الخرطوم ” الزين عثمان
الخامس من ابريل مثل هذا اليوم قبل عامين كانت البلاد تضع يدها على قلبها، يسكنها الترقب والخوف؛ في آن واحد، كانت الحكومة تخرج لتبث الطمأنينة لمناصريها وبصوت القيادي في المؤتمر الوطني نافع علي نافع، يخرج التساؤل بذات لغة الرجل في السخرية والتحدي: كلها يومين ونشوف عددهم كم ؟ يومها كانت (تسقط بس) ومع كل صباح جديد تكتسب مناصرين جددا، وكان الشعب قد حسم أمره سلفاً يسقطون او يسقطون لا خيار آخر ولا إمكانية للعودة من منتصف الطريق كانت صفحة تجمع المهنيين في الفيسبوك تمارس ما عرفته منذ انطلاق الثورة تحشد الناس وتدفعهم في الطريق إلى المستقبل وإن كان ذلك عبر عبارة (الحل في البل).
1
يومها يصعد إلى الجميع التساؤل حول هل كانت ستمضي الأمور إلى ما آلت إليه وأنه بعد خمسة أيام من الوصول الى حرم القيادة العامة سيكون البشير ونظامه في ذمة التاريخ ؟ ربما يعيد البعض صياغة السؤال بشكل آخر : هل كان نافع وحده الذي يرى فجر خلاص السودانيين بعيداً أم أن كثراً كانوا يؤمنون بذات الأمر، بالطبع فإن لنافع يومها ألف حق في ما قال به فهو يمثل أحد القيادات التي ينظر إليها بأنها تملك القوة في بنية النظام عليه كان من المستبعد أن يقر بهزيمته أمام الشارع وهزيمته في معركته ضد المعارضة، لكن كيف كان حال الأخرين هل كانوا يؤمنون بالشعب وقدراته ام أنهم كانوا ينظرون إلى الثورة على أنها محض غضبة شعبية سرعان ما تذوب وتعود الأمور لنصابها، وتسيطر الإنقاذ على المشهد وتعيد صياغته وفقاً لما تشتهي.
2
لم يكن المدير السابق لجهاز الأمن والمخابرات الوطني صلاح قوش يرى في حراك الشارع بأنه مهدد، وأنه سينتهي به الأمر إلى ما انتهى إليه، وكان يرى أن أجهزة الأقمار الصناعية قادرة على تحديد الحجم الحقيقي للمحتجين الذين ينتقلون من مكان لآخر، وأن أجهزته قادرة على حسمهم وبأقل مجهود، في حين كان القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل والوزير يومها حاتم السر بأن عهد الصفوف انتهى، وأن صفاً واحداً تبقى في البلد هو صف الصلاة، وبالطبع صف حكم البشير والذين معه فلم تكن الثورة بالنسبة له شيء يخيف، ويمكن أن يغير قواعد اللعبة في السودان برمتها، قواعد ستجعل منه وحزبه يلهثون خلف كل أمر يمكن أن يمسح شراكتهم مع المخلوع وحزبه من الأرشيف، لكن هيهات فقد سبق سيف الشعب العذل.
3
حسناً.. كان هذا هو حال من كانوا يقفون خلف هتاف (تقعد بس) ممن كانوا يستبعدون سقوطهم، لكن كيف كان حال الآخرين ولأي مدى كانت صورتهم؟ وما هي الدرجة التي كانوا يؤمنون فيها بأن الشعب قادر على أن يفعلها؟ وبالتحديد الواقع في قوى الثورة قوى إعلان الحرية والتغيير؛ والتي كانت توظف صفحة تجمع المهنيين السودانيين من أجل إيصال صوتها للشارع، وهي الصفحة نفسها التي كانت تضع على صدرها عبارة (السادس من ابريل ليست سدرة منتهانا)، وهي العبارة التي تؤكد على أن ثمة موجة ثورية أخرى وأن أمر الإنقاذ لن ينتهي بمجرد الوصول إلى القيادة وساحاتها، وأنه لابد من الاستمرار في هذه الثورة حتى إنجاز هدفها الرئيسي بتنح فوري لرئيس النظام ومؤسساته، بحسب ما جاء في الاعلان الموقع في الثاني من يناير من ذات العام.
