جودة.. أول جريمة بعد الاستقلال
تنطوي صفحات التاريخ عاماً بعد عام، والذكرة تأبى أن تمحو ذكرى (جودة) ورفات ضحاياها ترقد بسلام بمقابر شهداء جودة على بُعد عدة أمتار من مدينة كوستي. أعاد العم العبيد موسى، على مسامعي ذكرى ذلك اليوم المشؤوم، وهو يروي بكل دقة تفاصيلها كأنها حدثت بالأمس، واحد وستون عاماً مضت عاماً تلو العام.
قال العبيد وهو يلخِّص عظم المأساة: قضينا أربعة أيام، دون أن تبتل عروقنا بنقطة ماء، والعرق السائل منا يزحف عبر فتحات الباب والمزارعون بالداخل يصرخون دونما استجابة، والحرس بالخارج تجرَّد من كل معاني الإنسانية، لم يُفتح الباب إلاّ بعد أن سكت صراخ من في الداخل.. لكنه سكت للأبد.
تحقيق: زينب أحمد
ملخص الحلقة الرابعة
تناولنا في الحلقة الماضية ردود الفعل السياسي عن حادثة جودة، والتي حرَّكت الشارع العام بصورة مذهلة في كل من: مدني، بورتسودان، عطبرة وكوستي وغيرها من المدن، حيث خرجت المظاهرات تطالب بسقوط حكومة الزعيم الأزهري والتي سيَّرتها النقابات والاتحادات العمالية، إلى جانب البيان الصادر من اتحاد أصحاب المشاريع الزراعية والذي حاولوا فيه التملص من مسؤولية تأخير الحسابات التي رموا بها للشركات المُموّلة، في الوقت الذي أكدوا فيه حرصهم على حل كل مشاكل المزارعين، مؤكدين أن النكبة التي حلت بالمزارعين نكبتهم، لكنه ألقوا باللوم لجهات لم يسموها على أساس أنها من قامت بتحريض المزارعين.
وسكبت البنزين على النار البيان الوارد من اتحاد الطلاب السودانيين من المملكة المتحدة وضح بجلاء التأثير الخارجي للحادثة عالمياً وردود الفعل، منها كما فصَّله الدكتور طه بعشر في بيانه.
تعليمات
بينما كان البوليس يضرب المُتظاهرين بيدٍ من حديدٍ، وقادة الأحزاب ورؤساء النقابات، وألقي بهم في السجون، بقى أولئك الذين اتهموا بالتسبب في أحداث طليقي الأيدي دون مُساءلة، وفيما عدا الحكم بالإبعاد لكل من: الطاهر عبد الباسط، وشاكر مرسال والمرحوم الصحفي محمد الحسن أحمد، على حسب، محمد الحسن العبادي، الذي ورد في الحلقة الأولى من التحقيق، فليس هنالك ما يؤكد صدور أي من الأحكام القضائية في مواجهة المتسببين في الحادثة من رجال
البوليس، رغم أن أصابع الاتهام وقتها أشارت لضابطين من ضباط الصف، بوليس كوستي عثمان محمود، والضابط أحمد غندور، بالإضافة لأحد عشر من الجنود.
ربما هذا الموقوف هو ما دعا الأستاذ عبد الله الحسن المحامي، ليتقدم بطلب تحت المادة (257) من قانون التحقيق الجنائي يرجو من سعادة رئيس القضاء أن يعيد النظر في جميع الأحكام التي صدرت ضد القادة السياسيين الذين أُدينوا
عقب الحادثة، وتقدم رئيس القضاء محمد أحمد أبو رنات، بدوره بطلب يستعجل فيه رئيس القضاء بمديرية النيل الأبيض أن تستعجل إرسال الأوراق المتعلقة بقضاء سجناء مظاهرات كوستي ومدني والحصاحيصا.
