السودان الان

دلتا القاش.. المشروع الذي كان!!

مصدر الخبر / جريدة التيار

الحلقة الأولى

أروما أغنى تربة في أفريقيا وأفقر مناطق السودان والدولة دفعت المُواطن للتحول من مُنتج إلى عَالة

“””””””””””””””””

المزارعون يُهاجمون: دلتا القاش مُشكلته إدارية بحتة وإدارته الحالية نكرة، وبعد انهيار المشروع أصبحنا نعيش على الفتات، ونزح كثيرون ليعمل في مهن هامشية بالولايات الأخرى

“””””””””””””””””

معتمد أروما يدافع : إنهيار المشرع أثر على المنطقة، ونعم سوق أروما متردي لكن أسواق الخرطوم كذلك

“””””””””””””””

مُواطن يتذكّر: المدينة كانت تعج بالتجار الحضارمة والأثيوبيين والأرتريين، والقطار يأتي بالبضاعة مخصصة لأروما من بريطانيا

“””””””””””””

هذا التحقيق يصلح كـ (عرضحال) وطني يُوضِّح بجلاءٍ كيف تَواطئت الحكومات المُتعاقبة على تدمير تلك المشاريع النضرة وكيف قتلت بلا رحمة جَرّاء ذلك كل امل للمواطنين في غدٍ أفضل.. هذا المنطقة التي وقفنا على حالها المُزري البائس كانت درة ذات يوم يأتيها عيشها رغدا من كل جانب، لكنها اليوم تبدلت لأسوأ حال، لم تدع لأصحابها سوى الحسرة وما تبقى من الذكريات بعد أن تجرّعت مرارة الفشل واخفقت كل محاولات انقاذ المشروع (الذي كان) وآخرها محاولة منظمة (إيفاد) لإعادته الى سابق عهده.. مشروع دلتا القاش الذي كان ملء السمع والبصر في السنين الخوالي تحول بفعل السياسات الخرقاء ليصبح أثراً بعد عين، كيف حدث هذا ومَن هو المسؤول؟!

تحقيق: نور الدين جادات

كثر الحديث عن مشروع دلتا القاش مساحته ومحاصيله، لكن هذه المرة نستعرض الوجه الآخر للمشروع، الوجه الأكثر أهميةً وهو مواطن المشروع ومزارعه، مدينة أروما التي يقع فيها المشروع كانت أكثر المناطق تأثراً بانهياره، فمواطن أروما الذي يمتهن الزراعة لم يجد بديلاً غير النزوح لولاية الخرطوم والولايات الاخرى للعمل في مهن هامشية أكثرها بيع الشاي والقهوة.. بحسب مُواطنين، فالمدينة كانت تضج بالتجار من مُختلف المناطق ويقصدها مواطنو دول الجوار للعمل بها، لكن الآن تحوّلت ببساطة لمنطقة جرداء لا يسكنها إلاّ القليل في ظُروفٍ سيئةٍ، قصة انهيار كامل سنقوم بسردها بالتفصيل.

الخطوة الأولى

توجّهتُ من الخرطوم صوب ولاية كسلا، الولاية الشرقية التي كانت يوما من الايام رافدا غذائيا لا غنىً عنه للسودان أجمع، وما أن تذكر هذه الولاية إلاّ ويتبادر الى ذهنك ذاك المارد الجميل، الذي يسري في عُروق كل سكانها وهو نهر القاش، وبما أنه يفيض خيراً وجب الاستفادة منه باعتباره مورداً عذباً نادراً، كان مشروع القاش الزراعي الذي ذاع صيته لوقت قريب، ذلك الوقت القريب كانت كسلا ترقد تحت خيراته الوفيرة، فكانت مصدراً للسودان أجمع ومقصداً للعمال من مُختلف ولايات السودان المختلفة ودول الجوار من أثيوبيا وأريتريا الذين يقصدون العمل في هذا المشروع.. وصلت لولاية كسلا أو كسلا المدينة في الخامسة مساءً، كنت مُتحمِّساً بالذهاب إلى أروما مُباشرةً، إلاّ أنّني أعلمت أن الوصول إليها بعد هذا الزمن غير ممكن وبالغ الصعوبة.

