الخرطوم: خالد فتحي
لم يكن 6 أبريل حدثا عابرا في تاريخ الشعب السوداني، بل كان ذروة انتصار، توجت نضالات سنيّ طوال ضد ديكتاتورية المخلوع جعفر نميري. وفي بضع سنين جثمت ديكتاتورية أشد وطأة على صدر السودانيين، فكانت استعادة 6 أبريل 2019 ليحطم نظام المخلوع عمر البشير، ويشيعه حيث مزابل التاريخ بعد مليونية أسطورية ستظل طويلا في ذاكرة شعبنا.
(1)
في كتابه (العروش والجيوش) يقول محمد حسنين هيكل: “إن الأمم العظيمة تحيا لكي تتذكر والأصح أنّها تتذكر لكي تحيا؛ لأنّ النسيان هو الموت أو درجة من درجاته، في حين أنّ التذكر يقظة، واليقظة حالة من عودة الوعي؛ قد تكون تمهيدًا لفكر ربما يتحول لنيّة فعل، ثم إلى فعل إذا استطاع أن يرتب لنفسه موعدا مع العقل والإرادة في يوم قريب أو بعيد”. لمّا كانت آفة النسيان ونقض العهود وخيانة المواثيق عاملا لا يكاد يتغير في شؤون الحكم والسياسة؛ كان لابد للأجيال القادمة من ذاكرةٍ حيّةٍ متقدة، أشبه بشريطٍ فوتوغرافي حسّاس لتسجيل الوقائع عليه كما حدثت في حينها، أو بطريقة أقرب إلى ذلك، منعا لتكرار ما سبق من خطأ وقعنا فيه وظللنا نقع فيه باستمرار، وثمّ لتأخذ هذه الأجيال حقها الأصيل في أن تعرف تفاصيل الوقائع المفصلية في تاريخ أمتها، لأنّها لا ذنب لها فهي لم تكن حاضرة أو مشاركة فيها أو شاهدة عليها. ولأنّ قصة الثورة لم تكن قصة أيام وشهور انتفضت فيها جموع الشعب وقد سبقته طلائعه الثائرة، ورفضت أن تعود من حيث انطلقت حتى تحقق ما خرجت تصبو إليه وأسقطت الطاغية، وشيّعت نظامه إلى مزابل التاريخ كما ارتفعت الشعارات تشق عنان السماوات يومها؛ لكنّها فوق هذا وذاك؛ فهي قصة شعب خرج يبحث عن مستقبل يتشبث به ويحاول جاهدا ألا يضيع غده من بين يديه كما ضاع أمسه، وكاد أن يضيع حاضره. ومن نافلة القول أنّ حرصنا ليس محاولة لكتابة التاريخ ولا ينبغي لنا إنّما محاولة جادة لقراءته، ثمّ ليس وسيلة لإصدار الأحكام وإنما لتنشيط الذاكرة، ولأخذ العبرة والاعتبار من الذي كان، لنمضي بعيون مفتوحة إلى بناء ما سيكون، ولأنّ التاريخ لا يعيد نفسه كما يقولون ولو عاد فإنه يعود على شكل مأساة أو ملهاة. ما بين 6 أبريل 1985 و6 أبريل 2019 ثمة مشاهد، تحتشد، تلتقي وتتباعد، وفي الاثنتين كانت البسالة والصمود والشجاعة والإقدام والاستعداد للتضحية حاضرة وبقوة، لذا كان اختيار قادة الحراك ليوم السادس من أبريل لتسيير موكب “السودان الوطن الواحد” إلى القيادة العامة، استلهاماً لنضالات الحركة الجماهيرية في أبريل 85، الذي توج بإسقاط نظام السفاح جعفر نميري. لهذا كان الشعب وأبريل في الموعد تماما.. وعندما حانت ساعة الثورة عند الواحدة ظهرًا، تنزّلت الهتافات مطراً حانياً على الرؤوس لكأنها كانت بردا وسلاما من أشعة شمس الخرطوم الحارقة. وفي 6 أبريل 2019 زلزل الثائرون شوارع الخرطوم بسالةً وصمودًا، وتدفقت حشود المتظاهرين في موجات بشرية متتالية في مليونية 6 أبريل، حيث تدافعت الحشود الجماهيرية العريضة صوب مقر القيادة العامة للجيش السوداني؛ للمرة الأولى من بدء مواكب الثورة، فقد كانت دعوات التوجه إلى القصر الجمهوري حاضرةً ومتعاليةً منذ موكب الرحيل الأول في 25 ديسمبر 2018.
