القاهرة: صباح موسى
شهدت العلاقات المصرية السودانية الأيام القليلة الماضية رياحا عكسية أشد عنفا من منخفض أرضي مجاور، بغية تعكير صفو العلاقة التي تأخذ مسارا هادئا ومتطورا بعد التغيير الذي حدث في السودان، إلا أن هذه الرياح على مايبدو باتت زوبعة في فنجان، لإدراك الكثيرون في البلدين أن هذا التوقيت ليس محل لجذب التشويش والتقاطع بين شعبي وادي النيل.
الهجوم الأول
أولى هذه الهبات على العلاقات بين البلدين جاءت بعد نشر موقع مجهول لوثيقة تقول إن الإتحاد الأفريقي إعترف بحلايب وشلاتين ضمن الحدود المصرية، مادعا البعض في السودان للهجوم على مصر والإتحاد دون التأكد من صحة الخبر، في وقت أوضح فيه محمد الحسن ولد لبات، مبعوث مفوضية الإتحاد الأفريقي للسودان والذي يزور البلاد حاليا، حقيقة إعتماد الإتحاد لضم مثلث حلايب الحدودي إلى مصر، ونفى ولد لبات تبني أو إعتماد الإتحاد الأفريقي لأي خرائط تؤكد تبعية مثلث حلايب الحدودي لمصر، وقال لبات إن المنظمة مررت فقط أوراق وصلتها من دولة عضو، إلى الدول الأخرى، وهذا لا يعني أنها تتبنى المحتوى، مضيفا على الدولة المعترضة أن ترسل توضيحاتها واعتراضها وسيتم توزيعه للدول بأسرع ما يمكن، لافتا إلى أن تمرير الإتحاد الأفريقي لوثائق ضمت حلايب وشلاتين لمصر، واعتبرها السودان إنقاص من سيادته الترابية، قضية تخص الدولتين والإتحاد الأفريقي ليس جزءاً فيها. بيد أن رئيس المفوضية القومية للحدود في السودان معاذ تنقو، كان قد أعلن عن احتجاج السودان رسميا، ضد مفوضية الإتحاد الأفريقي، باعتمادها خريطة تضم مثلث حلايب وشلاتين ضمن حدود مصر الجنوبية. وقال تنقو، في تصريح صحفي إنه تسلم مذكرات احتجاج من جهات بالداخل من بينها وزارة الخارجية ورئاسة الجمهورية، للدفع بها عبر القنوات الرسمية للإتحاد الأفريقي.
فيديوهات مسيئة
الهجمة الثانية على العلاقات بين البلدين جاءت بعد انتشار فيديو عبر وسائل التواصل لحريق اندلع عند معبر أرقين على الحدود بين مصر والسودان الأيام الماضية، وتم رفض دخول سيارة الإطفاء المصرية، رغم تعذر وصول سيارة سودانية، واصطف عدد من السودانين لمنع السيارة المصرية من الدخول، وتفاعل كثيرون على وسائل التواصل الإجتماعي، وقادوا جهات واسعة حملة للهجوم على مصر بتهريب السلع السودانية اليها بأسعار زهيدة، واتهام مصر بأنها لا تريد خيرا للسودان، كما انتشرت فيديوهات أخرى على وسائط التواصل الإجتماعي تؤكد هذا المعنى، وتصور مجموعة من الشاحنات متجهة للمعابر مع مصر، وهي تحمل عجول وسمسم ومنتجات سودانية أخرى، ويجئ التعليق المصاحب فيما معناه (انظروا مصر تستنزف مواردنا)، ليأتي السؤال هل بالفعل يوجد استنزاف للموارد السودانية وهل التبادل التجاري مع مصر مضر بالإقتصاد السوداني؟
دون مبرر
ويرد الدكتور عادل عبد العزيز الفكي الخبير الإقتصادي على هذا السؤال قائلا إن الإحصاء الموجز الإحصائي للتجارة الخارجية الصادر عن بنك السودان المركزي يشير إلى أن صادراتنا لمختلف دول العالم قد بلغت في العام 2019 مبلغ 3.9 مليار دولارا، فيما بلغت وارداتنا من العالم 9.3 مليار دولار،وعليه بلغ العجز في الميزان التجاري قيمة 5.3 مليار دولارا، مضيفا ويشير نفس الموجز إلى أن صادراتنا لمصر في نفس العام قد بلغت 366 مليون دولار، فيما بلغت وارداتنا