الخرطوم – أحمد محمد السنوسي
في العهد المايوي اصطدم رجال الصحافة السودانية بقوانين ولوائح قمعية، حاولت تقييد حرية الصحافة والصحفيين بصورة تعدت حال الصحافة عند إصدار السلطة الاستعمارية أول قانون للصحافة في السودان عام 1930 وما لحقته من قوانين شرعت إبان الحكومات الوطنية المتعاقبة على الحكم في البلاد، والتي كان معظمها ينظر إلى العلاقة بين السلطة والمثقف على أنها علاقة متماهية، يكون فيها المثقف بوقاً للسلطة يسبّح بحمدها صباح مساء، ويدافع عنها دفاعاً مستميتاً، وإلا تكون العلاقة منقطعة تماماً تقوم – كما يقول الأستاذ عثمان شنقر – على المعارضة الصريحة الواضحة, وفي الحالين فإن الخسارة فادحة، وإن الوطن هو الخاسر الأول في هذه العلاقة المعوجة. بهذا الوضع ظلت العلاقة بين السلطة والمثقفين من جهة وبين السلطة والصحافة من جهة أخرى منذ تكوين الدولة الحديثة في السودان حتى العهد المايوي الذي اجتهد في تقييد حرية الصحافة ومحاربة الأقلام الشريفة بشتى السبل القمعية التي حملت العديد من الصحفيين على مغادرة البلاد، ولكن النظام كان يلاحقهم حتى في خارج البلاد، وتختزن لنا ذاكرة التاريخ القصة المأسوية التي راح ضحيتها الصحفي محمد مكي، مؤسس وناشر ورئيس تحرير صحيفة (الناس)، الذي أثارت حياته جدلاً واسعاً ومماته جدلاً أوسع، والقصة كما ترويها صحيفة (السوداني)، لم تكن مجرد قصة اغتيال سياسي، لكنها كانت جريمة اختطاف لرجل في الحرز السياسي لدولة شقيقة، حيث تم استخدام بعض العناصر الفلسطينية التي يفترض أنها تأسست لتحرير فلسطين لا لتحرير الدول من معارضيها، فقد تم حبس الرجل خارج السجون الرسمية ومورست ضده أقسى صنوف التعذيب، وتم قتله دون محاكمة ولو صورية، ودُفن سراً وقُفل الملف إلى الأبد.. وقد أوردت صحيفة (السوداني) في عددها الصادر بتاريخ 3 يوليو 2007 حسب رواية مرتضى أحمد إبراهيم، وزير الري في حكومة نميري، وأكدها الحوار الذي دار بين نميري وسلوى محمد مكي، ابنة الصحفي القتيل، أن الرئيس نميري هو الذي أمر بقتله، وقد اختلفت الروايات حول الطريقة التي انتهت بها حياة الصحفي محمد مكي. وكالات الأنباء والصحافة العالمية تحدثت بإسهاب عن (صفعات) الجنرال جورج باتون لأحد الجنود الأمريكان والتي أثارت فضيحة كبرى عندما تحدث عنها الصحفي الأمريكي بيرسون، ولم يتحدث أحد حتى اليوم عن (صفعات جعفر نميري) لمحمد حسنين هيكل، الذي يضع في جيبه كل المفاتيح السرية للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي لم يحب بصدق وانجراف كاتباً أو صحفياً، كما أحب هيكل الذي كان الوزراء والسفراء يجدون صعوبة في مقابلته وأخذ دقائق معدودة من وقته الثمين، وقد وصل هيكل حداً تفرش له فيه الأبسطة الحمراء في الكرملين ويستقبله وزراء الخارجية في كل مطار يهبط فيه، ولكن كل هذا لم يمنع (أبو عاج) من توجيه صفعاته ولكماته)، ويعتدي بالضرب على هيكل في الطائرة التي كانت تقله مع الرئيس جمال عبد الناصر، الذي لعب دور (الحجاز) بين النميري وهيكل، وقد أشار إلى هذه الحادثة أستاذنا عبد الرحمن مختار في عدد (الصحافة) الصادر بتاريخ 24/4/2000م، ولم يذكر تفاصيل الحادثة بل اكتفى بقوله: “الاعتداء العجيب والغريب والمخيف الذي وجهه أبو عاج أخوي، (بلكمة كابوية) على فكي الأستاذ محمد حسنين هيكل، فقام الرئيس عبد الناصر بدور الحجاز، وهو يصيح مش كدا يا نميري.. ما يصحش يا نميري”.. لا ندري لماذا اعتدى النميري على هيكل، ولكن لا بأس من الإشارة إلى بعض ما رواه الأستاذ عبد الرحمن مختار