الطريق إلى أروما

أروما الواقعة على ضفة نهر القاش، يَعيش سُكّانها الآن على هامش الإنتاج برغم عزة مُواطنها التي كانت جلية خلال التعامل، لكن يخبرك الحال أنه لم يعد كالسابق، أثناء زيارتي ذكر عدد من مُواطنيها ومن عاشوا أو كانو على معرفة بتاريخها القديم الوضع الذي كَانوا يَنعمون به أيام المشروع، لذلك كانت هي مَقصد الزيارة والوجهة.

أروما التي تقع على ارتفاع 443 متراً فوق سطح البحر وتبعد عن الخرطوم العاصمة حوالي 433 كيلو متراً (269 ميلاً) شرقاً، وعن مدينة كسلا حاضرة الولاية بحوالي 49 كيلو متراً (30 ميلاً)، تُعتبر إحدى النقاط الرئيسية في خط السكك الحديدية الذي يربط أواسط السُّودان بميناء بورتسودان عبر مدينة كسلا، كما تُشكِّل نقطة تجمع وسُوقاً لرُعاة منطقة نهر القاش.

تلك المدينة كانت المركز الرئيسي لمشروع دلتا القاش الزراعي، برغم كل ذلك الزخم، إلاّ أنّها الآن لا توجد لها مُواصلات بعد الخامسة مساءً، لذلك كان لزاماً علي أن أقضي يومي بكسلا المدينة ثم التوجه صباحاً الى اروما، قضيت ليلتي بكسلا ثم توجهت باكراً الى مقصدي.

الجواب يكفيك من عنوانه

كما يقول المثل تماماً، فإن الجواب يبيِّن لمُستقبله من عنوانه، كان ذلك التردي هو أول مشهد ما يتبادر للشخص القادم إليها، تجمعات كبيرة لأشخاصٍ في مساحة متسعة بها مطعم كبير ومنطقة يبدو عليها البُعد التاريخي ظاهراً من خلال المباني الأثرية المهملة الآن، فتجد أن المباني من زمن الاستعمارالإنقليزكما ينطقونها، وحسبما ذكر لنا مرشدنا، إلا أنك تجدها قد عدلت وأصبحت مقهىً يتجمع فيه الأهالي من مختلف أنحاء المدينة، توجهت للسوق في جولة لدقائق، كشفت التردي الذي يعيشه مواطن المحلية.

عن المشروع نحكي

جلست مع مجموعة تجاذبنا أطراف الحديث عن أروما وتاريخها، صعقت من الحكايات التي سمعتها عن هذه المنطقة الصغيرة حجماً، مُقارنةً بغيرها، الغنيّة بتاريخها باعتبارها تَحتضن أغنى تربة في أفريقيا ، كما قرأتها عزيزي القارئولكل أن تتعجّبأروما تصنف تربتها بأنها واحدة من أغنى انواع التربة في القارة الأفريقية لكن المفارقات جعلت منها أفقر مناطق السودان..!

المواطن أحمد عبد الله أوشيك يقول متحسراً: لسوء الإدارة فقط الآن اروما ومشروع القاش تعرضا لأبشع أنواع الاهمال مما كانت نتيجته المتوقعة هو الانهيار بشكل كامل، بوصف دقيق قال عبد الله: ببساطة هي مثال عندما تجبر الدولة المواطن التحول من منتج إلى مستهلك، بل إلى عالة قالها بطريقة تضج بالحسرة والالم حتى ظننته سينفجر بالبكاء..!!

مشروع القاش

منطقة أروما بشكل كبير تعتمد على الزراعة، ومشروع دلتا القاش الزراعي كان بمثابة الحبل السرى للمدينة للمواطن ومصدر رزقه الوحيد، فطوال السنين الماضية كان مواطنو المنطقة عبارة عن مزارعين فيه أو أضعف الإيمان عمال يعود عليهم ما يجنونه من مال بشكل مباشر، وهو دخل قادر على أن يعيشهم في مستوى أفضل. كما سنروي في حلقاتنا القادمة.

انهيار المشروع!