وقبلها حبست الخرطوم أنفاسها، وسادت حالة من الترقب والقلق تضاعفت مع ساعة الصفر الأخيرة التي سبقت الموكب التاريخي، الذي انتظرته الأوساط السياسية داخل وخارج السودان للحكم على درجة حرارة الثورة السودانية وقوة تأثيرها. وشهدت تلك الأيام اتساع ظاهرة الكتابة على الجدران، وقصاصات الأوراق على مداخل المنازل والمساجد التي لعبت دوراً فاعلاً في بث الحماس وتحريض الجماهير وتشجيعها على الخروج إلى الشارع للمشاركة في مليونية 6 أبريل. وتبارى أقطاب النظام البائد في التقليل من المليونية، وقبلها اجتهدت محاكم الطوارئ التي طفقت تحاكم الثائرين وإرسالهم للسجن سراعا لكسر شوكة النضال وتشتيت جهود الثائرين؛ لكن هيهات هيهات.
(2)
في اليوم الموعود السبت 6 أبريل 2019 تقاطرت حشود الثائرين إلى وسط الخرطوم منذ وقت مبكر بعد أن تواثق الثائرون والثائرات جميعا، على وقف مواكب الأحياء. ولعبت لجان المقاومة دورا مفصليا في الإبقاء على جذوة الثورة مشتعلة. فبعد الضربات المتتالية لمواكب السوق العربي التي بلغت ذروتها بضربة موكب 17 يناير 2019، حيث اعتقل مئات الثائرين والثائرات من وسط السوق العربي إلا أن “بُري” كانت حاضرة وشكّلت الدماء الذكية، للدكتور بابكر والمهندس الفاتح النمير التي انسكبت في ذلك اليوم فداءً لاستمرار الثورة. بعد تلك الضربة الموجعة ظنّ النظام أنّ الثورة إلى زوال. لكن عبقرية شعبنا رجعت بالثورة إلى جذورها؛ إلى الأحياء والقرى والفرقان، ولمّا استوت على سوقها وقوي عودها عادت إلى المركز بقوة لتضرب النظام في مقتل. إنّ قصّة بناء لجان المقاومة تحتاج إلى فصل كامل للحديث عنها.
وفي محاولة يائسة لاستعادة السيطرة على الموقف شنّت قوات الأمن والشرطة حملة اعتقالات شعواء لصد جحافل الثائرين والثائرات، وبدأت الاعتقالات في شارع الجامعة وفي السوق العربي وطالت معظم المارين سيّرًا على الأقدام. كما أغلقت القوات الأمنية كوبري المك نمر والنيل الأزرق أمام وسائل النقل العام لتقليل تدفق الحشود القادمة من الخرطوم بحري قبل بدء الموكب؛ لقطع الطريق أمام السيول البشرية من عبور الكباري والوصول إلى وسط الخرطوم لأنّ ذلك يعني سقوط النظام فعليا، على غرار ما حدث في 6 أبريل 85. لكنّ بسالة الثائرين وإصرارهم أفشل خطط النظام الأمنية، وتفوق الثائرون على الأجهزة الأمنية والشرطة في عمليات التمويه والتكتيك، وأفلحوا في الإفلات من شراك الأمن، ونفذوا موكبا أسطوريًا ستتحدث عنه الأجيال القادمة سنين عددًا وسيقف عنده التاريخ طويلا بالفحص والدرس.
