السودان الان

منقوصاُ من كاريزما زعيمه التاريخي، هل ما يزال الشيوعي يمشي في السكة يمد ؟ في عام غيابه التاسع ، يبدو الشيوعيون على غير عادتهم حين يتجاوزون سيرة نقد، لكن ماذا عن سيرة الحزب (ود ملين)

مصدر الخبر / صحيفة اليوم التالي

الخرطوم ” الزين عثمان

أكثر من ستين عاماً والرجل يحمل (شاكوشه) ويطرق به بشدة، بغية أن يتوقف نزيف العمال والزراع، وأن تدور ماكينات المصانع بالإنتاج، محاولاً أن يدق مسماره الأخير في نعش الحرب والنزاعات بالبلاد. يفعل كل ذلك في كونه أيقونة السياسة السودانية وزعيم الحزب الشيوعي السوداني الصميم المسمى محمد ابراهيم نقد، وقبل تسع سنوات من اللحظة دق سودانيو المهجر ب(شواكيشهم) على صندوق النعش، في العاصمة البريطانية لندن، ويحملونه أحزانهم في الطريق نحو الخرطوم التي استقبلت نبأ رحيل أيقونة سياسييها بين مصدق ومكذب، فالمدينة اعتادت على اختفاء الرجل في باطن الأرض اختياراً، لكن (الغبش) في حواريها وحقولها لم يكونوا في استعداد لأن يهيلوا التراب على عاشق التراب.
1
تسع سنوات والوطن دون (نقد) والحزب كذلك، تسع سنوات تغير فيها المشهد السياسي في البلاد كلية، لم تعد الأشياء هي الأشياء، من قاتلهم الزعيم بصمود الفرسان انتهى بهم الأمر في السجون، الثورة التي لطالما نادى بها نقد، وعمل لأجل إنجازها طوال عمره، فودعه شعبه بالعبارة : ما مات مخون في جبين الشعب مدون، ومعها ماك الوليد العاق لا خنت لا سراق، ولم يفعل أكثر مما ظل يفعله طوال سنوات عمره رفع يده علامة النصر واخبرهم لا سرادق للعزاء، عابراً إلى العالم الثاني، محتقباً رصيده من التضحية والإقدام، مبتسماً للحظة، ورافعاً يده بالتحية لمشيعيه، وبالطبع معها الوصية (سلم وطيد ووطن مجيد).
مضى محمد إبراهيم نقد تاركاً خلفه ميراثه؛ الحزب عنده بلاد النيلين، وأولاده كل أولادها، ويحرر دون فرز آخر تكليفاته؛ أن لا عزاء إلا للوطن، تصبحون وتمسون على وطن، فأروني ماذا أنتم فاعلون؟
2

