حاوره – أحمد محمد السنوسي
كُثر الحديث مؤخراً وبصورة لافتة للنظر، عن مشكلات التعليم العالي في السودان والوطن العربي عموما، حيث لا تزال الجامعات تواجه تحديات كبيرة بسبب تراجع المستوى الأكاديمي وعدم ملازمة البرامج والمناهج لمستجدات العصر وحاجات المجتمع، وبسبب ضعف مخرجات التعليم حيث يشكو سوق العمل من تدني مستوى الخريجين الذين لا يناسب كثير من تخصصاتهم متطلبات سوق العمل.. والمتتبع للصحافة ووسائل الإعلام العربية، يلحظ أن هذه القضية تمثل قاسماً مشتركاً بين كل هذه الوسائل، ويلحظ أيضا اتفاق وجهات النظر بين العديد من أساتذة الجامعات من خلال الدراسات والمقالات التي نشروها بالصحف وبعض المجلات المتخصصة والتي أجمعت على ضرورة إعادة النظر في مناهج وهياكل الجامعات، وجعلت منها جامعات تتأرجح في ذيل ترتيب الجامعات العالمية، حتى إن جامعات الخليج مثلاً وعلى كثرتها، لم تنل أية واحدة منها في أي تقييم بين الخمسمائة جامعة الأولى في العالم، ما دفع بعضهم مثل الدكتور نزار شقرون إلى القول بأن من أهم مظاهر التخلف في الوطن العربي، هو تخلف هذه المؤسسة التي نسميها الجامعة. ويضيف شقرون أنه ليس هناك من المحيط إلى الخليج جامعة واحدة بالمفهوم الحديث للجامعة، وأن ما نسميه بالجامعة ليس إلا مدارس للتعليم العالي يكون فيها التعليم بواسطة التلقين والتبشير ودراسة الكتب الكلاسيكية، الأمر الذي جعل هذه الجامعات تفرز قيادات هزيلة لم تتمكن من القيام بثورة علمية تنتشل الإنسان من كهوف الأسطورة إلى المعرفة..
(اليوم التالي) حملت كل هذه الهموم واتجهت صوب مكتب مدير جامعة السودان المفتوحة بمنطقة الجزيرة، د. فيصل محمد دفع الله، أحد رموزنا العلمية التي جمعت بين حكمة العقل وبصيرة القلب، الذي عمل بعدد من الجامعات السودانية في ولايات الخرطوم، الشمالية، سنار والجزيرة. والدكتور فيصل من دعاة الحوار والتواصل بين التيارات الفكرية لبناء الحضارة الواحدة المشتركة، التي جمع في داخلها التنوع والاختلاف، فإلى مضابط الحوار الذي أجريناه مع الدكتور فيصل الذي يجد فيه القارئ الكثير من المفاتيح الضائعة لمشكلات التعليم العالي في السودان.
*معلوم يا دكتور أن للجامعة ثلاث وظائف تتمثل في “التدريس والبحث وخدمة المجتمع”، ولكن نرى أن أغلب الجامعات السودانية حصرت نفسها في مجال التدريس فلم يتوجه كثير منها إلى البحث وخدمة المجتمع؟
بداية لا بُدَّ أن أسجل إشادتي بالمستوى الرائع والنجاحات التي تحققها هذه الصحيفة يوماً بعد يوم، وأتمنى لها مزيداً من التقدم والنجاح والصمود أمام الصحافة الإلكترونية. أما عن سؤالك فأقول: قد لا نكون منصفين إذا قلنا إن جامعاتنا حصرت نفسها في مجال التدريس فقط، فهناك إسهامات كبيرة في المجالات الأخرى قد تكون محدودة بسبب عدم وجود آلية بين الجامعة والدولة لتفعيل البحوث العلمية، وقد أدى هذا إلى تراكم البحوث وإهمالها، ولكن نؤكد لكم أن هناك استراتيجية بحثية في جامعاتنا مبنية على دراسة حاجات المجتمع، وأستطيع أن أقدم لك قائمة طويلة بالمشروعات الكبيرة في السودان كانت نتيجة لهذه البحوث، مثل مسجد النيلين على سبيل المثال.. البحث العلمي لم يجد حتى الآن الدعم المطلوب، وهو مكلِّف جداً، خاصة في ظل الانحسار الاقتصادي الذي أثر كثيرا في مجال البحث العلمي.
*الذين تحدثوا عن التحديات التي تواجه مجال التدريس يرى بعضهم أن المناهج والبرامج غير ملائمة لمستجدات العصر وحاجات المجتمع، وأن أغلب أساتذة الجامعات بحاجة لتنمية كفاءاتهم التدريسية وطرائق التدريس غير فعالة، فضلاً عن القول بأنه لا توجد في العالم العربي جامعة بالمفهوم الحديث للجامعات، فما هو ردكم؟
دعني أقتصر إجابتي على الجامعات السودانية التي لا ينكر أحد أنها تتمتع بسمعة طيبة يعرفها الجميع.