وانطلقت مواكب المليونية عند الساعة الواحدة ظهرًا بالزغاريد والهتاف، ورفعت الأعلام واللافتات دون خوف أو وجل من “تاتشرات” الأمن التي ظلت تهاجم بشراسة وأمطرت الرؤوس بوابل من قنابل الغاز المُسيِّل للدموع؛ لكنّ ثبات وبسالة الثائرين أفسدا خطة الأمن والشرطة التي اعتمدت على تشتيت المواكب وقطع الطريق أمامها حتى لا تلتحم ببعضها بعضا.. لكن هيهات..
تعاملت الشرطة الأمنية بوحشية مُفرطة مع الثائرين في وسط الخرطوم، وقطعت الطريق أمامهم لمنعهم من العبور من شارع المك نمر إلى شارع السيد عبدالرحمن، حيث أغلق أفرادها المدججون بالسلاح والعصي والهراوات شارع المك نمر قبالة السفارة النيجيرية؛ لكنّ سطوتها تحطمت تماما أمام صمود الثائرين الذين حصبوها بالحجارة حتى اضطرت إلى الانسحاب إلى شارع فرعي، وبدأت في إطلاق قنابل الغاز؛ الأمر الذي تسبب في وقوع حالات إغماء وسط الثائرين والثائرات. وفي حوالي الساعة الثانية ظهرًا التحمت بعض المواكب عند تقاطع شارعي السيد عبدالرحمن والمك نمر وسمح أفراد الجيش الذين أغلقوا الطريق بالأسلاك العازلة وناقلات الجنود للثائرين والثائرات بالعبور. غير أنّ الشرطة الأمنية التي ارتكزت قرب المركز الثقافي الفرنسي حاولت قطع الطريق أمامهم مرة أخرى وأمطرتهم بوابلٍ جديد من قنابل الغاز لكّن الثائرين حصبوها مرة أخرى وأجبروها على التراجع أيضا. بعدها انفتح الطريق تمامًا أمام الوصول إلى القيادة العامة حيث تدفقت حشود بالغة الضخامة، وامتلأ المكان بالكامل حتى شارع الجامعة شمالا وحتى نمرة “2” جنوبا كما أغلقت الجموع شارع المطار، وهتفت طويلا هناك وتساقطت الدموع غبطة بالخطوة الأسطورية التي تحققت بعد طول انتظار. ولم تتوقف قوات الأمن والشرطة التي ضربت طوقا على المكان عن إطلاق قنابل الغاز المُسيّل للدموع بغزارة لتفريق المعتصمين أمام مبنى القيادة العامة، وتتالت هجمات النظام البائد لفض الاعتصام بضراوة في أيامه الأولى لكن تحطّمت كلها تحت بسالة وصمود المعتصمين الذين أظهروا شجاعة غير مسبوقة في التصدي لتلك الهجمات. والمتاريسُ ترتفعُ في المكانِ، وحولَها “حرَّاس المتاريس”؛ “جنودُ الثورةِ المجهولون”، يتلقونكَ بوجهٍ طلقٍ، وهم يغنونَ بكلماتهم التي صارت أنشودة: “ارفع يدّك فوق والتفتيش بالذوق”.. “ارفع يدك حبّة والتفتيش بمحبّة”.. “ارفع تاني حبة والتفتيش في ثواني”.. “موبايلك في يدّك كيزان حرامية”.. ولم يهدأ الكيزانُ ومجلسُهم الانقلابي ومليشياتُهم، حتى سرقَتْ أرواحَهم البهيّة. كان الثائرون والثائرات دائماً حذرينَ من الغدر، ويعرفون أنّهم أمامَ عدوٍّ لا يؤمَنُ جَانِبُه، وقد رأوا غدره فجر السابع والثامن والتاسع من أبريل، وفي مجزرة (8) رمضان، ثم ذروة الغدر بمجزرة (3) يونيو.