منها 496 مليون دولار، وعليه سجل العجز التجاري معها قيمة 130 مليون دولار، موضحا أن العجز التجاري مع مصر يمثل نسبة ضئيلة جداً من العجز التجاري الكلي حيث بلغت هذه النسبة 2.5% من العجز الكلي، وقال من ناحية أخرى فإن أهم صادراتنا لمصر خلال العام 2019 هي الحيوانات الحية بقيمة 168 مليون دولار، السمسم 106 مليون دولار، القطن 32 مليون دولار، اللحوم 24 مليون دولار، وتابع وكانت وارداتنا منها في نفس العام: سلع مصنعة بقيمة 276 مليون دولار، كيماويات 91 مليون دولار، منتوجات بترولية 30 مليون دولار، مواد خام 36 مليون دولار، مواد غذائية 31 مليون دولار، وقال بالتمعن في هذه الأرقام نجد أن التبادل التجاري مع مصر هو في أغلبه مواد خام من السودان لمصر، وسلع مصنعة من مصر للسودان. ويعود السبب في ذلك لضعف قدراتنا التصنيعية في السودان، وليس لرغبة مصر في الاضرار بنا، وزاد لنأخذ عنصراً واحداً من عناصر صادراتنا لمصر وهي الحيوانات الحية، فلو تمكنا من استكمال منظومة المسالخ الحديثة المؤهلة والموافقة للمواصفات، وقمنا بتصدير هذه الحيوانات في شكل لحوم مصنعة لمصر، لانقلب الميزان التجاري مباشرة لصالحنا بنسبة كبيرة، وقال كذلك الأمر بالنسبة للسمسم نصنعه زيت أو طحينية، والقطن نصدره لهم منسوجات، مضيفا ولا ننسى أن السوق المصري سوق ضخم جداً بعدد سكان يفوق مائة مليون نسمة، متسائلا في هذه المرحلة هل نقوم بإيقاف التبادل التجاري مع مصر لأنه مواد خام مقابل مواد مصنعة؟ قائلا في الواقع أن الإيقاف يمثل قراراً غير حكيم لثلاثة أسباب: الأول أن المواد المصنعة التي تدخل لنا من مصر حتى لو كانت مصنوعات بلاستيكية وألمنيوم الخ هي مرغوبة في السوق السوداني، عليه سوف يتحول التجار لاستيرادها من الصين أو غيرها، السبب الثاني: إن إيقاف صادر الحيوانات الحية والسمسم والقطن لمصر سوف يضر بالمنتج السوداني وهو الراعي أو المزارع البسيط، والثالث: أن عدم السحب من القطيع الحيواني يمثل تهديداً للبيئة، لأن حيواناتنا تتغذى على المراعي الطبيعية ولا بد من سحب نسبة من القطيع كل سنة وإلا تكاثر الحيوان وقضى على المراعي، مضيفا علينا التركيز على تذليل عوائق الإنتاج الصناعي من طاقة وتكنولوجيا وقوى عاملة مدربة لتحقيق القيمة المضافة لمنتجاتنا الخام، بدلاً عن مهاجمة الأشقاء المصريين دون مبرر.
التصدي للوقيعة
ولمواجهة الهجمة التي تعرضت لها العلاقات المصرية السودانية على وسائل التواصل الإجتماعي سارعت المبادرة الشعبية بين مصر والسودان التي تم الإعلان عنها مؤخرا بالتصدي لمثل هذه المحاولات لتعكير صفو العلاقة، ونشر طرف المبادرة في السودان قالت فيه (للسودانيين الشرفاء والأذكياء.. هذه الأيام بالذات لا تتحمل الطعن والتشكك في علاقة مصر الشقيقة مع السودان الشقيق، لابد للكل أن يعلم أن مصر هى السودان، وأن السودان هو مصر مصير واحد وأمن قومي واحد ودفاع مشترك واحد، دين واحد ونيل واحد وأمة واحدة، أنا وابن عمي على الغريب، معا لدعم أواصر المحبة والعلاقة المتينة بين شعبي وادي النيل معا ضد الإشاعات الزاحفة التى تستهدف العلاقة الاخوية بين البلدين، معا لكسر الدش في أيادى من يريدون تعكير صفو العلاقة بين الأشقاء لأغراض مخابراتية رخيصة معروفة، عاش السودان لمصر وعاشت مصر للسودان، معا ضد الفتنة ).
