته، إضافة إلى ذهابه إلى البنك المركزي مصحوباً بقوة كبيرة، ودائماً يخرج بما يريده من أموال لصالح الجيش الشعبي دون تصديق أو تحقيق في أوجه الصرف تحت تهديد السلاح.
في جوبا لم أجد من بين السياسيين الذين قابلتهم من تحسر على إقالته، هذا إضافة إلى الاتهامات المتكررة من حكومة السودان بتورطه شخصياً في دعم وتوجيه التمرد، وتبدو الخرطوم سعيدة بهذا الإجراء رغم عدم اهتمامها بإعلان ذلك، وقد أكدت الأحداث أن القيادة السياسية ما تزال تدير الموقف بقوة وشراسة، وتخلصت من ملونق دون حدوث خسائر حتى الآن.
تعبان دينق رجل جوبا القوي:
قبل وصولي إلى جوبا، لم أكن أعير اهتماماً للوزن السياسي الذي يتمتع به تعبان دينق، النائب الأول لرئيس جمهورية الجنوب، وكان لنتائج زيارته للخرطوم والتصريحات التي أطلقها دور كبير في تباعد الموقف السياسي بين جوبا والخرطوم، ولكني عندما وصلت إلى جوبا اكتشفت أن هذا الرجل يملك تفويضا واسعا من سلفاكير، الأمر الذي مكنه من إدارة الملفات المهمة، بما فيها ملف السودان. بعد تحديد موعد لإجراء مقابلة معه، لم يطلب مني مكتبه تسليم الأسئلة كما لم يشترط عليّ أي شيء، وشاهدت كثرة الزائرين له والملفات الموضوعة في طاولته، الأمر الذي يؤكد أهميته السياسية في إنفاذ إدارة الملفات، وتوقعت قبل ذلك أن يشهد الجنوب انشقاقات عنيفة وسط النوير، وعلى عكس التوقعات أصبح تعبان من المقربين لسلفا الذي منحه سلطات واسعة، ربما أشبه بالصلاحيات الممنوحة للنائب الأول لرئيس جمهورية السودان بكري حسن صالح، بموجب التعديل الدستوري الأخير، وقد كشف لي في المقابلة التي نشرت هنا (الأحد) عن مواقف وأسرار تروى للمرة الأولى، منها شكاوى الحكومة السودانية من وجود بنك الجبال في جوبا، وقال إنه سبق وأن أمر البنك المركزي بإغلاقه، لكنه رفض وأحال الملف إلى وزارة العدل، كذلك عن وصول مبعوث من السودان لجوبا للتفاكر حول الخلافات والتأكد ما إذا كانت جوبا تستضيف الحركات المسلحة السودانية أم لا.
لا شك أن تعبان دينق يمثل في هذه اللحظة الراهنة القنطرة السياسية بين السودان وجنوب السودان، وهو شخص أصبح من الصعب تجاوزه في أي ترتيبات سياسية قادمة في جنوب السودان. في المقابل، ظلت الحكومة السودانية تنادي بأهمية إشراك مشار في العملية السياسية، الأمر الذي ربما يقلق تعبان، ومن أبرز إفاداته كانت تحوي رغبة جوبا في التعاون مع الرئيس البشير.
الواضح أن تعبان دينق يكرس لموقفه السياسي المستقل في الحياة السياسية في جوبا، وأن مصيره في البقاء أصبح مرتبطاً بسلفاكير، ووعد بتحقيق تحول نوعي في اقتصاد الجنوب خلال ستة أشهر، وأوضح متحدثون للصحيفة من جوبا أن العلاقة بين ملونق وتعبان كانت متوترة، الأمر الذي أعاق كل جهود تحسين العلاقات مع السودان طيلة الفترة الماضية، وتوقعوا أن تكون لتعبان فرصة لإعادة النظر في الملف بهدف تحسين العلاقات، على عكس ما كان يقوم به ملونق .
أحداث “الجي ون”:
أثناء تجوالي في المدينة وقفت على آثار الاشتباك العنيف في حوائط القصر، مما يشير إلى أن روح الانتقام المتبادلة بين الفرقاء، وهو أمر لا يريد أي مواطن في جوبا معايشته مرة أخرى، خوفاً من عودة القتل والفوضى مرة أخرى، كانت الأحداث في هذا المبنى قد وضعت حدا فاصلا في التاريخ السياسي في جنوب السودان، وعمقت من الصراع القبلي، الأمر الذي أدى لأنْ تصفه الأمم المتحدة بأنه جرائم .
حافة الإفلاس الاقتصادي:
مع وصول الدولة إلى حافة الإفلاس الاقتصادي وانعدام السلع والخدمات وتدني إنتاج البترول، توقف الإنتاج الزراعي البسيط وأصبح المواطنون يعتمدون على منظمات الغوث الإنساني، وفِي ظل هذه الظروف باتت حركة الأسواق معقولة، لكن ظل مواطن جنوب السودان يثق في البضائع التي تأتيه من السودان أكثر من تلك التي تأتي من كينيا أو يوغندا، وظل التاجر الشمالي محل ثقة وتقدير بل شخصاً موثوقاً به لحفظ الأموال، ويرتبط بعض السودانيين بتجارة الجملة، ولكن ظروف الحرب قللت من تدفق البضائع السودانية، والتاجر السوداني رغم اضطراب الأوضاع السياسية بين الدولتين إلا أنه مصدر ثقة ويرفض أغلب السودانيين العودة إلى مناطقهم في السودان. وحسب إفادات بعضهم أن المضايقات التي كانوا يتعرضون لها في السابق زالت مؤقتاً، كما أن التزواج والتصاهر ما يزال مستمرا ويتسع، وأن مستقبل التعاون الاقتصادي بين البلدين يعتمد على طبقة التجار الذين اكتسبوا ثقة المواطن الجنوبي .
استخدام السلاح :
أفاد مواطنون استطلعتهم الصحيفة بأن الأفراد يحتفظون بالسلاح للدفاع عن أنفسهم بعد أحداث الفوضى الأخيرة، مما دفع الرئيس سلفاكير لإصدار قرار يخول لكل فرد استخدام السلاح للدفاع عن نفسه، إذا تم الاعتداء عليه، كما قصد القرار الحد من انتشار الأسلحة في أيدي الأفراد.
المشهد العام يشير إلى أن هناك تضخيماً في تناول جوبا العاصمة بكثير من التطفيف، وذلك لغياب المعلومة عن الصحف، الأمر الذي يثير حفيظة سياسيي جنوب السودان الذين ظلوا يوجهون انتقاداً لاذعاً لها.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة اليوم التالي