الذي كان قد قدم دعوة لصديقه هيكل لزيارة السودان وحضور الاحتفال بأعياد مايو، الأمر الذي لم يرق لمن أسماهم بـ(مافيا الخرطوم)، الذين بدأوا في محاربة الفكرة بطرق خفية. ويبدو أن هيكل قد شعر بما كان يحدث، فوجهت له دعوة رسمية هذه المرة عبر اللجنة المنظمة للاحتفال فرفضها، مما دفع الأستاذ عبد الرحمن مختار للسفر إلى القاهرة لمقابلته ومعرفة سر رفضه للدعوة، فأخبره هيكل بأن السفير السوداني الذي حمل إليه الدعوة جاءه في مكتبه وكان مظهره لا يليق بسفير على الإطلاق، ووضع أمامه (كرت دعوة) من الكروت العادية التي وزعت بالآلاف، فأعاد إليه هيكل الكرت، واعتبر أن الحركة التي قام بها السفير كانت مرسومة ومقصودة، ومع ذلك لم يجرؤ أحد من الصحفيين حتى يومنا هذا على الحديث عن هذا الموقف، وربما لأن معظم رجال الصحافة في ذلك الوقت كانوا مثل إخوانهم الشعراء الذين قال عنهم محمد المكي إبراهيم، لا حول ولا طول لهم، ولا يجرؤ أحدهم أن يفتح فمه حتى عند طبيب الأسنان، ناهيك عن الوقوف في وجه نميري ليسأله مثل ذلك الصحفي الذي قال ذات يوم للرئيس أنور السادات: “ماذا تحب أن يكتب على قبرك؟”، ولكم أن تتخيلوا كيف تكون إجابة النميري على هذا السؤال، وفي تقديري أن الصحفي السوداني الوحيد الذي نعرف أنه وقف متحدياً للنميري وواجهه بشجاعة نادرة، هو الراحل سيد أحمد خليفة، ففي المؤتمر الصحفي العالمي للولاية الثانية الذي عقده النميري، شهدت قاعة الصداقة بالخرطوم صداماً حاداً مع النميري بحضور د.بهاء الدين محمد إدريس، الذي نشط في حشد أكبر عدد من ممثلي الصحف، خاصة صحف الخليج والسعودية، من منطلق تنمية العلاقات مع هذه الدول، ولسوء حظ النميري أعطت المنصة أول فرصة لممثل صحيفة (المدينة) السعودية عبد الرحمن الأنصاري الذي سأل النميري قائلاً: “سيدي الرئيس أنتم كما يقال تؤيدون كامب ديفيد سراً وتعارضونها علناً.. فما هي حقيقة الموقف؟”.
سؤال الأنصاري كما يقول سيد أحمد خليفة (كفرن) المؤتمر.. واكفهرت وجوه قادة الاتحاد الاشتراكي.. فسأله النميري بانفعال شديد.. الأخ يمثل ياتو جريدة؟ فأجابه: “أنا أمثل صحيفة (المدينة المنورة) السعودية”.. فبادره النميري بقوله: “طبعاً.. جريدة المدينة التي تنشر عننا أخباراً غير صحيحة وتنسبها لمن تسميه مراسلها بالخرطوم، وليس لديها مراسل في الخرطوم أصلاً”.. وهكذا ضاعت كامب ديفيد بين غضب النميري ومندوب الصحيفة السعودية، فيحاول سيد أحمد خليفة رفع يده عدة مرات رغم التجاهل الواضح له من قبل المنصة، فيلاحظ النميري ذلك فيميل نحو عمر الحاج موسى وزير الإعلام فيهمس له ثم يعطي الفرصة لسيد أحمد خليفة.. فقال له: “سيدي الرئيس أنت سألت وتشككت في وجود مراسل لصحيفة (المدينة) السعودية بالخرطوم، بل تشككت في تقاريرها حول السودان والنظام، وأود أن أقول لك إنني أنا مراسل (المدينة) في السودان وكل أفريقيا، وأنا كاتب التقارير حول السودان أو على الأقل مسؤول عنها”. وهنا ارتفعت (كثافة نميري) وثورته فصاح قائلاً: “هذا نوع من الصحفيين الذين يكتبون عن السودان (كلام فارغ) مقابل بضع ريالات”.. وواصل سيد أحمد خليفة حديثه قائلاً: “سيدي الرئيس أولاً نحن لا نتقاضى بضعة ريالات، فأنا مثلاً مرتبي يعادل مرتبات جميع رؤساء تحرير صحف الاتحاد الاشتراكي، أما مسألة الإضرار بالوطن أو خيانته، فهذه مسألة نسبية، إذ من الجائز أن يكون الإضرار والخيانة من الداخل، وأنا شخصياً عندما أشعر بأنني أخون وطني، سآتي وأنتحر في هذا النيل العظيم وأموت باختياري وليس بقرار جمهوري”.