3) )
عودا على بدء في تذكر مليونية 6 أبريل 2019 فقد لجأ الثوار إلى تكتيكات الأحياء وسدوا الشوارع بالحجارة والحواجز الإسمنتية لشل حركة عربات الأمن التي تناصب الثائرين العداء منذ تفجر الثورة، بجانب عربات الشرطة الأمنية التي أظهرت صورة شديدة العداء للتظاهرات السلمية ولم تتوقف عن مطاردة الثوار. هذا وقد اعتقل آلاف الثائرين والثائرات قبل وأثناء الموكب، واقتيدوا إلى مقار أمنية، حيث قضوا ساعات طويلة رهن الاعتقال قبل أن يتم ترحيلهم إلى سجن الهدى غربي أمدرمان.
ويعد موكب 6 أبريل 2019 الأعلى في إحصائية المعتقلين؛ الأمر الذي يدحض فرية أنّ جهاز أمن النظام البائد تواطأ لإفساح الطريق أمام دخول الثائرين إلى ساحة القيادة. ولعلّ استخدام الثائرين لاستراتيجية “الموجات البشرية المتتالية” أفلحت في كسر الطوق الأمني، وشل وإرباك وتشتيت حركة القوات الأمنية للنظام البائد. وهجوم الموجات البشرية مصطلح عسكري، ويعني تكتيكا هجوميا يقوم على أساس حشد قوات المشاة على نقطة دفاعية للعدو؛ اعتمادا على الكثرة العددية بغض النظر عن الخسائر المحتملة، ويتم الهجوم بشكل جبهوي عن طريق دفع موجات بشرية متتالية لإرهاق قوات الخصم المدافعة، واستنزاف القوة النيرانية للعدو، مع إنزال الخسائر به، واكتشاف نظامه الدفاعي والنيراني ونقاط الضعف التي يمكن استغلالها، ثم دفع موجات جديدة من المقاتلين إلى الاختراق وتدمير العدو، الذي يصبح غير قادر على مواصلة القتال”. لذا يمكن اعتبار أنّ مليونية 6 أبريل كانت حركة التفاف رائعة أظهرت عبقرية التخطيط وقوة وثبات الجماهير التي نفذت الخطة تحت وطأة الضربات والاعتقالات والمطاردات التي استمرت بلا هوادة.
موكب 6 أبريل أظهر مدى تماسك اللحمة الوطنية بين أفراد وقيادات الشعب السوداني الذي اعتصم أمام مقر “القيادة العامة للجيش السوداني” بمختلف فئاته، وأعماره شيبا وشبابا؛ رجالا ونساءً، وكان لافتًا تجاوب بعض ضباط الجيش وأفراده مع الشعب الثائر؛ ورصدت مشاهد عدة لبعضهم وهم يذرفون الدموع ويتبادلون الأحضان مع الثائرين عند وصول طلائعهم إلى بوابات القيادة العامة باحتفاء غير مسبوق؛ ما أكسب الموكب زخمًا بطعم مختلف، مفاده أنّ الجميع شُرقٌ بحب الوطن. وفيما بعد ومن وحي تلك الأجواء المفعمة صكت شعارات: “الجيش جيشنا.. نحن أهله وبنستاهله”.. “الجيش جيش السودان.. الجيش ما جيش كيزان”.. وفيما بعد شكلت بسالة النقيب حامد ورفاقه في رد عدوان كتائب النظام البائد ضد الثائرين فجر السابع من أبريل؛ علامة فارقة، وتحوّل النقيب حامد إلى رمز لما ينبغي أن يكون عليه شرف الجندية في الدفاع عن الشعب في ظل تخاذل كبار الضباط في الانحياز إلى الجماهير وصد العدوان عنهم. تدفُّق الثائرين نحو القيادة العامة نهار السادس من أبريل 2019 كان إيذاناً بأنّ النظام انتهى، ولم يتبق إلا الإعلان الرسمي، فتدفقت جموع الثائرين في حشود أسطورية غير مسبوقة لم تشهدها الخرطوم طيلة السنوات الأخيرة، وغصّت القيادة وجميع الشوارع المؤدية إليها بالثائرين والثائرات، وقد خرجوا متسلحين بالجسارة والهتافات الداوية تشق عنان السماء: “رص العساكر رص.. الليلة تسقط بس”.. وقد سقط الطاغية وإلى الأبد.
المصدر من هنا