الملايين الحقيقية التي خرجت نهار الخميس 19 ديسمبر بعفوية وثورية وغير محشودة أو مدفوعة الأجر في كل مدن السودان الكبرى، تؤكد عزيمة وإصرار الثوار على المضي حتى النهاية إلى التغيير الديمقراطي المدني الشامل، وهي بهذه الحشود المليونية والإصرار والعزيمة، ترسل إشارات قوية في كل الاتجاهات أولها أن لا عودة إلى أي شكل من أشكال النظام البائد، وثانيها إلى مكونات الحكم في المجلس السيادي ومجلس الوزراء، وإلى قيادات الحرية والتغيير بأنهم ضد التخاذل وضد الهبوط الناعم، الذي يحجب المحاسبة على كل الجرائم المرتكبة منذ 30 يونيو 1989 حتى 3 يونيو 2019 عند فض الإعتصام، بمؤامرة خبيثة وغدر سيء أدى على إزهاق أرواح طاهرة وإهراق دماء عزيزة غالية لشباب عشق الوطن والحرية والعدالة والسلام.
هذه الجموع المليونية خرجت تطالب في شعار واحد هو القصاص لكل من شارك أو نفذ أو علم بمؤامرة فض الإعتصام، حتى وإن كان بعض مكونات الحرية والتغيير.. أنا أجد نفسي متعاطفاً مع هذه الجموع صاحبة الضمائر الحية، ولا أجد تفسيراً للغدر الذي حدث في فض الإعتصام، وأتساءل لماذا لم يطلب المجلس العسكري الإنتقالي الحاكم آنذاك من قيادة الحرية فض الإعتصام سلمياً بإقناع المعتصمين بالتفرق والعودة إلى منازلهم طوعاً لا كرهاً، خاصة بعد أن نجحت الثورة ووصلت رسائل الثوار إلى كل العالم، أسوة بما حدث عندما طالب المجلس- (بعد أن أوقف التفاوض)- قيادات الحرية والتغيير بإزالة المتاريس، وبالفعل تحرك قادة الحرية والتغيير ونجحوا في إقناع الثوار بإزالة المتاريس في فترة قياسية.. لماذا الغدر الجبان وإزهاق أرواح الشباب العزّل الصائمين؟ ستظل أرواحهم تلاحق كل من خطط أو شارك أو علم بفض الإعتصام، ولن يسلم هؤلاء من عقاب في الدنيا والآخرة، وسوف يظهر عقاب الدنيا فيهم عاجلاً.
بعد هذه المقدمة التي لا تخلو من رؤى ومشاعر عاطفية حزينة مؤثرة، نعود إلى صوت العقل ونحلل بواقعية متجردة مواطن التوفيق والإخفاق في مسيرة الثورة في عامها الأول.
تقرير٬عمر البكري أبو حراز
الإيجابيات والتوفيق:
أولاً: قام تجمع المهنيين السودانيين بقيادة الشارع باقتدار منذ سبتمبر 2013 وواصل النضال المنظم في توعية الجماهير حتى تحقق العقل الجمعي في منتصف عام 2018م، والذي تحول إلى الخروج للشارع في مواكب هادرة في كل أنحاء السودان خاصة في الدمازين، القضارف وعطبرة، وسط قمع أمني استعملت فيه كل أنواع القوة المفرطة، التي أفضت إلى استشهاد المعلم أحمد الخير في خشم القربة عقب تعذيب جسدي بشع لم يسبق له مثيل، لكن العقل الجمعي القوي واصل الثورة في عطبرة والخرطوم ومدني، تحت قيادة منضبطة من تجمع نقابات المهنيين الذي توسع بانضمام أحزاب سياسية، وأصبحت القيادة تحت مسمى قوى الحرية والتغيير وذلك في يناير 2019.
ثانياً: نجحت قوى الحرية والتغيير في حشد جموع مليونية في كل أحياء العاصمة والمدن الأخرى، تحت تنظيمات لجان المقاومة في الأحياء التي أبلت بلاء حسناً خاصة في البراري، جبرة، الكلاكلات، العباسية، أبو روف، الثورات في أم درمان وشمبات والحلفاية في بحري وغيرها من الأحياء، حتى بلغت الذروة في السبت 6 أبريل عندما احتشد أكثر من ثلاثة ملايين حول القيادة العامة للجيش، ونفذوا اعتصاماً رهيباً حتى انحازت القوات المسلحة والدعم السريع إلى الثوار وتم اعتقال البشير في فجر 11 أبريل وإعلان الإستيلاء على السلطة في نهار نفس اليوم .
استمر الإعتصام لأكثر من شهرين كحدث فريد غير مسبوق في العالم.. ملايين الثوار في اعتصام منظم متماسك حتى تم فضه بالغدر البشع، الخالي من كل قيم وأخلاق السودانيين والإنسانية جمعاء- كما أشرت اليه.
ثالثاً: من الإيجابيات التي تحققت بداية التحول المدني الديمقراطي بتكوين المجلس السيادي ومجلس الوزراء، بالرغم من التأخير الذي أضر كثيراً بتحقيق شعارات الثوار، ومن الإيجابيات التي حدثت مؤخراً بداية المحاسبة وتفكيك النظام المباد.
رابعاً: من الإيجابيات بداية الانفتاح على العالم، وفك العزلة الدولية، والتي توجت بترفيع التمثيل الدبلوماسي بين السودان وأمريكا إلى درجة سفير، ونجاح اجتماع أصدقاء السودان من 23 دولة فيها أمريكا والإتحاد الأوروبي، وكذلك تلقي الدعم المقدر من السعودية والإمارات.