كما ذكرت مسبقاً، لأهمية المشروع للمدينة فانهياره يعني انهيارها بشكل مباشر، بجانب تأثيرة العام على الولاية وعلى السودان بصورة أعمّ باعتباره داعماً للاقتصاد القومي، المواطن حسين أونور أوضح أنّ مشروع القاش هو مصدر الرزق الموحد لمواطني الولاية عامة وبعض العمال من دول الجوار، ويضيف حسين: الأمر الآن بمثابة الصدمة للكثيرين، فإنسان المحلية لعهدٍ قريبٍ كان يعيش في مُستوى أفضل بكثيرٍ من مناطق أخرى، لكن انهيار المشروع غير المُسبِّب هو ما جعل الوضع يتراجع بهذه الطريقة المُزرية، أنا شاهد على عهد المشروع كان في أفضل حالاته، برغم صغر سني آنذاك، لكنني أذكر كيف كانت هذه المدينة عامرة بالعمال والموظفين من مختلف الأجناس.

تاريخ

المنطقة صاحبة تأريخ يتضح ذلك بمجرد رؤيتك للمباني، فهي تدل على قدم وتاريخ ليس بالقريب، حسين بدا مُستاءً مما آلت إليه أحوال المدينة بقوله: الآن بعد تردي المَشروع أصبحت المدينة كما ترى تعيش على فتات الرزق، فالمشروع يعمل بأقل من نصف قدرته الإنتاجية.

تباكٍ ونزوح

كل مُواطني أروما يجتمعون لتناول القهوة في شكل جماعات صباح كل يوم، فالسوق الذي يقدر مرتاديه بـ 300 شخص يجتمع فيه الجميع منذ الصباح حتى الثانية عشرة ظهراً بعدها تكاد لا ترى شخصاً إلا من عابري الطريق. المزارع أحمد طاهر من أبناء المحلية ذكر أن مواطني المنطقة مزارعون محترفون وهي مصدر رزقهم الوحيد، لكنه جميعهم الآن غادروها الى أماكن أخرى، ومن المفارقات أن المدينة كانت تضج بالمزارعين من مختلف الولايات والحضارمة، والبضائع كانت تأتي من بريطانيا على وجه الخصوص لهذه المنطقة أروما، لكن بمجرد قيامك بجولة في المكان ستكتشف كيف أثّر غياب المشروع على الحياة بصورة عامة، الآن لا حضارمة لا أجانب ولا حتى سودانيين من مختلف ولايات السودان، بل حتى أبناء المنطقة نزحوا للعمل في مهن هامشية بالخرطوم وهو الامر الذي لا يُصدّق..!

لأن الشخص الذي كان يساهم في خزينة الدولة ويدفع بعجلة الاقتصاد بفضل من هم على دفة المشروع أصبح يعيش على هامش الحياة، بل بعضهم أصبح عالة على الاقتصاد..!

أروما.. الوجه الآخر!

رغم حكاياتهم الحزينة التي تثقل القلب، حرصت على التجوال في المدينة مجدداً هذه المرة برفقة أحد مواطني المنطقة وأصبحت أقارن بين ما سمعت وبين ما كنت أراه أمامي، فالسوق لم يعد ذلك الذي يمتلئ بالحضارمة والاريتريين والأثيوبيين ولا المُواطنين من مختلف ولايات السودان، بل انحصر في منطقة صغيرة جداً، تُحيطها الحمير والسعف وعدد كبير من الأطفال، بالجانب الآخر سوق الخُضر واللحم وهو ما يرثي عليه، فهو سوق ليس به أقل مقومات الأسواق، الجميع يفترش على الأرض، المأكولات، الألبان ويحوم حولها الأشخاص والحيوانات.

عند مقابلتي لاحقاً معتمد المنطقة، أثرت هذه النقطة لكنه اجاب باقتضابلا شك أنّ انهيار المشروع أثّر على القرية، لكن أسواق الخرطوم بها هذه الظواهر“..!

أجبته بأنه لا يعني أن ولاية الخرطوم تعيش في تردٍ، ولا يعطي المبرر لسوق أروما أن يكون مثلها سوءاً.

أكملت جولتي في السوق وتوجهنا الى مكان القهوة مجدداً فهو تقليد شرقاوي أصيل لا بد من اتباعه.