بعد هذا الموقف الرجولي النادر لم يطل عمر المؤتمر الصحفي، وانفض السامر وأصبح سيد أحمد خليفة هو محور المؤتمر، حيث تجمع حوله عدد من زملائه وبدأوا يسألونه، كيف تتجرأ على التحدث مع النميري بهذه الطريقة؟ ماذا تتوقع أن يحدث لك.. إن النميري لن ينسى لك هذا وسيحاسبك عليه في يوم من الأيام، وقد كان..
نجا من (صفعات وشلاليت) نميري بعض الصحفيين الذين اكتفى بفصلهم من الخدمة بقرار جمهوري، مثل عبد العزيز عبد اللطيف، وبخيتة أمين، وذلك عندما أصدر قراراً جمهورياً بإيقاف مجلة (مريود) التي كانت تصدر عن دار الصحافة والتي كانا يعملان بها، وذلك بسبب الإشارة إلى التطور الذي شهدته ليبيا في ذلك الوقت ونهرها العظيم إبان توتر العلاقات بين النميري والقذافي.. وكان قرار نميري أول قرار جمهوري في تاريخ البشرية ضد مطبوعة أطفال.
كتاب (مستقبل الإسلام في السودان)..
وهو أحد مؤلفات السيد الصادق المهدي التي أزعجت جعفر نميري كثيراً، خاصة أن كاتب مقدمة الكتاب هو سيد أحمد خليفة أيضاً، فكان سبباً آخر في أن يضمر له النظام سوءاً، لما تضمنه من انتقاد حاد لتجربة نميري ومحاضراته الإسلامية..
ولا أعرف حتى يومنا هذا صحفياً واحداً في السودان أثنى أو أشاد بمواقف جعفر نميري تجاه الصحافة السودانية غير الراحل محمود أبو العزائم، الذي كان يحظى بمكانة رفيعة لم يحظَ بها أي إعلامي سوداني عند النميري. يقول أبو العزائم في حوار نشر بصحيفة (ألوان) عام 1988: “إن جعفر نميري هو الأفضل بين كل الحكام الذين حكموا في دول العالم الثالث.. حاكم يذرف الدموع وأتحدى من توسط لديه فأعطاه”.. ورغم كل المواقف التي شهدناها وتوقفنا عندها هنا إلا أن أبو العزائم يرى أن الصحافة في ظل النظام المايوي كانت تعيش في حرية مطلقة، وبوسع أي إنسان أن يتنفس ويقول ما يشاء.. يبدو أن أبو العزائم أراد أن يكافئ النميري على بعض فضائله ومواقفه تجاهه.. فقد سبق أن اعترض النميري على تعيين أبو العزائم وزيراً للإعلام بولاية الجزيرة (الإقليم الأوسط سابقاً)، وقد أشار أبو العزائم إلى ذلك في حوار مع صحيفة (الوطن)، فعندما قدم المرحوم عبد الرحيم محمود حاكم الإقليم الأوسط سابقاً قائمة المرشحين لحكومته، اطلع النميري على القائمة وتناول القلم فشطب اسم أبو العزائم قائلاً: “هذا أريده هنا”، أي في الخرطوم. يقول أبو العزائم: “كنت أعرف أن الرئيس نميري لن يوافق لأنه راضٍ كل الرضا عن أدائي في الإذاعة على المستوى القومي، فلذلك من المستحيل أن يسمح بتقوقعي في خدمة ولاية واحدة”.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة اليوم التالي