4
في موقف قوى إعلان الحرية والتغيير وقراءتها للأوضاع فإن ثمة صورتين يمكن ملاحظتهما يومها: الأولى تتعلق بالقوى السياسية؛ والتي كانت معظم قياداتها خلف القضبان، بينما في الطرف الآخر قوى الكفاح المسلح؛ التي كانت قياداتها في الخارج يرافقها ذات اليقين بأن الإنقاذ التي عجزت عن إسقاطها بضربات السلاح لا يمكن أن تنهار تحت وقع أصوات شباب صغار، وإن حرصت معظم هذه المكونات على إبراز دعمها للحراك الثوري من خلال تدبيج بيانات الدعم للموكب، وهي البيانات التي صاغتها أيضاً مكونات نقابية أعلنت مشاركة منسوبيها في الموكب وهي نقابات ظل باعتبار أن معظم الاتحادات المهنية كانت تحت سيطرة منسوبي النظام السابق في الخامس من ابريل؛ كانت قيادات حركات الكفاح المسلح تتنقل بين العواصم في انتظار مآلات الأوضاع في الخرطوم، وما ينتهي إليه حال نظامها الذي لم تقطع بعض عشم التسوية معه والوصول إلى اتفاق سياسي.
5
عقب نجاح الثورة كانت العبارة المتفق حولها لدى كثير من قيادات المعارضة التي تحولت إلى ضفة السلطة قولهم إن الثورة فأجأتنا، وأنهم لم يكونوا يتصوروا أن يسقط الشعب ديكتاتورية الإنقاذ، بل إن البعض مضى أكثر من ذلك بقوله إن أيادي منسوبي الإنقاذ نفسها كانت سبباً رئيسياً في إسقاط نظام البشير وعلى رأسهم مدير جهاز الأمن الفريق صلاح قوش الذي ما يزال الجدل حول دور له في إسقاط الرجل الذي عينه في المنصب محتدماً، لكن الحقيقة التي لا يمكن الصعود فوقها ساعتها هو تجذر الإيمان بقيمة التغيير لدى جيل أطلق عليه البعض الجيل الراكب راس، وأن مكونات هذا الجيل حددت هدفها مسبقاً، وهو إسقاط هذا النظام مهما كلفهم من أمر، ومهما كانت الفواتير، الجيل الذي قاد المواكب وأعاد ترتيبها، وكان كلما خمدت شعلتها عرف الطريق إلى إيقادها من جديد، ووظف كل ما هو متاح له لإنجاز الهدف، مقروناً ذلك بتجذر الثورة نفسها والتي صارت حالة اجتماعية أكثر من كونها مجرد هدف سياسي وحسب.
في الخامس من ابريل كانت كل البلاد متوقفة في انتظار شروق شمس السادس من ابريل.
6
يومها كانت ثمة عبارة واحدة تجد مكانها للتداول هي عبارة (الحل في البل) حملها الجميع وقضي يوم الخامس من ابريل الطويل وفي مساءاته كانت المواكب تمضي في الطرقات تردد (بكرة الموكب)، ويسكن قلوب الهاتفين فيها أن موعدنا الصباح، وهو ما حدث بالفعل، فعل يمكنك أن تراه في إيمان أحد الشباب وهو يقتحم القيادة حاملاً معه مرتبة نومه ومجسداً (للصبة) متجاوزاً صوت نافع النظام أو نافع المعارضة، مؤكداً على أن الشعب إن أراد يوماً الحياة لابد أن يستجيب القدر ويستجيب معه (الكجر) وتستجيب المعارضة التي وجدت نفسها في مواجهة حقيقة واحدة مفادها أن الشعب أكبر وأن الردة مستحيلة.
عامان من انطلاق العبارة مشهد الثورة في طريقها نحو الانتصار الذي حدث في نهاية المطاف، بينما يتبادل الآن كثيرون ذات العبارة لكن بلسان وصورة الشيخ المثير للجدل محمد المصطفى عبد القادر، وهو يتناول الأوضاع في البلاد من خلال مناقشة أسعار الخبز والدقيق وبقية السلع ليصل لمعادلة مفادها أن الواقع في عهد النظام المخلوع اقتصادياً كان أفضل منه من واقع اقتصاد سودان الثورة، مما يؤكد على فرضية أن من أشعلوا نيران الثورة يعيشون تحت لهيب نيرانها الحارقة الآن، وعليهم أن ينالوا حصاد ما زرعوه، بالنسبة للشيخ فإن الثورة ضاعفت من معاناة السودانيين أكثر، لكن بالنسبة لمن أشعلوا نيران السادس من ابريل فإن عادت بهم الظروف مرة أخرى لجددوا ذات صمودهم ولفعلوا ذات الفعل دون تراجع، وهم يؤكدون على فرضية واحدة أن الثورة لا يمكن أن تحاسب بأداء من يديروا أمرها الآن.
المصدر من هنا