تردٍ عام

تجوّلت مرةً أخرى حول المنطقة، لكن بمفردي، فهي متباعدة المباني نوعاً ما، كذلك لا توجد بها مواصلات، ذهبت الى مركز صحي بالمنطقة يبدو أنه الاجمل في المدينة ويعمل على أكمل وجه والوضع يسير فيه بشكل سلس، لكن لم تستمر فرحتي طويلاً حتى دخلت الى ناد رياضي جوار المركز، حدث ولا حرج النادي الذي يبدو عليه تاريخه الطويل من المباني، إلا انه بلا أبواب وشبابيك وجزء من جداره الذي يفصله عن الشارع منهار تماماً، وبمجرد دخولي فُوجئت بأغنام ترعى داخل النادي وحمامات منهارة هو ما يغنيك عن السؤال عن حال الرياضة بهذه المنطقة التي لا ينفصل فيها هذا الحال عن مجمل الأوضاع..!

تعايش برغم الظروف

النسيج الاجتماعي في أروما برغم ما آل إليه الوضع الاقتصادي، إلاّ أنّه متماسك كباقي مدن السودان تماماً، ويعيش الجميع في حالة من الوئام والعلاقات الجيدة، ما دفعني لذلك هو العلاقات المُتميِّزة جداً بين مُواطني المنطقة من خلال هذه الأيام البسيطة، وما يعزز ذلك إنني كنت في بحث مستمر لمقابلة معتمد المنطقة واعتزمت ذلك خلال اليوم، وقررت الذهاب إليه بمقر المحلية، الظروف قادتني بإصرار مواطن من مواطني المحلية بدعوتنا لمناسبة خاصة، توجهنا لها وعندها فُوجئت بحضور جميع مواطني المنطقة بما فيهم قيادة الشرطة والمعتمد نفسه، قابلت المعتمد وتواعدنا على لقاء سيكون لاحقاً خلال ساعات.

أجواء مُختلفة

المنطقة لبُعدها الجغرافي عن كسلا ومُتاخمتها للقاش اكتسبت أجواءً مختلفةً، ففي زيارتي برغم انها منتصف شهر فبراير، إلاّ أنّ الأجواء كانت غائمة وبعض الاحيان وجود أتربة بحسب المواطنين الذين ذكروا أن الاتربة معتادة بهذه المنطقة، لكن ما يُستغرب هو هطول أمطار خفيفة وأنا بالمنطقة ما جعل الأجواء جميلة. لكنني لاحظت ان لا احد انتبه او اكترث لتلك الأجواء، لقد كان كل شخص غارقاً في همه الذي اثقل كاهله..!

تمثيلٌ حكوميٌّ.. ولكن!

لم أتخيّل أن يكون التمثيل الحكومي بهذه الصورة، فالمعتمد الذي يمتطي الفارهة التي سمّاها لي أحد الشباب بلهجة أهلنا في الشرقالاوباما ما تعرف، تساءلت في نفسي أن قيمتها تكفي لقيام سوق جديد كلياً بالمحلية غير المُخصّصات، دخلت للمعتمد وأول ما سألته عنه هو التردي المريع في البيئة الظاهر للعيان، أجاب المُعتمد أنّ المحلية تبذل جهوداً كبيرة في مُعالجة البيئة بالمنطقة وأكبر دليل على ذلك هو حملات الرش وإصحاح البيئة المتواصل التي تقوم بها المحلية في المنطقة بشكل دوري، ودافع المعتمد عن السوق عندما سألته أن السوق غير لائق طبياً؟.. حسب تعبير أصحاب الحقل الطبي، المعتمد دافع عن أنّ السوق بسيط فعلاً، وتوجد رقابة عليه برغم محدوديته وتسعى المحلية لتأهيله، لكن على عدة مراحل أولها سيكون خلق بدائل لأصحاب الحمير والبهائم والآن حصرتهم المحلية وتقوم بدراسة تمليكهم بدائل لها.

في الحلقات القادمة نواصل الحديث عن المشروع بالتفصيل بجانب قضايا الصحة في المنطقة والإجابة على السؤال الصعب كيف كان المشروع ولماذا صار الى ما هو عليه الآن ومن هم المسؤولون وراء هذا الدمار..؟!

يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة التيار

عن مصدر الخبر

جريدة التيار