*لماذا فضلت أن تقتصر إجابتك على الجامعات السودانية؟
لا لشيءٍ.. وإذا كنت مصراً على إجابتي، سأبدأ من آخر السؤال لأقول؛ إن الدكتور شقرون الذي قال هذا الكلام مع احترامنا الشديد له، فإنه نظر لهذه المؤسسة بمنظار سلبي، ولهذا لا نستغرب إذا قال إن الجامعة تمثل أكبر أو أهم مظاهر التخلف في الوطن العربي، ولا أعتقد أن ما ذكره حول تنمية وتطوير الكفاءات التدريسية ينطبق على أساتذة الجامعات السودانية.. معلوم أن الأستاذ الجامعي السوداني هو أفضل من بعض الأساتذة في الدول الأخرى، وكثير من الدول العربية قامت نهضتها على أكتاف أبنائها الذين تخرجوا في الجامعات السودانية، ولدينا الآن أكثر من أربعة آلاف أستاذ جامعي في الجامعات السعودية وقطر وسلطنة عمان وغيرها.. حديث الدكتور شقرون قد ينطبق على بعض الجامعات، لأن هنالك جامعات غير معترف بها عالمياً حتى في أوروبا وأمريكا.
*ولكن مع ذلك نلحظ خروج الجامعات السودانية من التصنيفات العالمية، إذ لم تنل أي واحدة منها تقييماً بين الخمسمائة جامعة الأولى في العالم؟
هذا الحديث غير صحيح، وقبل هذا يجب أن نفهم أن التصنيف العالمي للجامعات عمل تقوم به بعض المنظمات، ويختلف التصنيف من منظمة لأخرى، وهناك أيضا جهات غير محايدة تقوم بعملية التصنيف، ففي عام 2012 مثلاً، صنفت منظمة ألمانية جامعة الخرطوم الأولى من ناحية السودان، وجاءت جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا في المركز الثاني، وجامعة السودان المفتوحة في المركز الثالث، أما بالنسبة للتصنيفات على مستوى الشرق الأوسط، فقد تم تصنيف جامعة السودان المفتوحة في المركز الأول في التعليم المفتوح على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويمكن التأكد من هذه الحقيقة بالرجوع إلى المواقع الإلكترونية.
*دعنا نعود للأستاذ الجامعي السوداني الذي ذكرت أنه أفضل من نظيره في بعض الجامعات، ما هي مشكلته وكيف تفسر خروج هذه الأعداد الكبيرة من الأساتذة الجامعيين للتدريس في جامعات أخرى بدول أخرى؟
السبب الرئيسي يكمن في ضعف الأجور التي يحصل عليها أعضاء هيئة التدريس في الجامعات السودانية، إذ لا يتجاوز مرتب الأستاذ المساعد (2500) جنيه (مليونين ونصف بالقديم) في أحسن الأحوال، في حين أن نفس الأستاذ يتقاضى في بعض الدول ما يعادل ثلاثين مليون جنيه بالقديم، وقد أدى هذا الوضع إلى انصراف العديد من الأساتذة عن التفرغ للعلم والطلاب واللجوء إلى كتابة المقالات والأبحاث للصحف والمجلات المتخصصة، والسعي للحصول على فرص للإعارة بالجامعات العربية وغير العربية، وربما لهذا السبب نجد أن وزارة التعليم العالي في بلادنا قد سمحت للأستاذ الجامعي بالعمل في أكثر من جامعة واحدة.
*هناك اعتقاد بأن فكرة الجامعات الخاصة والأهلية واحدة من مبادرات الإصلاح لضخ دم جديد في التعليم العالي، ولكن هناك أيضاً من يرى أنها لا تمثل أكثر من حلقة جديدة في التعليم السائد وأنها لم تلقِ مجرد حجر في الماء الراكد، باختصار هي هذا الشبل من ذاك الأسد حسب الكاتب السوري عبد القادر اللي؟
الجامعات الخاصة لم تكن هذا الشبل من ذاك الأسد، ولم تكن خصماً على التعليم الرسمي، وقد تأسست لمساعدة الذين منعتهم الظروف من مواصلة دراساتهم وضخ دم جديد في التعليم العالي.. انتشار الجامعات الأهلية والخاصة لا يمثل مشكلة في ظل تضخم الحاجة للجامعات، فولاية الجزيرة التي تضم ست جامعات تحتاج لأكثر من هذا العدد، والخرطوم التي بها حوالى عشرين جامعة أو أكثر من هذا العدد بقليل تحتاج أيضاً لمزيد من الجامعات، فماذا يساوي كل هذا العدد من جامعاتنا إذا قورنت بالجامعات الموجودة في السعودية أو الجامعات الإيرانية التي بلغ عددها ألف جامعة.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة اليوم التالي