تمر ذكرى رحيل نقد؛ الذي لطالما شغل الناس والدنيا فوق شوارع الزملاء والرفاق، الحزب لم يصدر ولا حتى بياناً يتناول فيه سيرة الزعيم؛ الرجل الذي ودعه الرفاق بهتاف ماشين في السكة نمد من سيرتك للجايين، بدا وكأن سيرته تخفت الآن، وهو ما يبدو ماثلاً فإن مارس يلملم بقايا أيامه ليغادر دون أن تلمح ما يشير إلى نشاط يقيمه الحزب الشيوعي لتخليد ذكرى رحيل سكرتيره السياسي، الأمر هنا قد يتجاوز استعادة سيرة نقد؛ للغوص في سيرة الحزب الشيوعي السوداني وكيف يبدو حاله بعد تسع سنوات من غياب خليفة الراحل عبد الخالق محجوب؟ وسنتان إلا قليلاً من سقوط نظام البشير وشموليته.
3
يكتب كمال الجزولي قائلاً : رحل نُقُد، ولن نستطيع، حتى لو مكثنا نتحدث عنه أياماً بلياليها، أن نحيط بكلِّ شمائله العالية، إذ الكلام، في باب سيرته العطرة، كله خواء؛ فمَن لنا بكلمات تكفي ولو لسوق بضع جذاذات من مساهماته الفارهة، دَعْ بياناً يفي بأقلِّ القليل من تمجيده الذي هو بعضُ حقِّه المستحقِّ، أو يوفيه شيئاً من شكر جاء يومه، كما فـي بعض مأثورات أهلنا مستعربي السُّودان؟!
نعم، رحل نُقُد، والموت حقٌّ، دون أن يرى أمنيته الكبرى تتحقق بأن ترفرف رايات الاشتراكيَّة منتصـرة بالدِّيموقراطيَّة التَّعدُّديَّة، وبالاختيار الشَّعبي الحُرِّ، كمنهج حياة وحكم فـي السُّودان؛ وبرحيله تفتقد بلادنا الحكمة في غير ما ادِّعاء، والسَّماحة فـي أرقى تمظهراتها، وأنضـر الأشجار السُّودانيَّة فـي بستان اليسار الماركسي!
4
في الذكرى التاسعة لرحيل نقد يرافقك السؤال: ترى كيف هو حال الحزب الذي افتقد رمانة ميزان مواقفه، وفي عام الغياب التاسع تعاد صياغة ذات السؤال ماذا انتم فاعلون؟ وما الذي يحدث في الحزب العريق؟ يجمع السؤال هنا بين واقع الوطن العام والواقع الخاص بحزب الطبقة العاملة ولأي مدى ظل الرفاق يمضون في ذات سكة الرجل ؟ ربما تأتيك الإجابة بلسان من خلف نقد في مقعده السكرتير الذي تم إعادة انتخابه مرة أخرى، وهو يردد: لن نعود إلى قوى التغيير، التحالف الذي جمع كل شتات القوى السياسية حين أعلنها الشعب (تسقط بس) الخطيب يؤكد ألا عودة إلى التحالف الذي فارق درب الثورة وانخرط في مشروع الهبوط الناعم المرفوض من الشعب، وضد خيارات الثورة متماهية مع العسكر السيادي وإملاءات قوى إقليمية ودولية وهذه مبررات كافية للشيوعية من أجل مغادرتها.
5
في مكان آخر يخرج صوت زميل آخر يعلن تمسكهم بكونهم حزب (اللا)، ويؤكد كمال كرار عضو اللجنة المركزية على رغبة حزبه في إسقاط الحكومة الانتقالية وعلى رفض كل سياساتها الاقتصادية المرتبطة بمؤسسات البنك الدولي وصندوق النقد، وأنهم لن يقبلوا بأن تزيد هذه السياسات إفقارها للشعب السوداني وتجعل موارده نهباً للرأسمالية المتوحشة، وأنهم سيواصلون مشروع المقاومة حتى تحقق الثورة السودانية كل أهدافها، وأنهم سيحققون ذلك بالتحالف مع الشارع الرافض لكل ما يجري الآن وأن حزب نقد والرفاق سيقود الحراك الذي يسبقه النداء (تسقط ثالث)
حسناً.. سيواصل الشيوعي معركة مقاومته؛ لكنه حتماً يجد نفسه في مواجهة سؤال مدى امتلاكه للأدوات التي تدفعه لإنجاز أهدافها، وفي البال أن سودان الانتقال ليس هو سودان المخلوع. لا يعدم الرفاق الإجابة على هذا السؤال وهم يقولون إن إيمانهم بالمبدأ الذي يقاتلون من أجله ويقينهم بأن الانتصار هو أكثر الأسلحة قدرة على ذلك، ولا ينسون أن يشيروا إلى سلاح الشعب السوداني الداعم لخطواتهم والذي يقف معهم في خندق واحد ضد سرقة الثورة من أهدافها وضد الغلاء والفساد، وبالطبع لا ينسى الشيوعيون وقتها الإشارة لحلفائهم في المعارضة تحت ظلال وحدة الهدف، وهي الإشارة التي تتجه بشكل مباشر نحو لجان المقاومة وبعض المكونات النقابية التي تلتقي معهم في ذات الهدف.
6
لكن هل ما يزال شيوعي الأمس هو ذاته شيوعي اللحظة الراهنة، أم أن التغيير بإسقاط بنية النظام اليميني أفقه بريق السنوات الفائتة وهل لا تزال الشوارع تثق في الحزب مثلما كانت تفعل في أوقات سابقة؟ كيف بإمكانه تحقيق هدفه وهو منقوص من كاريزما زعيمه المحبوب شعبياً، منقوص ايضاً من مرونته.
وبالعودة لنعي كمال الجزولي لنقد؛ فإنه يقول: على كثرة ما كان يتَّسم به الرَّاحل العزيز من صفاتٍ طيِّبة، فإن المُرونة ونفاذ البصيرة تكادان تشكلان السِّمَتَين الأكثر بروزاً في شخصيَّته .. كان مرناً جدَّاً لدرجة أن طرفيه قد يلتقيان .. دون أن ينكسـر قط! وكانت له بصيرة نافذة بشكل مدهش، وربما يكفي أن نذكر دعوته الباكرة إلـى “مشاكوس أهلـي” حول دارفور، والتي كان قد طرحها في أوَّل وآخر حوار له في ظروف اختفائه، وكان أجراه معه الأستاذ عمر العمر لصحيفة “البيان” الإماراتية، وذلك عقب توقيع بروتوكول مشاكوس عام 2002م، في وقت لم يكن أحد قد انتبه بعد لوجيب الجلجلة فـي دارفور، والذي ما لبث أن استحال إلى حريق شامل، بعد وقت قصير من جرس الإنذار ذاك الذي أهمِل للأسف!
بينما عند ذاكرة الغياب يتبادر للجميع السؤال هل ما يزال الحزب يملك المرونة السابقة في التعاطي مع المشهد السياسي؟ وهل يملك من يستطيع قراءة الأحداث مثلما كان يفعل زعيمه الراحل؛ إن كان ذلك كذلك؛ فهل يمكن أن نصف موقفه مما يجري الآن بأنه الموقف الصحيح وفي الوقت الصحيح؟.

المصدر من هنا

عن مصدر الخبر

صحيفة اليوم التالي