رغم القرار الصادر من رئيس القضاء محمد أحمد أبو رنات، باعتقال كل من يثبت اشتراكه في مجزرة كوستي، وقوله: إنّ القضاء لا يفرِّق بين السودانيين، وجّه مدير
المديرية بالشروع فوراً في التحقيق وإيقاف أيِّ مَسؤول تثبت مسؤوليته الجنائية في حوادث عنبر جودة.
لا أحكام
حتى أقف على مصير التحقيق الجنائي الذي دعا له رئيس القضاء وقتها محمد أحمد أبو رنات، ذهبت للقضائية أتلمس بعض المعلومات، لم أجد ما يفيد، وجود ملف التحقيق في القضائية أتاح لي الإطلاع على المجلة والتي تحوي كافة السوابق
القضائية التي فصلت فيها لعام 1956م لم تشملها المجلة، وعلى حسب أحد القضاء بالمكتب الفني، فإنّ القضية ربما فصل فيها لاحقاً أي بعد العام 1956م.
في ذات الوقت كَانَ من الصعوبة الوصول للملف، ما لم يتم التعرف على نمرة القضية، نتيجة لعمليات الحريق التي تشمل الملفات كل خمس سنوات. لم يصبني اليأس، تحركت داخل القضائية أبحث عن إجابة حتى دلني أحدهما بالذهاب للمحكمة العليا، وفي المحكمة العليا أفادني آخر بعدم وجود الملف طرفهم، بقوله: إن المحكمة العليا نفسها أسّست في العام 1973م، وكان قبل ذلك محكمة الاستئناف العليا، نصحت بدورها الذهاب لديوان النائب العام، هناك وعدوني برد، حال أن توفرت لهم معلومة بوجود الملف طرفهم.
سُقوط حكومة الأزهري
في معرض الاحتجاج للعُنف الذي مُورس على المُزارعين، استنهضت الجبهة المُعادية للاستعمار حركة شعبية واسعة قوامها تنظيمات العمال والطلاب والمحامين وغيرهم، كما شملت الصحافة المستقلة، غير أنّ الحكومة الديمقراطية ردّت بالمزيد من (عنف الدولة) على تلك الحركة التي لم تعتمد سوى أسلوب
التعبير الديمقراطي السلمي المعهود، فأقدمت على اعتقال قيادتها، وفي
مقدمتهم رموز الجبهة المعادية للاستعمار ومحاكمتهم جنائياً والزج بهم في السجون.
لقد ترسبت آثار تلك الأزمة في الجانب السلبي للحياة السياسية مما عرض جنين الديمقراطية لإجهاض وهو مازال في شهوره الأولى، فقد انفجرت الصراعات داخل الحزب الوطني الاتحادي الحاكم نفسه، وانتهت باستقالة (21) من النواب
انضموا لاحقاً لحزب الشعب الديمقراطي التابع لطائفة الختمية برئاسة علي عبد الرحمن، وزير التربية بالحكومة القومية، ضم الحزب الجديد كذلك حزب الاستقلال الجمهوري، والذي أسّسه ميرغني حمزة، منافس الأزهري الأول، وضم جناح محمد نور الدين، وزير الحكومية المحلية في حكومة الأزهري، وتوِّج بلقاء السيدين علي الميرغنى والسيد عبد الرحمن المهدي، فصار الزعيم الأزهري مُهدّداً بالسقوط، رغم أنّ الختمية أعضاء في حكومة الأزهري القومية، واضحٌ أنّهم يريدون بالتحالف مع الأنصار إسقاط حكومة الأزهري، وان لم يدوِّن الحزب أن واحدة من أهدافه هي إسقاط الأزهري، ورغم أن حزب الأمة شَريكٌ في وزارة الأزهري القومية بقيادة رئيسه عبد الله خليل، وزير الدفاع بات من المؤكد أن خليل يُفكِّر في إزاحة الأزهري، الذي سبق له وأن انتقد الأزهري في عدد من الأمور، منها أولاً تحالفه مع مصر قبل أن يتغيَّر نحو الاستقلال، ثم ضرب قوات الأنصار في الخرطوم الأول من مارس 1954م.