الأخطاء والإخفاقات:
أولاً: الإقصاء غير الموفق لبعض التنظيمات والأحزاب الإسلامية التي عارضت النظام المباد بضراوة، الأمر الذي أدى إلى خلق معارضة للثورة كانت متفقة مع شعاراتها وعارضت النظام المباد بشراسة متواصلة مثل المؤتمر الشعبي، الإصلاح الآن، منبر السلام العادل، وشخصيات مثل محمد علي الجزولي.. المؤتمر الشعبي تم سجن مؤسسه الراحل د. الترابي لفترات طويلة، خاصة عندما طالب البشير بتسليم نفسه للمحكمة الجنائية الدولية، شارك المؤتمر الشعبي في كل تظاهرات الثوار منذ بداية الثورة في منتصف ديسمبر 2018، شارك في بداية الشرارة الحقيقية في 13 ديسمبر 2018 في الدمازين، والتي استشهد فيها عضو المؤتمر الشعبي في كسلا المعلم أحمد الخير في أبشع عملية تعذيب من أفراد جهاز أمن النظام المباد.
الإصلاح الآن تمت محاربة قياداته حتى في أرزاقهم مثل د. غازي صلاح الدين، والأستاذ حسن رزق الذي خاطب سرادق أحد شهداء بري بأقوى تعابير الشجب والإدانة للنظام المباد، والذي كان حتى ذلك الوقت جاثماً على صدر الأمة السودانية، وختم حسن رزق حديثه بإشارة (تسقط بس) شعار الثوار.
مثال آخر د. محمد علي الجزولي الذي يعتبر من أكثر الذين تمت محاربتهم واعتقالهم لفترات طويلة جداً بواسطة أجهزة أمن النظام المباد.. هذه المعارضة الصديقة كان من الممكن استيعابها حتى تزيد من قوة دفع الثورة وتحقيق شعاراتها نحو التحول الديمقراطي المدني- (حرية سلام وعدالة)- هذا الإقصاء غير الموفق شئنا أم أبينا عمّق الفجوة بين رؤى الحرية والتغيير وشريكه المكون العسكري حتى اليوم.
ثانياً: لم توفق قوى الحرية والتغيير في التقاط إشارات الفريق حميدتي الواضحة بأنه داعم وضامن للثورة، وإن أعداءه وأعدائهم جهة واحدة، وأن فض الإعتصام كان فخاً كما ذكر في أحد لقاءاته، وأخيراً الأسبوع الماضي صرح بأن فض الإعتصام كان انقلاباً، وأن النام المباد أجبره بقبول أكثر من 200 ضابط منهم رتبة لواء شارك بفعالية في فض الإعتصام وقتل الثوار، وأكد مجدداً أنه داعم وضامن للثورة حتى اليوم، لأن مصيره ومصير الثوار واحد في حال حدثت أي انتكاسة.
ثالثاً: أخفقت قوى الحرية والتغيير في طريقة اختيار الوزراء باعتمادها السيرة الذاتية أو العلاقات الشخصية مع المرشحين، لذلك نجد قصوراً واضحاً في أداء بعض أعضاء مجلس الوزراء، مما حدا بهم إلى المطالبة بتعديل وزاري، وخير دليل على خروج أسس الترشيح عن المعايير هو استقالة عضو اللجنة الجسور محمد عصمت.
رابعاً: بروز تباين وعدم ثقة بين مكونات الحرية والتغيير، أدى إلى ابتعاد الحزب الشيوعي كثيراً وإرساله اتهامات بالغة الخطورة لبعض أفراد ومكونات الحرية والتغيير.
خامساً: إعادة انتاج كل سياسات وتكتيكات النظام المباد في الوصول الى اتفاق سلام شامل مستدام، أساليب الغرف المغلقة والتفاوض الفردي مع مكونات الفصائل، والتركيز على تقسيم السلطة والنواحي الأمنية، وإهمال النواحي الإنسانية والاجتماعية لمعاناة النازحين والمناطق المتأثرة بالحرب.. عليه لا أتوقع الوصول إلى سلام شامل ومستدام في مفاوضات جوبا الحالية.
خارطة طريق عملية.
أولاً: إعادة النظر في أداء الوزراء وإجراء تعديل وزاري عاجل يزيل كل قصور في أداء الوزراء.
ثانياً: وقف مفاوضات جوبا والدعوة إلى مؤتمر مائدة مستديرة في الخرطوم يضم كل فصائل النزاع المسلح وأحزاب المعارضة في دارفور والمنطقتين، للتوصل إلى إجماع أو شبه اجماع على وقف القتال نهائياً، واستيعاب قوات الفصائل في الجيش والشرطة والخدمة المدنية، مع وضع جداول أولويات لإعادة تأهيل المناطق المتأثرة بالحروب، وتحديد تعويضات النازحين، على أن يترك توزيع السلطة إلى ما تفرزه الانتخابات القادمة، بمعنى ألاَّ يشمل الإتفاق في الفترة الإنتقالية أي محاصصات في السلطة.
ثالثاً: الإسراع فوراً وعقب انتهاء مؤتمر المائدة المستديرة في تكوين المجلس التشريعي والولاة، كل ذلك يتم قبل نهاية مارس 2020.
رابعاً: تقديم كل من تورط بالعلم، المشاركة والقتل في فض الإعتصام إلى محاكم ميدانية إيجازية عسكرية عادلة أيضاً، في أو قبل نهاية مارس 2020 بعدها يعيد الثوار النظر في كل من اتهمتهم أو برأتهم من الضلوع في قتل ثوار الإعتصام.
خامساً: تحديد سياسة خارجية واضحة المعالم، وواجبة التنفيذ تفضي إلى انفتاح السودان على العالم خاصة أمريكا والاتحاد الأوروبي والسعودية والإمارات.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة آخر لحظة