معبر المقينص:لؤي عبدالرحمن
من رأى ليس كمن سمع، عبارة خلدت وصدقت وتجسدت في الزيارة، التي قامت بها آخر لحظة للمناطق الحدودية مع دولة جنوب السودان، لتفقد أوضاع اللاجئين الذين هربوا من جحيم الحرب ورهق المجاعة، إعدادهم بالآلاف ووجهتهم الأراضي السودانية التي غادروها طوعاً إبان الانفصال، ليعودوا إليها مكرهين، فاقدي المأكل والمشرب، يرتدون ماتيسر لهم من الملابس، أجسامهم هزيلة وسيقانهم لا تقوى على السير من كثرة التعب، الذي حل بهم لسيرهم مسافات طويلة على الأقدام، ملامحهم كساها الحزن والأسى وعيونهم تتجول في حيرة، بحثاً عن مستقبل زاهر وأمل في سلام واستقرار، حلموا به في الدولة الوليدة فتحول الى كابوس، كل هذه المشاهد كانت في معبر المقينص بولاية النيل الأبيض، وفي مركز استقبال الوافدين الذي يشرف عليه الهلال الأحمر السوداني، وصلتهم الصحيفة فرحبوا بها وتحدثوا اليها جميعاً دون تحفظ، وكأنهم يقولون إن البلد الأم الذي أتيناها بمثل ثقتنا فيها نثق في أبنائها ونطمئن لهم.
نساء وأطفال
بمنطقة المقينص وقرب الجبل يقبع هناك مركزٌ للايواء المؤقت أقيم لاستقبال اللاجئين الجنوبيين تمهيداً لتوزيعهم على المعسكرات الكبيرة التي يقيمون فيها، وأمام المركز كانت هناك حركة للشاحنات التي تقل المواطنين من أماكن تجمعاتهم على الحدود، وفي داخله توزعت مساكن من الحصير والزنك بأحجام كبيرة تبعثر بداخلها النساء والرجال بصورة يرثى لها، وبالرغم من أننا أتيناهم نهاراً إلا أن الغالبية كانت تغط في نوم عميق، ربما بسبب الإرهاق، فالكثير منهم سار لأيام برجليه فراراً من الموت حتى وصل المناطق التي تتوفر فيها السيارات، أعداد المرضى وسطهم ليست بالقليلة، وغالبية القادمين من النساء والأطفال، ليس لهم أمتعة فلكل واحد وواحدة منهم قصة مع النهب وفقدان الأملاك، وإن وجدت أملاكهم فمبررهم بعدم حملها هو أنهم فقط يريدون النجاة بجلدهم، ولا يستطيعون حمل أي شيء يعيقهم عن الوصول للمناطق الآمنة.
تعاون السلطات
الوصول للمقينص لم يكن سهلاً لولا عون الله ثم التعاون الكبير من السلطات بولاية النيل الأبيض، والتي يسرت أمر الحركة بحرية في تلك المناطق، أما التغطية فكانت صعبة ليس لعدم توفر المواد، وإنما لكثرة قصص المآسي التي يصعب نقلها كلها أو تفضيل بعضها على بعض في النقل، وإن كانت للاجئين حكايات فإن لمن نقلوهم مثلها، فصاحب العربة اللوري (هوستن) يتحدث عن مآسي لم يرَ مثلها ويقول إن أحداً لن يصدقها مالم يرها، فهو بحسب كلامه دخل بسيارته الى عمق الجنوب، ونقل مواطنين من هناك، قراهم مهجورة وبعض الممتلكات من الأثاثات وغيرها في منازلهم لم يأخذوا منها شيئاً، أما الطريق الى السودان فهو مليء بالوافدين مشياً على الأقدام- وفقاً لإفادته التي أخذناها منه- عندما أقل مجموعة كبيرة من المواطنين الى مركز الاستقبال المؤقت بمعبر المقينص.
احتياجات القادمين
في أحد جوانب هنقر كبير مليء بالنساء جلست سهام توفيق وهي محاطة بأطفالها، وبدت صامتة وواجمة، ولأنني عرفت أنها تتحدث العربية بطلاقة اتجهت نحوها، وبعد السلام سألتها عن الأوضاع هناك وحالهم فقالت إنهم أمضوا يومين في الطريق وتابعت (دايرين نقعد كويس)، ونحتاج الموية ومأكولات للشفع، ونقعد في حتة فيها أمان ومافيها طلقة، وأردفت أهلنا هناك قاعدين لكن مافي ضمان تقعد براحتك، لأنك خائف تطلع تشتغل وقلبك مع أبنائك.. أما حال الناس في الشارع فهم تعبانين، والكثير إذا قروشه قصرت يواصل بدون أكل وشرب، وفي الطريق هناك محلات تجد فيها موية لكن الأكل مافي، وختمت بقولها (نحتاج مخيمات والعيال ياكلوا).
خارج هنقر في مركز الاستقبال جلس جوزيف في الظل، والى جانبه عدد من الشباب والمسنين يتفحصون باعينهم القادمين، قال لـ (آخرلحظة) إنه أتى من منطقة واو شلك وأن الطيران الحكومي ضرب مناطقهم، ولم يفرق بين مناطق الجيش والمواطنين، وأن الوضع الاقتصادي سيء هناك، حيث بلغ سعر ربع الذرة 500 جنيه، وتابع حاجتنا تم نهبها حتى الأبقار وأنا خرجت من واور الى كدوك ومعي زوجتي و5 أطفال وجئنا للسودان، لأننا كنا جيران وعارفين الناس هنا، لذلك قدمنا اليهم، أما جونسون اويونج الذي كان بجوار جوزيف فقد قال إنه أتى من منطقة ورجوك غرب وأن أبنائه وصلوا قبله ونقلوا الى أحد المعسكرات، مضيفاً أنه مشى على أقدامه اربعة أيام وأنه لديه 12 بقرة تم نهبها وناس الحكومة يقتلون حتى الأطفال والمسنين، وقال جيئنا للشمال لأن الابن إذا خرج من أبيه يعود إليه، والأب لن ينساه، والشماليون جيراننا حسب تعبيره.. مضيفاً أنهم يحتاجون للحمامات والأغذية والمياه النظيفة غير الملوثة، وإصحاح البيئة.
الهلال الأحمر في الميدان
مشرف مركز المقينص لاستقبال الوافدين التابع للهلال الأحمر السوداني عبدالباقي الصديق قال للصحيفة: إن المركز هو واحد من ثلاثة مراكز بالولاية تضم جودة والكويك، وأن معبر المقينص يربط بين ولايات النيل الأبيض وجنوب كردفان والنيل الأزرق، لذا يأتيه عدد كبير من القادمين وجلهم من قبيلتي الشلك والنوير، وتابع نحن نستقبلهم ونسجلهم في استمارات، ثم نجعلهم يأخذون قسطاً من الراحة، وبعدها نقدم لهم الأغذية والعلاجات اللازمة، ثم نوزعهم على معسكرين، نرسل النوير الى معسكر أم صنقور، والشلك الى مخيم خور الورل، موضحاً أن عدد الوافدين عبر المعبر في اليوم الواحد يبلغ حوالي 334 فرداً، وزاد نهتم بالحالات الخاصة مثل الولادة والرضاعة والمعاقين، وهناك قسم خاص بالتغذية وعيادة، وأحياناً تحول بعض الحالات الى مستشفى المقينص.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة آخر لحظة