وثالثاً: حادثة عنبر جودة التي راح ضحيتها عدد مقدر من المزارعين وإشاعة الفساد والمحسوبية.
لكن الشاهد في الأمر أن تولي عبد الله خليل للحكم لم يأتِ فقط من باب
الأخطاء التي ارتكبها الأزهري بقدر ما هو بسبب تحالف طائفي أنصار وختمية، قرّر مُسبقاً وبدلاً عن الحكومة القومية ستكون هنالك حكومة ائتلافية من أحزاب الأمة والشعب الديمقراطي وحزب الأحرار الجنوبي نتيجة لمُحاولاته المستمية لإزحة الأزهري والتي سبقت الاستقلال، وما لبث أن عادت بعد ذلك مما اضطر الأزهري لتقديم تنازلات ووافق على تشكيل حكومة قومية برئاسته كانت حكومة مهتزة واستمرت خمسة أشهر فقط، وبات واضحاً أن رئاسة الأزهري لرئاسة الوزراء صارت معدودة.
اليوم الحاسم
صبيحة يوم 4/7/1956م، بأقلية واحد وخمسين صوتاً ضد ستين صوتاً، سقطت وزارة الأزهري بعد أن صوَّت ضدها نواب الختمية والاتحادي وحزب الأحرار الجنوبي.
صوَّت ضد الأزهري أربعة وعشرون نائباً للأنصار وسبعة عشر نائباً للختمية، وأربعة عشر نائباً لحزب الأحرار الجنوبي وتحالف معهم خمسة من الحزب الجمهوري الاشتراكي.
نضال الكادحين
في العام 1970م واتحاد مزارعي جودة، يعد العدة للاحتفال بالذكرى الـ(14)، قرر عبد الله علي إبراهيم، المشاركة بمسرحيته التي ألفها عن أحداث كوستي المؤسفة، إلاّ أنّ القدر حال دون ذلك للتصادم الذي حدث ما بين الأنصار وموكب الرئيس جعفر نميري (أحداث الجزيرة أبا)، كان من المفترض أن تعرض المسرحية بكوستي على يد عدد من الشباب، إلا أن ما حدث حال دون ذلك، فعرضت في احتفال مصغَّر بدار الثقافة.
وعن أحداث جودة، قال عبد الله علي إبراهيم: دخلت الحكومة ممثلة في البوليس في خُصومة مع المزارعين وأصحاب المشاريع الزراعية، ووقفت إلى جانب المستثمرين ضد المزارعين، أخذت المزارعين لعنبر لم يكن مجهزاَ ليكون سجناً أو مُعتقلاً، فهو عنبر سميات مخصص لتخزين المبيدات والأسمدة، الحادثة ساهمت في امتداد جسور الترابط ما بين المزارعين والنقابات والاتحادات في نضال مشترك شكَّل منعطفاً خطيراً في وحدة ونضال الكادحين.
حكم إداري
مُحمّد يوسف قال: للأسف وقتها كان إسماعيل الأزهري وزيراً للداخلية، ورئيس مجلس الوزراء في ذات الوقت، لذا راحت أرواح أكثر من حوالي (240) دون مساءلة تُذكر بعد أن تم حبسهم في مخزن معد لتخزين الأسمدة والمبيدات لا للبشر، لعدم وجود مكان يتسع لهذا العدد الضخم من المزارعين.