الإستعداد للتصديق
الدكتورة أماني الطويل مديرة البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية أوضحت من جانبها أن العلاقة بين البلدين تتعرض كثيرا للشائعات منذ الإحتلال البريطاني وحتى اللحظة، وقالت الطويل في مقال لها إنها رصدت ذلك منذ تحضيرها لرسالة الدكتوراه، وإنها رصدت الكثير من هذه الشائعات في الوثائق البريطانية، وذكرت أمثلة منها، مضيفة بعيدًا عن الإحصاء، وقريبًا من حياة الناس فقد قفزت أسعار الفواكه من الموالح في السوق السودانية بعد الإغلاق المؤقت للمعابر البرية بين مصر والسودان لأسباب سياسية، بعبارة أخرى تضرر المواطن السوداني العادي من إغلاق المعابر، بينما تستفيد الأجندات السياسية لإثيوبيا التي لا تتوقف عن إتهام مصر منذ إندلاع الاشتباكات الحدودية مع السودان أنها طرف ثالث في هذه الحرب علي الرغم من أن قام بربط ملف سد النهضة بملف الحدود الإثيوبي السوداني هم الإثيوبيين أنفسهم منذ مارس 2020 بعد أن بدأ الموقف السوداني يبحث في تداعيات بناء السد على السودان، وتابعت بدأت ثقة السودان في إثيوبيا تتحلل بعد انسحابها من التوقيع على إتفاق واشنطن، ثم قيامها بالملء الأول لسد النهضة دون إتفاق، ما ساهم في إنكشاف استراتيجي سوداني، حين توقفت محطات مياه الشرب السودانية ثم توقفت مرة أخرى بسبب إطلاق مياه هذا الملء، لافتة إلى أن المشكلة الأساسية التي تواجهها مصر في السودان هو الإستعداد الجاهز لدى الذهنية السودانية الشعبية لتصديق أي شائعة على مصر ونشرها على وسائل التواصل الإجتماعي لتنتشر انتشار النار في الهشيم، وقالت في تقديري يأتي ذلك لعدد من الأسباب أن هذه الذهنية تعودت أن مصر هي شيطان كامن في كل تطور سياسي سوداني تاريخيًا، بسبب مجهودات المخابرات البريطانية، والمجهودات الغربية الاستراتيجية والمستمرة في ضمان فرقة مصرية سودانية، إلى حد منع مصر من استزراع القمح في السودان في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، مضيفة أما السبب الثاني فهو الدور التاريخي الذي قامت به الجبهة القومية الإسلامية في ضرب عمق العلاقات الشعبية السودانية على مدى 30 عامًا، ورموز هذه الجبهة تحاول حاليًا زرع أسافين جديدة في علاقات البلدين الرسمية، بتقدير أن التقارب المصري السوداني هو في حقيقته خصمًا من حجم وجودهم المستقبلي في المعادلة السياسية السودانية، التي تتبلور حاليًا وفق توازنات حرجة، وزادت وثالثًا فإن تأخر النخب السودانية في الإشتباك مع هذه الحالة السلبية بشأن صورة مصر في السودان، والتي تضر ضمن ما تضر المصالح الاستراتيجية السودانية ذاتها، يجعل إدانة مصر في تقديرنا للأسف في بعض الأحيان جزء من الوطنية السودانية، وختمت إجمالًا يبدو أن مصر حكومة وشعبًا منوط بها هذه الأيام عملًا وانتباهًا على مستوى السياسيات الرسمية، مطلوب تكثيف التفاعل الإيجابي مع المنظومة السياسية السودانية في كافة الملفات وصولًا لمرحلة الإنتخابات بعد إنتهاء المرحلة الاإتقالية في سلوك سياسي وأمني مشابه لما جرى في ليبيا مؤخرًا، وانتباهًا من المصريين على منصات التواصل الاجتماعي ألا يقعوا في شراك الفخ الإثيوبي ضد مصر والسودان.
ليست الأولى
ويبقى أن هذه الرياح التي هبت مؤخرا على العلاقات بين البلدين ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، طالما وجدت تيارات داخل السودان لا تحبذ العلاقة مع مصر، وتداعيات إقليمية تهدف هذه الأيام إلى تشويه الصورة المصرية في السودان لخدمة مصالح جهات خارجية يهمها أن تسوء العلاقة بين البلدين، لتسحب المنخفض الجوي بينها وبين السودان وتسليطه على أن مصر هي العدو الأول للسودان، وعلى الإدارة السياسية بالبلدين ألا يستجيبوا لمثل هذه المؤامرات لإحداث الوقيعة بينهما، في وقت يحتاج فيه كل من مصر والسودان للآخر لمواجهة المصير المشترك والعدو المشترك.
المصدر من هنا