خرجت وقتها العديد من المظاهرات المناهضة لحادثة جودة في كل: من كوستي والنيل الأبيض، وتم اعتقال قيادات المظاهرات من الشباب ونقابات واتحادات العمال وقدموا لمحاكمات كان من ضمن الذين تم اعتقالهم نائب البرلمان حسن الطاهر زروق، ورئيس نقابات عمال السودان، وعم السخط والغضب وعدم الرضاء بسياسة الحكم الوطني، الشارع العام، فيما قدمت الحكومة أحد أفردها – البوليس – لمحكمة صورية تنصَّل فيها عن
مسؤوليته عن الحادثة، ويبدو أن المحكمة كانت إدارية، ولم تكن جنائية، فيما تمت محاكمة المحتجين ووضعهم في السجون واعتبروهم متمردين، ومن أشهر الذين تمت محاكمتهم الأمين محمد الأمين وعبد الرحمن الماحي ومحمد سالم رئيس اتحاد المزارعين وحسن الطاهر زروق، وتم فيما بعد إبعادهم من كوستي، وكانت وقتها كوستي تابعة لمديرية النيل الأزرق وعاصمتها ود مدني، كانت المنطقة تابعة للأنصار الذين كانوا في الأصل معادين لإسماعيل الأزهري، مما عجَّل برحيل حكومة إسماعيل الأزهري بعد تضامن الختمية والأنصار الذين جاءوا بعبد الله خليل رئيساً لمجلس الوزراء ولم يتم تعويض المزارعين، كان تعويضهم الوحيد قصيدة صلاح إبراهيم (عشرون دستة).
عشرون دستة
لو أنّهم….
حزمةُ جرجير يُعدُّ كيْ يُباعْ
لخدم الإفرنج في المدينة الكبيرة
ما سلختْ بشرتهم أشعةُ الظَّهيرة
وبان فيها الإصفرارُ والذبول
بل وُضعِوا بحذرٍ في الظلِّ في حصيرة
وبلَّلتْ شفاههُمْ رشَّاشَةُ صغيرة
وقبّلتْ خدودهم رُطوبةُ الإنْداءْ
والبهجةُ النَّضيرة
تحدى الأزهري طائفتي الختمية والأنصار، فتحالفا ضده واسقطاه مع عبد الله خليل، انتقل الثقل السياسي من المدن إلى الأقاليم، لكن نجح الأزهري في البقاء حتى رفع علم السودان (اشترك معه محمد أحمد
محجوب زعيم المعارضة).
وبعد الاستقلال عادت المحاولات، واضطر الأزهري لتقديم تنازلات. ووافق على تشكيل حكومة قومية برئاسته.. كانت حكومة مهتزة واستمرت خمسة أشهر فقط، دخلها عبد الله خليل رئيس حزب الأمة وزيراً للدفاع. وكان فيها نواب الحزب الوطني الاتحادي جناح السيد على الميرغني زعيم طائفة الختمية. وهم داخل وزارة الأزهري، انشقوا عن الحزب الوطني الاتحادي وأسسوا حزب الشعب الديمقراطي.
وصار واضحاً أن أيام الأزهري في رئاسة الوزارة صارت معدودة:
يوم 4-7، بأقلية واحد وخمسين صوتاً ضد ستين صوتاً، سقطت وزارة الأزهري في صوت ثقة، بعد أن صوَّت ضدها نواب الختمية والاتحادي وحزب الأحرار الجنوبي.
هذا تحوُّل تاريخي وعقائدي وجغرافي، لأنّ جهاز الحكم انتقل الآن من المدن إلى الأقاليم.
صوَّت ضد الأزهري: أربعة وعشرون نائباً للأنصار، وسبعة عشرة نائباً، للختمية، وأربعة عشر نائباً لحزب الأحرار الجنوبي. وتحالف معهم خمسة من الحزب الجمهوري الاشتراكي والمُستقلين.
لكن، ربما لا يجب تضخيم قوة الختمية والأنصار.
كانت جملة أصواتهم واحد وأربعون، مقابل واحد وخمسين للأزهري. لهذا يظل الأزهري وهو في المعارضة، يقود أكبر حزب في السودان.
يمكنك ايضا قراءة الخبر في المصدر من جريدة التيار